لأسباب شخصية وأخرى وظيفية، انخرط وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مضطراً في المعركة التي أثارها كتاب جون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق، وكذلك فعل موظفون في البيت الأبيض، وعدد محدود جداً من الجمهوريين، بينما غاب كبار قيادات الحزب والمخضرمين منه عن خوض غمار العاصفة التي خيّمت على الرئيس الأميركي دونالد ترمب. فما الأسباب التي دعتهم إلى توخي الحذر والنأي بأنفسهم عن نزال محتدم طرفاه جمهوريان؟ هل لأن المعركة التي تردّدت أصداؤها حول العالم ستنعكس حتماً على حظوظ الجمهوريين في الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة أم لأسباب أخرى معقّدة ومتشابكة؟
عندما تحدث جون بولتون في كتابه الصادر قبل أيام بعنوان: "الغرفة التي شهدت الأحداث، مذكرات البيت الأبيض" عن أن أكثر المخلصين للرئيس ترمب كان يسخر منه خلال لقائه مع زعيم كوريا الشمالية، أدرك الوزير بومبيو أنه المقصود من كلام بولتون، فسارع مرغماً إلى وصف كلمات مستشار الأمن القومي السابق بأنها "أكاذيب ومجرد هراء"، وكان من الطبيعي أن يدافع المتحدثون باسم البيت الأبيض عن الرئيس خلال لقاءاتهم مع الصحافيين، لكن تغيّب كبار الشخصيات المؤثرة في الحزب الجمهوري أو من القيادات الجمهورية في مجلس الشيوخ عن المشهد باستثناء تعليقات موجزة وسريعة، أثار علامات استفهام عدّة عن مغزى هذا الابتعاد.
قليل من المدافعين
من القلائل الذين طعنوا في دوافع بولتون من دون إسهاب، زعيم الأقلية في مجلس النواب كيفين مكارثي الذي صرح بأن المال يدفع عدداً كبيراً من الأشخاص إلى قول أمور كثيرة، وغرد على تويتر بأن الكتاب "يمكن أن يعرّض الأمن القومي الأميركي للخطر"، معتبراً أنه مُروع. كما اكتفى السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام وهو من أكثر المدافعين عن ترمب بالتقليل من أهمية ادّعاءات بولتون، إذ قال إنه وجد صعوبة في أن يأخذ على محمل الجد أي شخص يدّعي أنه شاهد خيانة وعرقلة للعدالة ثم ينتظر كي يتكلم عنها بعد ذلك في كتاب.
أما تيم سكوت وهو السيناتور الجمهوري الوحيد من أصل أفريقي، فقد تمنّى في حديث لشبكة أيه بي سي، لو أن بولتون أدلى بشهادته أمام الكونغرس، لأنه لا يضع نفسه موضع استجواب في الكتاب، مشيراً إلى أن مستشار الأمن القومي السابق ظهر وكأنه يستثمر في طرح الكتاب كي يحقّق مبيعات هائلة، أكثر من كونه يقدم حقائق للناس.
أسباب عدّة
يعزو مراقبون في واشنطن امتناع كبار قادة الجمهوريين عن كفّ الهجمات ضد ترمب في كتاب بولتون بعدما فشل البيت الأبيض في منع نشره، إلى أسباب متداخلة عدّة، منها أن الرئيس ترمب تصدّى بنفسه لما قاله بولتون ووصمه بـ"التلفيق والكذب"، وليس هناك أفضل من الرئيس كي يردّ على ما تناوله الكتاب المكوّن من 592 صفحة، نظراً إلى أنها تتحدث عن وقائع وأحداث لا يعلمها سوى الرئيس ترمب وفريق الأمن القومي وكبار وزرائه، بالتالي كيف يردّ أعضاء الكونغرس وقادة الحزب على أحداث لم يكونوا جزءًا منها، فضلاً عن أنها تتعلّق بالسياسة الخارجية للإدارة الأميركية.
لكن آخرين يقولون إن السبب الحقيقي يعود إلى أن المعركة هذه المرة ليست مع خصومهم التقليديين في المعسكر الديمقراطي، وإنما مع أحد أبرز صقور الجمهوريين الذي يؤيده بعض عناصر وأعضاء الحزب الجمهوري حتى لو ظلّوا صامتين، ومن ثم، فإنّ خوض معركة مع تيار داخل الحزب قد يلحق ضرراً ولو طفيفاً بأطراف المعركة.
أما السبب الثالث الذي يأخذه كثيرون في الحُسبان، أن 23 سيناتوراً جمهورياً من بين 53 في مجلس الشيوخ حالياً، يدافعون عن مقاعدهم في معركة الانتخابات في الثالث من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل ضد الديمقراطيين، وهي معركة صعبة تشوبها مخاطر في عدد من الولايات، ما يهدّد بفقدان الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ وما ستكون له عواقب خطيرة حتى لو فاز الرئيس ترمب بدورة رئاسية ثانية. ومن الطبيعي أنّ من يخوضون معارك انتخابية، يسعون إلى كسب أكبر عدد من الأصوات سواء كانوا من المنتمين للحزب، أو من بين المستقلين الذين يحسمون نتيجة الانتخابات، بخاصة في الولايات المتأرجحة.
تجنب الحرج
ويذهب بعض المتخصّصين في الانتخابات مثل ريتشارد شيرويتز، الأستاذ في جامعة تكساس بمدينة أوستن، إلى اعتبار أن كثيرين من الجمهوريين في الكونغرس فضّلوا تجنّب الحرج والاتهامات بأنهم لا يهتمون بسيادة القانون والمبادئ الأخلاقية والدستور ولا يلتزمونها. فباستثناء السيناتور ميت رومني، انتهك الأعضاء الجمهوريون في مجلس الشيوخ، اليمين الدستورية التي أقسموا عليها خلال تولّيهم منصبهم التشريعي والتي تستوجب الدفاع عن دستور الولايات المتحدة ضد جميع الأعداء، الأجانب والمحليين، حين رفضوا استدعاء بولتون للشهادة أمام الكونغرس في ما يُسمّى بفضيحة أوكرانيا التي اتُّهم فيها الرئيس بأنه ربط بين تقديم مساعدات أمنية لأوكرانيا وبين اتخاذ إجراءات للتحقّق من نجل خصمه السياسي جو بايدن خلال محاولة عزل الرئيس قبل أشهر من صدور كتاب بولتون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويضيف شيرويتز أن الأمر المقلق هو أن عدداً من الجمهوريين لم يكونوا جاهلين بما يجري، ولا شك أن بعضهم كان يعرف قبل وبعد جلسات محاكمة ترمب أن الرئيس يطلب من الرئيس الصيني مساعدته في إعادة انتخابه عبر شراء المحاصيل من ولايات الغرب الأوسط الأميركي، والموافقة على قيام الرئيس الصيني ببناء معسكرات اعتقال للأقلية المسلمة في الصين وغيرها من المخالفات والتصرفات التي تعيق مسار العدالة.
من يتحدى الرئيس؟
ومن الواضح أن عدداً كبيراً من أعضاء الكونغرس الجمهوريين فضّلوا الصمت في ظلّ الانتقادات التي تُوجَّه إليهم بأن ترمب اختطف الحزب واحتجزه رهينة بينما صمت قادة الحزب خشية تهكّمات سيد البيت الأبيض وسخريته منهم عبر تغريداته الخطيرة على موقع تويتر أو خلال المؤتمرات الانتخابية الجماهيرية، ما قد يقضي على مستقبلهم السياسي.
حالة السكوت التي اتّسمت بها مواقف القادة الجمهوريين، بخاصة في الكونغرس، عبّر بولتون عنها بوضوح حين قال في لقاء مع صحيفة واشنطن بوست، إن لدى الأميركيين فكرة خاطئة عن قدرة مستشاري البيت الأبيض على تحدّي الرئيس، مشيراً إلى أن ذلك يبدو عديم الجدوى، وإن اعترف أنه ربما كان من الخطأ عدم تحدّي الرئيس ترمب بقوة أكبر، خلال تولّيه منصبه داخل البيت الأبيض.
ويتّفق جميع من عملوا جنباً إلى جنب مع الرئيس الأميركي أنه ليس بمقدورهم تحدّيه ويفضلون بدلاً من ذلك تأجيل الأمر إلى حين خروجهم من منصبهم، لما يعرفونه عن سرعة غضب ترمب وعدم تردّده في إقالة كل من تحدّاه في السابق، أو أبدى وجهات نظر تتعارض مع ما يراه بشكل متكرر.
تأثيرات سلبية
يدرك قادة الحزب الجمهوري أن كتاب بولتون يمكن أن يحدّ من قدرة ترمب بدرجة ما على حشد مزيد من الناخبين الجمهوريين، بعدما اتهمه مستشار الأمن القومي السابق وهو أحد أبرز صقور المحافظين التقليديين، باستغلال سلطاته مراراً وتكراراً لمحاكمة خصومه وتقويض المصالح الوطنية.
وقد يمثّل ذلك مشكلة بالنسبة إلى الرئيس ترمب نفسه، الذي شاهد بعينه عدداً من الجمهوريين المعتدلين وحتى الإنجيليين منهم ينشقّون عنه، في وقت كان يعتقد أنهم يشكّلون جزءًا أساسياً من قاعدته الانتخابية.
ويرى بولتون الانتخابات الرئاسية هذا العام بمثابة رهان غير مضمون، وإن أعرب عن مخاوفه من أن تأثير ترمب في الناخبين، قد يكون سلبياً حتى لو فاز، بما يكفي لإغراق عدد كافٍ من المرشحين الجمهوريين في مجلس الشيوخ، ممّا سيفقد هؤلاء السيطرة على المجلس الذي يشغلون 53 من إجمالي مقاعده البالغة 100 مقعد.
خسارة بولتون كبيرة
وفيما أوضح بولتون لصحيفة "يو إس إيه توداي" أنه يريد تكريس طاقته لمساعدة الجمهوريين في الاحتفاظ بالسيطرة على مجلس الشيوخ الأميركي عبر لجنتين للعمل السياسي، واحدة يستخدمها لجمع الأموال من المانحين الأثرياء وتقديمها مباشرة إلى مرشحي الحزب الجمهوري، والثانية تستهدف جماعات تمويل الإعلانات السياسية المستقلة وأنشطة الحملة الأخرى، إلّا أنّ مشكلة بولتون تكمن في أن الجمهوريين سيتجنّبون مساندته بعدما استغلّ وقته في البيت الأبيض لانتزاع عقد كتاب بقيمة 2 مليون دولار وتوجيه نقد سيّء لحامل الراية الأول في الحزب الجمهوري وهو الرئيس ترمب.
لقد انتقده الجمهوريون باعتباره ساخطاً على الرئيس، و احتقره الديمقراطيون لأنه لم يشهد طوعاً خلال المحاكمة التي استهدفت عزل ترمب، ما سيجعله منبوذاً من الحزبين حتى عندما يسعى إلى أن يكون لاعباً في الانتخابات المقبلة.
ويعتبر ماتيوس شلاب وهو مستشار جمهوري ورئيس اتحاد الأميركيين المحافظين، أن بولتون أضرّ بالفرص الانتخابية للجمهوريين في الكونغرس في كل الأحوال، إذ كيف يعتقد أنه يستطيع محاولة خنق إعادة انتخاب الرئيس ترمب سياسياً، ومن جهة أخرى يمرّر الشيكات لمحاولة مساعدة المرشحين الجمهوريين في نوفمبر المقبل.
وإذا كان آدم شيف، رئيس لجنة الاستخبارات الذي قاد إجراءات التحقيق في مجلس النواب الأميركي اعتبر أن ما فعله بولتون ينمّ عن جبن وجشع، لأنه امتنع عن الشهادة بينما خاطر آخرون بحياتهم المهنية للإدلاء بشهادتهم، فقد أغضب بولتون الجمهوريين حينما استمر في صبّ الزيت على النار، بعدما ضاعف انتقاداته لترمب في كثير من وسائل الإعلام، مؤكداً أنه لن يصوّت للرئيس الأميركي الحالي في الانتخابات المقبلة، وإنّما سينتخب بدلاً من ذلك مرشحاً آخر من المحافظين لم يحدّده.
في انتخابات عام 2016، جمع بولتون نحو 9 مليون دولار لجماعات تمويل الإعلانات السياسية لدعم المرشحين الجمهوريين المقربين من وجهات نظره المحافظة المتشدّدة، وفقاً لبيانات مجموعة غير حزبية تتتبّع مساهمات الحملات الانتخابية، لكنه لم يقدم في العام الحالي سوى خمسين ألف دولار إلى خمسة من أعضاء الحزب الجمهوري، منهم السيناتور توم كوتون من أركنساس وكوري غاردنر من كولورادو وثوم تيليس من نورث كارولاينا.
وليس من المستغرب أن أعضاء الكونغرس الثلاثة امتنعوا عن التعليق حول كتاب بولتون وما سبّبه من جدل لم ينقطع حتى الآن على الرغم من تمويله لهم وسط حملة انتخابية مريرة وملتهبة.