جائحات، أليس كذلك؟ في لحظة ما، تظن أنه بإمكانك الاعتماد على جيريمي كلاركسون كنقطة ارتكاز آمنة في عالمٍ متغير، إذ يدأب على اجترار الرسائل الوضيعة التي تلامس حدود العنصرية والمحتقرة للفقراء، وينتقد الآراء التي تُنادي بها (الناشطة البيئة) غريتا ثانبيرغ، وفجأة، تكتشف فجأةً أنه تغير قليلاً، ولم يعد قادراً على تشمم الرائحة الكريهة التي تصدر منه، بل تجاوز حتى أشد الديمقراطيين الاجتماعيين تطرفاً.
إذ بات يحكي لنا بكل جدية على ما يبدو، إنه سيصوت لصالح فاعل الخير ورمز النخبوية المدينية الكوزموبوليتية، كير ستارمر، بدلاً من بوريس جونسون الذي قد تظن بأنه الشبيه التام لكلاركسون، لكن مع كلمات طويلة ولهجة راقية.
وتلجأ إلى العناية الإلهية، وقد يصل بك الأمر إلى حد التشكيك في أن المواقف اليمينية التي ثابر عليها كلاركسون طيلة العقود الماضية، لم تكن سوى مجرد إيهام وإدعاء، وإن ردود الفعل الصادمة التي أثارها لم تكن إلا ليضمن لنفسه الدعاية التي يحتاجها في تأمين مسيرته المهنية في الإعلام وجني ثروته الطائلة اتكالاً منه على سُذج يتقبلون كل ما يُخبَرون.
وفي السياق نفسه، تمضي مرجحاً أن كلاركسون لم يحب يوماً سجائر "مالبورو" لكنه دخنها لمجرد إغاظة "المنحازين إلى الصحة بتطرف يذكر بالنازيين". ولعله كان يُخفي تحت كل تلك القوالب النمطية الوطنية المنسقة بشكلٍ ممتاز، عالِماً بيئياً ليبرالياً مع سيارة (كهربائية) من طراز "تويوتا بريوس" مركونة في الباحة الخلفية لمنزله.
لا أعلم. من الممكن جداً أن تكون عبارة "كلاركسون يُصوت للعمال" حيلة دعائية أخرى لإشعال موقع "تويتر"، وفق ما حصل بالضبط، إذ لم يلق ذلك المقدم التلفزيوني هذا الكم الهائل من الاهتمام منذ أن تشاجر مع أحد منتجي برنامجه التلفزيوني "توب غير" Top Gear ونعته بـ "...الإيرلندي الكسول"، يومها، أفضت تلك الحادثة الشهيرة إلى وقف تصوير ذلك البرنامج المتخصص بالسيارات السريعة، إلى رحلة أخيرة إلى "قسم الطوارئ والحوادث"، وإنهاء قناة "بي بي سي" عقد كلاركسون على مضض لـ "تجاوزه الخطوط الحمراء" أو في الأقل استهانته بها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى كل حال، لم يُحاول كير ستارمر، صاحب الوجه المربع، كتم فرحته ورضاه عن آخر المنضمين غير المحتملين، إلى صفوف حملته الداعية إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وبدا ستارمر كمن فاز بأسرع لفة زمنية في فقرة "نجم في سيارة معقولة السعر" Star In A Reasonably Priced Car من برنامج "توب غير"، إذ قال "يسرني الحصول على أصوات أكبر قدر ممكن من الناس... أما إن كنتُ سأُغير تسريحتي مقابل كل صوت، فسوف يكون علينا أن ننتظر لنرى".
أترون كيف لعب ستارمر الدور بمهارة عالية؟ لو أن جيريمي كوربن مكانه، لبدا غريباً ومرتبكاً لحصوله على شريك سياسي مقيت في المقابل، أحسن ستارمر صنيعاً، إذ استخف بكلاركسون، إن ذلك أيضاً هو ما توجب على الأمة برمتها فعله منذ سنوات عدة، بدلاً من إعطائها آذاناً صاغية لأفكاره الوطنية المشوهة وقرأتها مقالاته المتوقعة بشكلٍ مرهق في "ذي صن"، بل توجب عليها أن توقف أيضاً بيع كتبه، وآخرها كتاب "ما مدى صعوبة الأمر؟ العالم من منظار كلاركسون-الجزء الرابع".
وفي الآونة الأخيرة، انتشرت صورة لستارمر وهو في طريقه إلى مصنع للجعة وبيده عبوة "برودوغ" الرائجة باسم "بارنارد كاستل أي تيست"، ما يؤكد مرة أخرى روح الدعابة التي يتمتع بها هذا المحامي والمدافع الشرس عن حقوق الإنسان، والتي يستخدمها بحذقٍ أكثر مما يفعله كلاركسون. والأخطر من ذلك أن زعيم العمال الجديد الذي لم يمرّ على تسلمه المنصب أكثر من ثلاثة أشهر، بدأ يتحول إلى لاعب منمق، عبر دفع جونسون بانتظام نحو زوايا وانعطافات محرجة، وكذلك اتخاذه قرارات صائبة على غرار قرار طرد ريبيكا لونغ-بايلي وتأييده لسلوك الطرق القانونية وحدها في إزالة التماثيل والمعالم المهينة بحق أصحاب البشرة السوداء، على الرغم من تعاطفه الكبير مع محتجين "حياة السود مهمة".
واستناداً إلى تلك المعطيات، يُمكن القول إن أفعال ستارمر تنم عن حس قوي بالحصافة وتتناقض بشكلٍ صارخ مع أفعال رئيس الحكومة الحالي، إذ يدرك (ستارمر) تماماً أنه غير قادر على إعادة حزب العمال إلى سدة السلطة من دون أصوات ناخبين مثل كلاركسون، ولذا، نراه يغض الطرف عن عيوبهم من أجل الصالح العام.
في هذه اللعبة، لا يمكنك أن تختار أو تنتقي ناخبيك، ووفق قول لونستون تشرشل رداً على الذين انتقدوا تحالفه مع المجرم جوزيف ستالين أثناء الحرب، "إذا غزا هتلر الجحيم، سأمتدح الشيطان على الأقل في مجلس العموم".
وقد استندَ إلى ذلك التصريح المتفجر ...
© The Independent