مع كل ذكرى سنوية لرحيل الرئيس الأسبق لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (جنوب اليمن) سالم ربيّع علي، يخوض الرأي العام المحلي جولة من النقاشات المستفيضة حول مسيرة هذا الرئيس المثيرة للجدل، ومع حلول الذكرى الـ42 لرحيله قبل أيام، حظيت معارضته تأسيس الحزب الاشتراكي الماركسي، بالإضافة إلى الشعبية الجارفة التي لم ينلها غيره من رؤساء الدولة الجنوبية السابقة، باهتمام وجدل واسعين في الأوساط الشعبية.
يعد سالـم ربيّع علي وشهرته سالمين (1935-1978) أحد رؤساء اليمن الجنوبي السابقين، كان أحد الثوار ضد الاحتلال البريطاني جنوب اليمن، وتقلّد أدواراً سياسية في الجبهة القومية لتحرير الجنوب حتى تحقّق الاستقلال الوطني، وكان عضواً قيادياً في الجبهة القومية الحاكمة، وبعدها بنحو عام ونصف العام من الاستقلال، تقلّد رئاسة الجمهورية الوليدة.
نبض الشارع
اتّسمت الفترة الأولى للرئيس سالمين بالاندفاع نحو اتجاه الأشتراكية العلمية، فصدر قانون تأميم الشركات والمصارف ثم قانون الإصلاح الزراعي، ووضعت خطط تنموية ثورية، بيد أنه في منتصف السبعينيات حدث نوع من التحوّل التدريجي في توجهات الرئيس، وفي هذا الصدد، يشير الكاتب والمؤرخ نجيب يابلي إلى أن سالمين لم يكن متحمساً للاتجاه نحو الماركسية اللينينية، واتجه إلى تفكير جديد وقناعة مختلفة بأن إقامة العلاقة مع البلدان الاشتراكية لم تجلب إلا مزيداً من المعاناة والتخلّف.
ويضيف يابلي "الرئيس سالمين ارتبط بالواقع ونبض الشارع أكثر من التنظير، ولم يكن يستسيغ المسائل الفلسفية المعقدة التي كانت ديدن معظم الطبقة السياسية الحاكمة في السبعينيات من القرن الماضي، لذا ابتعد عن التوجه الماركسي بعكس معارضيه الذين اُعجبوا كثيراً وتحمسوا لتطبيق النموذج السوفياتي على أرض اليمن الجنوبي، بينما هو أراد التحرّر إلى درجة كبيرة من اشتراكية موسكو، وارتبط بالتجربة الصينية في عهد الزعيم الصيني حينها ماوتسي تونغ ".
ويوضح أن سالمين عمل على تحسين علاقته بدول الجوار العربي وبخاصة السعودية والإمارات ومصر واليمن الشمالي (الجمهورية العربية اليمنية)، وأراد من وراء ذلك تخفيف الضغوط الاقتصادية على بلاده، وخلق علاقة معتدلة مع الدول العربية، لافتاً إلى أن تلك الخطوات غير المتحمّسة للاشتراكية الماركسية، وتأسيس حزب طليعي ماركسي، واغتيال رئيس اليمن الشمالي أحمد الغشمي، كانت مقدمات موضوعية وأسباباً شجعت خصومه في سلطة الجبهة القومية على التخلص منه.
ويخلص يابلي في حديثه بالإشارة إلى الكاريزما الشعبية التي حظي بها الرئيس سالم ربيّع حتى أصبحت حياته البسيطة حديث الناس حينها، فكان أكثر التصاقاً بهم، وكثير الزيارات إلى المصانع والورش الإنتاجية والمدارس والشارع والقرية والصحراء والساحل، متقبلاً شكاوى المواطنين وطلباتهم، وكان لا يملّ من ذلك.
العوامل الخارجية
وفقاً لمؤلف كتاب "الصراع في عدن" للباحث شاكر الجوهري، رفض الرئيس سالمين قرار اللجنة المركزية والمكتب السياسي للجبهة القومية الخاص بإنشاء حزب طليعي من طراز جديد، بدلاً من تنظيم الجبهة القومية.
ويتابع مفصلاً: "بالطبع سالم ربيّع عارض تأسيس حزب اشتراكي، لأنه كان مفهوماً لديه أن هذه الخطوة ستؤدي إلى تكريس القيادة الجماعية للمكتب السياسي واللجنة المركزية على حساب زعامته الشخصية، كما أن فكرة الحزب الطليعي لم تطرح أول مرة في عام 1978، بل كانت محل نقاش طويل منذ سنوات، وتحديداً منذ المؤتمر الخامس للجبهة القومية المنعقد في مارس (آذار) 1972، حيث اتخذ المؤتمر قراراً بتشكيل لجنة متابعة لتأسيس الحزب، وطرحت بعض العناصر فكرة الحزب وديكتاتورية البروليتاريا".
وينقل الجوهري عن عبدالفتاح إسماعيل مؤسس الحزب الاشتراكي اليمني والذي تولى رئاسة الدولة والحزب بعد مقتل سلفه الرئيس سالمين، قوله: "عندما طرحنا فكرة الحزب الجديد، بدأ التفكير من قبل سالم ربيّع علي وجماعته في أي حزب نريد، وما طبيعته، وماهي هويته، هل هو حزب انتقالي، أم حزب وسطي، والغريب أن هذه الاستفسارات كانت صادرة من العناصر الأكثر يسارية في الماضي، إلا أن هذه العناصر المرتبطة بالولاء لسالمين، غيّرت مواقفها المتحمّسة لاحقاً لبناء حزب اشتراكي علمي، إلى الموقف المتشكك والمعاكس".
ويربط إسماعيل بين معارضة سالمين تأسيس الحزب الجديد والتوجهات الخارجية للدولة قائلاً: "وُجهت للرئيس سالمين اتهامات بسياسته الخارجية ومواقفه من المعسكرات الدولية، وبخاصة الخلاف الصيني – السوفياتي، حيث تردّد أنه كان منحازاً إلى جانب الصين، بل وحتى مع الولايات المتحدة الأميركية، ولهذا كان موقف سالمين من الحزب الطليعي يرتبط في الأساس بموقفه السياسي الخارجي من الصراع بين القوى الثورية من جهة والقوى الإمبريالية من جهة أخرى، فقد كان يدّعي الثورية والعداء للإمبريالية، بينما هو في الواقع العملي يمارس مواقف رجعية تجاه الحركة الثورية العالمية ويفضل التعامل مع البؤر الانشقافية في الأحزاب الثورية العالمية التي تعادي الدول الاشتراكية وفي طليعتها الاتحاد السوفياتي".
عوامل موضوعية وذاتية
يصف العقيد المتقاعد أحمد الخضر، الرئيس السابق سالمين بالشخصية الاستثنائية في تاريخ اليمن السياسي، باعتباره يمتلك صفات القيادة الشعبية التي جعلته قريباً من الجماهير.
وقال الخضر الذي كان ضمن فريق عمل سالمين، إن هذا الأخير تميز بصفات البساطة والتواضع والمسؤولية تجاه الشعب، ولذا حظي بشعبية جارفة .
ويتابع مستدركاً: "هذا لا يعني أن الرجل لم يرتكب أخطاء أحياناً، ذلك شيء طبيعي في بلد كانت تسوده الكثير من اضطرابات السياسة وصراعاتها والتأثيرات الخارجية والأيديولوجيات المتعددة، لكن بحسب ما عرفته وعايشته وجدته قائداً فريداً، وربما من أحد عيوبه بساطته المفرطة التي فاقت كل شي".
ويسهب مفصّلاً: "مع أن الرئيس سالمين عاش مرحلة الزخم الثوري الأولى عندما تولى رئاسة الدولة نهاية الستينيات، كان متحمساً جداً للاتجاه الماركسي، إلا أنه في منتصف السبعينيات بدأ يميل عن هذا التوجه، ولذلك لم يكن متحمساً لولادة حزب طليعي كالأحزاب الشيوعية في دول المنظومة الاشتراكية، وهناك أسباب تقف وراء هذا التوجه، فهناك نقطة يغفلها كثير ممن يتحدث عن حقيقة موقف سالمين من الحزب الاشتراكي اليمني، وهي أن الحركة اليسارية اليمنية لم تكن موحدة أصلاً، فكان لها أكثر من تنظيم حركي، ويأتي في مقدمها التنظيم السياسي للجبهة القومية، واتحاد الشعب الديمقراطي ذات الاتجاه الماركسي، وحزب الطليعة الشعبية ذات الاتجاه البعثي، أما في الشمال اليمني فهناك البعثيون والناصريون وكذلك ما سمي الجبهة الوطنية الاشتراكية، وكان يخشى أن يؤدي توحّد هذه الحركات إلى تأجيج أكثر في صراعاتها السياسية والإيديولوجية، كما أن الوضع الاقتصادي الصعب الذي عاشته الدولة من ضائقة مالية، والأخطاء المرتكبة في إجراءات التأميم، و موقف الجوار العربي الذي لم يكن مرتاحاً من توجهات اليمن الديمقراطية، إلا أن الأهم من ذلك علاقته الجيدة بجمهورية الصين الشعبية التي دعمت اليمن الجنوبية بعدد من المشاريع التنموية في عدد من المحافظات، وأهمها مشروع الطريق الإسفلتي الرابط بين عدن وحضرموت، وكانت حينها في خلاف مع موسكو، كل ذلك كانت أسباب موضوعية شجعته على النأي عن السير بالبلد نحو الاشتراكية السوفياتية".
ولم يستبعد الخضر الإشارة إلى الأسباب الذاتية التي تتعلّق بالرئيس سالمين ذاته ورفضه ولادة حزب اشتراكي، ومنها حياة الطفولة والشباب التي عاشها في بيئة اجتماعية ريفية تقليدية لا تتماشى مع الأفكار الاشتراكية، بالإضافة إلى قلقه من أن يؤدي ولادة حزب ماركسي إلى تقليص نفوذه السياسي، ويدفع بأمين عام الجبهة القومية وخصمه عبدالفتاح إسماعيل ليس إلى زعامة الحزب الجديد فقط، بل ورئاسة الدولة والتخلص منه وهو ما حدث بالفعل.