تنتشر بشكل لافت، ومخيف ظاهرة هروب معظم الفتيات السودانيات من لونهن الطبيعي الأسمر الجميل، إلى لون آخر بين البياض والسمرة، باستخدام كريمات، ومساحيق، وتركيبات وخلطات صيدلانية مستوردة، ومحلية لتبييض لون البشرة، وعلى الرغم من كل المحاذير والمخاطر الصحية قصيرة، وطويلة المدى على الصحة العامة بصورة قد تهدد الحياة نفسها وفق شهادة المختصين، لكن الإقبال عليها يتزايد، واستخدامها يتفشى لدرجة (هوس التبييض) أو ما اصطلح عليه محلياً بـ "الفسخ والجلخ"، ولم تعد الظاهرة قاصرة على الفتيات فقط، بل دخل الذكور أيضاً خط تفتيح البشرة.
تجارة ممنوعة ومزدهرة
أدى الإقبال الواسع للظاهرة، إلى ازدهار تجارة المستحضرات والمساحيق المبيضة في شكل عشوائي في مختلف الأسواق والمحلات، وقال علي يوسف بشير، تاجر الكريمات في إحدى الأسواق الشعبية، لـ "اندبندنت عربية" إن هناك ما يتراوح بين 40 إلى 60 نوعاً من الكريمات موجودة في الأسواق بأشكال صيدلانية مختلفة، تستخدم كمفتّحات للون البشرة، يصل معظمها الخرطوم من مدن غرب السودان عبر التهريب، وأوضح أن الكريمات أصبحت تجارة مربحة ومنتشرة في كل أنحاء السودان، وتباع في العطارات، وأكشاك الخردوات الصغيرة، وتفترش أرضاً على الطرقات، على الرغم من أن معظمها محظور بواسطة السلطات.
تحذيرات ومخاطر حقيقية
من جانبها، حذرت الدكتورة ريلة عواض، استشارية الأمراض الجلدية والتناسلية في تصريح لـ "اندبندنت عربية" من خطورة كريمات التبييض لاحتوائها مركبات كيماوية عالية الخطورة تضر بالبشرة، والدماغ، والكليتين، والكبد، بينما يعتبر التبييض بالحقن الأكثر خطورة، ويمتد أثره الضار إلى كل أجهزة الجسم الحيوية، وأضافت "معظم تلك المنتجات حصلت على التصديق كأدوية، أو مستحضرات طبية رغم كونها غير مستوفية للشروط العالمية المطلوبة لاعتمادها علمياً، وسواء كانت في شكل حبوب، أو حقن، أو كريمات، تنطبق عليها الخطورة ذاتها. مطالبة بضرورة تضافر الجهود لمكافحة هذه الظاهرة من كل النواحي، لمعالجة آثارها الاجتماعية العميقة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في السياق، وصف الطبيب الصيدلي برير مصطفى عبر "اندبندنت عربية" انتشار استخدام مركبات تفتيح البشرة بصورة واسعة وسط الفتيات في الآونة الأخيرة، بأنه مزعج ومخيف. إذ تدخل في تركيبها مجموعة من المواد الكيماوية، والسامة التي يمتصها الجلد بشكل مباشر، وتؤثر على وظائف بعض الأجهزة الحيوية في الجسم مثل الكليتين، والكبد لاحتوائها على الزئبق، أو الكورتيزون، ومواد كيماوية أخرى تُفتِّح البشرة عبر إزالة صبغة (الميلانين) التي تنتج اللون الأسمر، لحماية البشرة من أشعه الشمس، وبإزالتها، يُصبح الجلد مكشوفاً، ما يضاعف من فرص التعرض للإصابة بسرطان الجلد، الذي عادة ما يبدأ ببقعة حمراء صغيرة وسرعان ما ينتشر في كل الجسم.
أضاف مصطفى "جميع مستحضرات التجميل التي تفتح البشرة، تعتبر غير آمنة صحياً، ولا بد من استخدامها عند الضرورة فقط بإشراف الطبيب، ولفترة محددة بمدة العلاج. أما استخدامها بهذه الطريقة العشوائية لمجرد الرغبة في تفتيح اللون فهو يخلّف آثاراً ضارة على المدى القريب مثل التشققات، والتسلخات، والالتهابات الجلدية، إلى جانب الحروق، والتشوهات، وظهور الهالات، والبقع الداكنة على الوجه واليدين".
الضحايا ورحلة العلاج العكسية
في سياق متصل، كشف مصدر مسؤول في مستشفى الخرطوم المتخصص بالأمراض الجلدية والتناسلية، لـ "اندبندنت عربية" عن زيادة ملحوظة في الأمراض الجلدية الناتجة عن استخدام كريمات ومستحضرات تفتيح لون البشرة، التي تحتوي على الستيرويد، والزئبق، والكورتيزون، وغيرها، كحالات التشوهات، والأكزيما إلى اسوداد الجلد، والبهاق والحساسية مشيراً إلى أن الظاهرة أوجدت كثيراً من الضحايا، ممن يطلبن العلاج من آثار الاستخدام المفرط لتلك الكريمات، كحالات التشوهات الجلدية التي تصعب في بعض الحالات معالجتها.
في ذات السياق، اعترفت تقوى، وهي موظفة جامعية غير متزوجة اكتفت بذكر اسمها الأول، وقالت لـ "اندبندنت عربية" عن تجربتها مع كريمات تبييض البشرة، إنها وصلت درجة الإدمان، أو مايعرف بنقطة اللاعودة، إذ لم يعد ممكناً العودة إلى ما كانت عليه قبل استخدامها، وأصبحت كمن هو مكره لا بطل تستمر في استخدامها مع علمها ومعرفتها بمخاطرها، وتكلفتها المرتفعة، التي تستنزف أكثر من نصف دخلها، وبسؤالها عن سبب كل هذه المخاطرة ردت قائلة "بكل أسف أصبحت نظرة الرجال عموماً والشباب على وجه الخصوص، تركّز على اللون كمقياس، وعامل رئيس في اختيار الفتاة المناسبة كزوجة، وقد مشيت هذه الطريق وهي رحلة يصعب الوقوف عند منتصفها، لأن عاقبة التوقف ستكون العودة إلى وضع أسوأ مما كانت عليه بشرتي سابقاً، ولابد من المداومة عليها".
حملات مضادة
من جانبه، ظل المجلس القومي للأدوية والسموم يشنّ حملات، للحد من انتشار مواد تفتيح البشرة وكريمات التبييض، عبر موقعه الإلكتروني، وأصدر قائمة تحظر تداول، وعرض عدد من تلك المستحضرات، تضم أكثر من 12 منتجاً تُستخدم في تفتيح لون البشرة، بسبب احتوائها على مواد محظورة، وصنّف المجلس تلك المنتجات حسب المادة التي تحتويها، إلى ثلاث مجموعات.
وحذر المجلس من استعمال مركبات الكورتيزون ذات الأثر الموضعي المتوفرة في أشكال صيدلانية مختلفة، كالمراهم، والكريمات، والمحاليل التي تستخدم أصلاً كعلاج لأمراض الأكزيما والصدفية، وتعمل على إزالة صبغة الميلانين من الجلد.
وأبدى الأمين العام لجمعية حماية المستهلك، ياسر ميرغني، أسفه الشديد لفوضى ورواج استخدام كريمات تفتيح البشرة والتبييض، على الرغم من المحاذير الطبية، وتصنيفها سبباً رئيسياً للإصابة بسرطان الجلد، وكونها لم تعد في الآونة الأخيرة حكراً على البنات فقط، بل أصبح الأولاد أيضاً لا يجدون حرجاً في استخدامها بصورة كبيرة.
واتهم ميرغني مروجي تلك المستحضرات بالتعاطي مع منتجات مغشوشة، لا تحمل ديباجة التعريف، مع تزوير بلد المنشأ وإخفاء نسبة التركيز في المادة الفعالة المبيضة، بالإضافة إلى ظهور خلطات مجهولة الهوية، وما يزيد الطين بلة، ظهور وانتشار استخدام حقن التبييض في السودان أخيراً على الرغم من أسعارها الباهظة، لكنها وجدت رواجاً كبيراً، واستنكر الأمين العام لجمعية حماية المستهلك، غياب العقوبات الرادعة، وعدم وجود جهة معنية بترخيص أماكن ومحلات التجميل، أو ما يطلق عليهم خبراء التجميل، وحملات الترويج المضللة التي تظهر في القنوات الفضائية السودانية، موضحاً أن الجمعية شاركت مع جهات حكومية مهتمة بحماية المستهلك، في حملات عدة لمكافحة تلك الكريمات في الأسواق الرئيسة.
ثقافة التقليد
عزت الاختصاصية الاجتماعية الدكتورة عالية عبد الله مدني، لـ "اندبندنت عربية" الانتشار الواسع لثقافة تبييض البشرة إلى المحاكاة والتقليد الأعمى، بسبب كثافة التعرض والتأثر بالقنوات الفضائية، وما تروّج له من مفاهيم وثقافة، أدت إلى اهتزاز ثقة الفتيات بأنفسهن، وخلقت نوعاً من عدم الرضا عن البشرة السمراء، مقابل تعزيز مفهوم أن البشرة البيضاء هي الأجمل، ودعت مدني إلى قيام حملات توعوية اجتماعية وصحية لمواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، وحظر استخدام تلك الكريمات خارج الأطر الطبية، ومكافحة تهريبها وتداولها، إلى جانب استلهام مخزون التراث السوداني الاجتماعي، الشعري والغنائي، الذي يجعل من السمراء أيقونة تغنّى بها كثير من كبار المطربين السودانيين مثل أغنية ابراهيم الكاشف "أسمر جميل" التي تقول "أسمر جميل عاجبني لونو، كحل سواد الليل عيونو" التي تغنت بها الفنانة الممثلة السورية زينة افتيموس، و؟أغنية الفنان محمد الأمين "أسمر جميل فتان، فاق حسنه كل حدود" و"أسمر يا ساحر المنظر".