بعد نحو عشر سنوات من المفاوضات المتواصلة، التي انخرطت فيها مصر مع جيرانها في جنوب السودان وإثيوبيا، بشأن التقاسم العادل لمياه نهر النيل والحفاظ على المصالح المشتركة بين الأطراف الثلاثة من خلال إبرام اتفاق يحكم عملية ملء خزان سد النهضة الإثيوبي وقواعد تشغيله، وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، مع إصرار إثيوبيا على البدء بملء السد بشكل أحادي الجانب خلال موسم الأمطار في يوليو (تموز) المقبل دون توقيع أي اتفاق ملزم، وهي خطوة تعتبرها مصر غير مقبولة وغير قانونية.
وشهدت الأيام الأخيرة الماضية لغة متصاعدة بين الطرفين، ففي تعليقات صحافية الأسبوع الماضي، قال وزير الخارجية الإثيوبي غيدو أندارغاشيو، "ليس من الضروري التوصل إلى اتفاق قبل البدء في ملء السد"، مؤكداً "أن أديس أبابا ستبدأ عملية التعبئة في موسم الأمطار المقبل".
واتهم الوزير الإثيوبي مصر بالتلاعب السياسي والسعي للسيطرة على نهر النيل، في حين رد نظيره المصري سامح شكري معرباً عن أسفه "للنبرة العدائية والعدوانية من الجانب الإثيوبي في الوقت الذي تسعى فيه القاهرة إلى حلول سياسية ومفاوضات وأرض مشتركة".
ولجأت مصر، أخيراً، إلى مجلس الأمن الدولي، التابع للأمم المتحدة بموجب المادة 35 من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يتيح لأي دولة أن تنبه مجلس الأمن بأي موقف قد يؤدي إلى احتكاك دولي، أو من المحتمل أن يُعرض السلم والأمن الدوليين للخطر. وفي خطابها لمجلس الأمن، اتهمت الخارجية المصرية إثيوبيا بانتهاك القانون الدولي، بما في ذلك اتفاق إعلان المبادئ، الذي وقعته مصر والسودان وإثيوبيا في 23 مارس (آذار) 2015.
وتراجعت إثيوبيا عن اتفاق إعلان المبادئ الذي يلزم الدول الأفريقية الثلاث بالتوصل إلى اتفاق بشأن المبادئ التوجيهية لملء السد وتشغيله، حيث أبلغت مجلس الأمن رسالة في 14 مايو (أيار) الماضي، تفيد بأنها "ليس لديها الالتزام القانوني بالسعي للحصول على موافقة مصر لملء السد". وتنص المادة 5 من إعلان المبادئ، على أنه يتعين على الدول الثلاث التوصل إلى اتفاق بشأن قواعد ملء وتشغيل السد، الذي تبلغ سعته 6 آلاف ميجاواط قبل البدء في عملية ملء الخزان لتجنب الإضرار بمصالح دول الجوار.
وتعول مصر على الموقف الدولي في التوصل لحل للقضية، وهو ما أكده الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، قائلاً، في خطاب السبت الماضي، إن اتجاه مصر إلى مجلس الأمن الدولي، جاء من أجل الحفاظ على التفاوض وفق المسار الدولي والدبلوماسي والسياسي حتى النهاية.
وفي موقف لافت، غرد ديفيد مالباس، رئيس البنك الدولي، على حسابه بموقع تويتر، الخميس، داعيا إثيوبيا إلى أن تحافظ وجيرانها على حوار بناء وتعاون مشترك بشأن تقاسم المياه، وهي التغريدة التي جاءت عقب حديثه مع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بشأن دعم مادي يبلغ 250 مليون دولار من البنك الدولي لأديس أبابا لمساعدتها في مواجهة تداعيات جائحة كورونا.
وفي اليوم السابق، غردت وكالة الأمن القومي الأميركية على حسابها قائلة، "إن 257 مليون شخص في شرق أفريقيا يعتمدون على إثيوبيا لإبداء قيادة قوية، وهو ما يعني التوصل إلى اتفاق عادل. لقد تم حل المشكلات الفنية، وحان الوقت لإكمال اتفاق سد النهضة قبل البدء في ملئه بمياه نهر النيل".
الموقف الدولي
في حديثه لـ"اندبندنت عربية" أشار هاني رسلان، رئيس وحدة دراسات السودان وحوض النيل بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بالقاهرة، إلى أن الموقف الدولي المعلن يتفق مع الموقف المشترك لمصر والسودان برفض أي تصرف أحادي إثيوبي دون اتفاق شامل، مما يقوي ويصب في صالح الموقف المصري السوداني. ولفت إلى أن البنك الدولي هو أعلى جهة في العالم مختصة بقضايا المياه، معتبراً تغريدة مالباس نوعاً من الضغط والتلويح بورقة المساعدات المالية.
وطلبت مصر من مجلس الأمن سرعة النظر بشكواها في إطار بند جدول الأعمال المعنون بـ"السلم والأمن في أفريقيا"، إذ يضع مجلس الأمن أجندة شهرية لمناقشة القضايا الدولية المختلفة، كما يمكنها عقد جلسة طارئة في حالة الأزمات الملحة. واستندت مصر إلى المادة 35 من ميثاق الأمم المتحدة المتعلقة ببند ثابت تحت عنوان حفظ السلم والأمن في أفريقيا.
وأوضح أيمن شبانة، أستاذ العلوم السياسية ومدير مركز البحوث الأفريقية بجامعة القاهرة، أن مصر ألقت بالكرة في ملعب مجلس الأمن، الذي يمكنه إجراء مشاورات مع الدول الثلاث، وحثها على الدخول في مفاوضات جادة، أو أن يحيل الأمر إلى محكمة العدل الدولية لطلب الفتوى فيما إذا كانت إثيوبيا انتهكت القانون الدولي أم لا، غير أن هذه الفتوى لها حجية سياسية وليست قانونية. ومع ذلك يمكن لمصر أن تستند إليها إذا ما أقبلت على تحركات أخرى قسرية في المستقبل.
وأشار شبانة إلى أن مصر الآن تقيم الحجة ضد إثيوبيا، إذ إنها وقّعت على اتفاق واشنطن نهاية فبراير (شباط) الماضي، واستكملت المسار التفاوضي وفقاً لمسار واشنطن، بينما انسحبت إثيوبيا. كما اتجهت مصر إلى جامعة الدول واستطاعت الحصول على قرار بالتضامن معها، واتخذ الموقف السوداني مساراً معتدلاً عندما رفضت الخرطوم التوقيع على اتفاق مع إثيوبيا يستبعد مصر. ومن ثمّ أصبحت أديس أبابا معزولة لأن كلاً من القاهرة والخرطوم رفضتا التوقيع على أي اتفاقات منفردة، واتفقتا على ضرورة وجود اتفاق مكتوب بضمانات دولية برعاية جهات دولية مثل الولايات المتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي وغيرها.
اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997
وفي تغريدة السبت، اقترح محمد البرادعي، المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، أن تنضم الدول الثلاث إلى اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة "بقانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية"، وقبول اللجوء من خلالها إلى محكمة العدل الدولية باعتبار أن هذا الأمر سيكون مخرجاً قانونياً للخلاف حول سد النهضة ولإثبات حسن النوايا. الاتفاقية التي أشار إليها البرادعي تعود لعام 1997 وهي المعاهدة الوحيدة التي تغطي المياه العذبة المشتركة وتطبق بشكل عالمي.
وبحسب ورقة بحثية، منشورة على موقع الأمم المتحدة، من إعداد ستيفن ماكفري، الأستاذ لدى كلية ماكجورج للحقوق بجامعة المحيط الهادئ، تتضمن الاتفاقية في المادة 7 حكماً رئيساً ينص على "الالتزام بعدم التسبب في ضرر ذي شأن لدول أخرى تشاطر دولة مجرى مائياً دولياً. والتشديد على الوقاية مهم، لأنه غالباً ما يكون من الصعب وقف أو تعديل نشاط ما، بعد البدء به، وقد يكون إصلاح الضرر بعد وقوعه معقداً ومكلفاً جداً، إذا كان ممكناً فعلاً".
وينظر إلى الاتفاقية على نطاق واسع على أنها تدوين للقانون الدولي العرفي فيما يتعلق بثلاثة التزامات على الأقل من الالتزامات التي تجسدها الاتفاقية، وهي الانتفاع المنصف والمعقول، والحيلولة دون حدوث ضرر ذي شأن، والإخطار المسبق بالتدابير المزمع اتخاذها. وبعد أربعة أشهر من إبرام هذه الاتفاقية، استدلت بها محكمة العدل الدولية واقتبست منها في حكمها بقضية مشروع (غابشيكوفو – ناغيماروس)؛ النزاع المعروف بين سلوفاكيا والمجر حول نهر الدانوب.
غير أن رسلان يشير إلى أن توقيع الأطراف الثلاثة على الاتفاقية الأممية لعام 1997 لن يفيد كثيراً. ويرى أن إثيوبيا تضرب عرض الحائط بالقانون الدولي، بل إن موقفها الحالي ضد القانون الدولي بشكل كامل، فهي "تتعامل مع النهر الأزرق وكأنه نهر داخلي، في حين أنه نهر عابر للحدود، وبالتالي هناك ضمانات يكفلها القانون الدولي للدول المتشاطئة على النهر".
يضيف، إن إثيوبيا تتجاهل ذلك بشكل كامل وتتجاهل المبدأ الأساس في القانون الدولي بشأن عدم إلحاق الضرر بالآخرين، وترفض تقديم أي ضمانات أو التزامات ذات صفة قانونية، بزعم العمل بمبدأ السيادة على أراضيها ومنشآتها وهو كلام غير قانوني ومغلوط؛ لأن السيادة على الأنهار طبقاً للقانون الدولي، هي سيادة منقوصة ومشروطة بعدم إلحاق الضرر.
ويشير رسلان إلى أن إثيوبيا رفضت توقيع اتفاق ملزم بشأن قواعد ملء الخزان وتشغيل السد؛ لأنها لا تريد الاعتراف بالقانون الدولي، ومن ثمّ ليس من المنتظر أن توقع أي اتفاق آخر. يقول، "التوقيع لن يغير من الأمر شيئاً، لأنها (إثيوبيا) ظلت تناطح العالم كله بكلام ينتمي إلى مراحل ما قبل الدولة، وكلام يتجاوز كل قواعد العلاقات الدولية. وتتصرف كأنها في غابة تريد فعل ما يحلو لها بغض النظر عن الآخرين، وهذا منهج يحمل الكثير من الأنانية وسوء النية".
قضية (غابشيكوفو – ناغيماروس)
وفي مقال للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، لفت محمد هلال، عضو الفريق المصري في مفاوضات واشنطن حول سد النهضة والأستاذ لدى كلية موريتز للقانون بجامعة أوهايو، إلى تشابهات في قضية غابشيكوفو – ناغيماروس مع قضية سد النهضة. وفي هذه الحالة، نفذت تشيكوسلوفاكيا (التي أصبحت سلوفاكيا بعد انفصال التشيك) من جانب واحد مشروعاً أطلق عليه اسم "الخيار البديل" حول مسار مياه نهر الدانوب، وقد وجدت محكمة العدل الدولية أن هذا الأمر يخالف اتفاقية 1977 مع المجر التي جعلت من مشروع غابشيكوفو – ناغيماروس "نظام تشغيل مشتركاً لا يتجزأ".
وأوضح أن محكمة العدل الدولية لاحظت أنه "صحيح أن المجر، في إبرام معاهدة 1977، وافقت على سد نهر الدانوب وتحويل مياهه إلى القناة الالتفافية. ولكن في سياق عملية مشتركة وتقاسم فوائدها، أعطت المجر موافقتها". كذلك وقّعت مصر، مثل المجر على إعلان المبادئ فقط في سياق أن تعبئة وتشغيل سد النهضة ستتم وفقاً للقواعد المتفق عليها. على العكس من ذلك، حدّت إثيوبيا، مثل تشيكوسلوفاكيا (سلوفاكيا) من خلال التوقيع على إعلان المبادئ، من حرية عملها وتحملت التزاماً بملء وتشغيل سد النهضة وفقاً للقواعد المتفق عليها. ومن ثمّ فإن ملء سد النهضة من جانب واحد سيضع إثيوبيا في وضع مشابه لتشيكوسلوفاكيا، التي لاحظت المحكمة أنها انتهكت القانون الدولي من خلال "تولي السيطرة من جانب واحد على مورد مشترك، وبالتالي حرمان المجر من حقها في حصة عادلة ومعقولة من طبيعة موارد الدانوب".
ويلفت رسلان إلى أن اللجوء لمحكمة العدل الدولية في قضية سد النهضة يحمل تعقيدات لأنه إما أن يتم بموافقة الطرفين، أو يتم تحويل الملف إلى المحكمة من قبل مجلس الأمن، وفي الحالة الأخيرة فإن الرأي القانوني يستغرق وقتاً ما بين عامين لثلاثة أعوام، كما أنه يكون استشارياً وليس ملزماً.
اتفاق جزئي
وتحدث آخرون عن توقيع اتفاق جزئي يتعلق بالملء الأول للسد ليأتي بعد ذلك الاتفاق على نظام التشغيل، وهو ما وصفه شبانة بأنه "إضاعة للوقت"، لأن إثيوبيا تصر على نسف وضرب كل ما يتعلق بالقانون الدولي، وبالتالي لا يوجد ضمان أنها ستحترم أي تعهد مستقبلي.
يضيف أن المفاوضات دخلت مرحلة التعقيد الشديد بتعنت إثيوبيا ورفضها التوقيع على اتفاق ملزم قبل الملء الأول للسد وبشأن نظام تشغيل السد، وما يتعلق بالجوانب الفنية الأخرى، بل إن المفاوضات قد تجمدت بالفعل.
ويشير أستاذ العلوم السياسية إلى أن إثيوبيا طالما أصرت على التنصل من أي اتفاق ملزم يتعلق بالحقوق التاريخية والمكتسبة لمصر، وأصرت على الملء الأول للسد دون الوصول إلى اتفاق. وأعلنت ذلك مراراً وتنصلت من تعريف الضرر الذي يمكن أن يلحق بمصر والسودان ولم تشأ أن تعترف بهذا الضرر الجسيم حتى لا تلزم نفسها بتعويضات مستقبلاً. كما رفضت توقيع اتفاق وأصرت على أنها تريد فقط التوافق بشأن إرشادات متعلقة بالتشغيل بحيث يمكن لها أن تغير هذه الإرشادات بعد ذلك، وتخطر فقط البلدين. ويلفت إلى أن الإخطار لا يشترط الموافقة، ومن ثمّ فإن إثيوبيا تريد بذلك فرض سيادة مطلقة على السد كأنه أنشئ على نهر محلي ينبع وينتهي داخلها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحل العسكري
واعتبر رسلان أن تصريح الرئيس السيسي بأن مصر قادرة على حماية حقوقها ومصالحها المائية بكل الوسائل الممكنة، عبارة دبلوماسية ذات دلالة. ويضيف أن مصر تلتزم الصمت لكن هذا لا يعني التلويح باستخدام القوة وفي نفس الوقت لا يعني أن الخيار غير موجود على الطاولة، فربما تلجأ مصر إلى الحل العسكري بعد فشل كل الجهود السلمية والدبلوماسية بشكل نهائي، ومع ذلك ليس هناك تصريح مصري قط يتحدث عن تدخل عسكري لأن تصريحاً مثل هذا يمكن أن يصب في صالح إثيوبيا، وستوظف هذا الأمر بصراخ وعويل بأن مصر تهددها وأنها دولة معتدية، وفي الوقت نفسه ستسعى الحكومة الإثيوبية لاستخدام ذلك في توحيد جبهتها الداخلية المنهارة والمنقسمة على نفسها.
ورداً على الخطوة المصرية، قال وزير الخارجية الإثيوبي إن بلاده لن تقبل أي اتفاق باسم مفاوضات سد النهضة من شأنه أن ينكر حق إثيوبيا في الاستخدام العادل للنيل أو أي خطط مستقبلية لبناء مشروعات أخرى. وأضاف في تصريحات لوكالة الأنباء الإثيوبية أن أي قوى داخلية أو خارجية لن تمنع إثيوبيا من تحقيق سد النهضة الذي يتم بناؤه بدعم كامل من الإثيوبيين على جميع مستويات الحياة.
واتهم الوزير الإثيوبي مصر بالتلاعب بالمفاوضات الخاصة بالسد كذريعة للحد من حق إثيوبيا في سد النهضة الإثيوبي باسم "التفاوض". وأشار إلى أن إثيوبيا تجري مباحثات لتحديد أولويات سدها الضخم، وأن قضية السد هي جزء واحد من الاستخدام العادل للنيل. "لذا، يجب طرح القضية العامة لاستخدام نهر النيل بناءً على اتفاقية التعاون التي تشمل جميع الدول المشاطئة".