دخلت منطقتا النيل الأزرق، وجنوب كردفان منذ عام 1985 في حرب ضد الحكومة المركزية في الخرطوم، قادها بعض شباب المنطقتين تحت مظلة "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بزعامة جون قرنق احتجاجاً على التهميش التنموي والسياسي، ولم تتوقف الحرب إلا في عام 2005 بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل في "نيفاشا" الكينية، التي انفصلت بموجبها دولة الجنوب عن السودان، لكن نظراً إلى عدم مخاطبة الاتفاقية جذور المشكلة في هاتين المنطقتين، فضلاً عن إهمال طرفيّ الاتفاقية تنفيذ البروتوكولات الخاصة بالترتيبات الأمنية، والخلاف بشأن نتائج الانتخابات التكميلية في جنوب كردفان، وانسحاب الحكومة السودانية من الاتفاق الإطاري الذي وقعته مع حاكم ولاية النيل الأزرق آنذاك، مالك عقاري العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، تجددت الحرب في المنطقتين في مطلع يونيو (حزيران) 2011.
وتم أخيراً في إطار مفاوضات السلام الجارية حالياً بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة، برعاية دولة جنوب السودان، التوصل إلى اتفاق يمنح منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، حكماً ذاتياً لامتصاص الغبن التاريخي المتجذر لدى سكان المنطقين، ما اعتبره البعض خطوةً جريئة قد تقود إلى انفصال المنطقتين، كما حدث لدولة الجنوب.
ظلم واضطهاد
تعليقاً على هذا الموضوع، صرح مساعد رئيس حزب الأمة القومي السوداني للشؤون الولائية الدكتور عبدالجليل الباشا لـ "اندبندنت عربية"، أن "قضية جنوب كردفان والنيل الأزرق لا تنفصل عن التحديات، والمشكلات التاريخية التي صاحبت البلاد منذ استقلالها عن المستعمر البريطاني في عام 1956، باعتبار أن ما حدث في هاتين المنطقتين يُعد إحدى إشكاليات أزمة الحكم، كنتاج طبيعي لفشل الأنظمة الوطنية التي تعاقبت على حكم السودان في إيجاد الصيغة المثلى لإدارة التنوع فيه، ما أدى إلى حدوث خلل في التوازن الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بين الأقاليم المختلفة، وبالتالي شعور أبناء المنطقتين بالظلم والاضطهاد، لذلك نشأت حركات مطلبية في ستينيات القرن العشرين، مثل اتحاد عام جبال النوبة واتحاد الفونج، لكن هذا لا ينفي أن نظام الرئيس السابق عمر البشير الذي أطاحته ثورة شعبية في أبريل (نيسان) 2019، كان له القدح المعلى في تفاقم الأوضاع وتأزمها في هاتين المنطقتين لأنه فرض أحادية سياسية وثقافية بقوة الحديد والنار على مجتمع متعدد الأعراق والثقافات في ظل بيئة شمولية نافية للآخر، ومنفردة في الشأن الوطني"، وأضاف "في اعتقادي أن النظام الفيدرالي هو أنسب أشكال الحكم لهاتين المنطقتين بدلاً عن نظام الحكم الذاتي، فالفيدرالية على الرغم مما أصابها من تشويه من قبل نظام البشير السابق، إلا أنها تتميز بإيجابيات عدة أهمها قدرتها على إدارة التنوع، وهو ما اشتهرت به منطقتا جنوب كردفان والنيل الأزرق، اللتان تُعدان من أكثر ولايات السودان تنوعاً إثنياً وثقافياً وعرقياً، لذلك يصعب طرح حكم ذاتي، وتقرير مصير على أساس إثني في هاتين المنطقتين".
وأوضح الباشا أن "صلاحيات الحكم الذاتي محدودة وغير أصيلة، بخلاف النظام الفيدرالي الذي تكون صلاحياته مدرجة في الدستور، ولا يحق للحكومة المركزية التعدي عليها، فضلاً عن أنه معمول به في كثير من دول العالم المتقدمة على رأسها الولايات المتحدة".
وتابع الباشا "مرت منطقتا جنوب كردفان والنيل الأزرق بتجارب عدة في الحكم وفق مسميات مختلفة، لكن ظلت المشاكل تراوح مكانها لأنها كانت حلولاً إسعافية لم يُنظر إليها بعمق، ولم يتم العمل على معالجة جذورها بشكل واضح، لذلك في حال فُرضَت أساليب حكم ليست محل اتفاق كتقرير المصير والحكم الذاتي، فهذا سيقود إلى صراعات ونزاعات ستستمر طويلاً، ويزيد الطين بلة، بخاصة أن المنطقتين تعانيان من مشكلات عدة تتمثل في انهيار البنية التحتية في كل المجالات كالصحة والتعليم، وزيادة حدة الفقر والبطالة، وانتشار الجريمة والسلاح، وسيادة ثقافة العنف والنزاعات الفردية والقبلية". وشدد على أن "نظام الحكم المراد تطبيقه يجب أن ينبع من فكر أهل المنطقة من خلال الحوار والتشاور وفق الآليات المتبعة والمعروفة، وألا يُفرَض عليهم كأمر مسلَم به، بغض النظر عما توصلت إليه صيغة التفاوض". لكنه شدد على أنه "في حال حاولت أي مجموعة أن تفرض الانفصال فإن الغالبية ستقف ضد هذا التوجه، لأنها ترغب بأن تكون المنطقتان ضمن إطار الدولة الواحدة، مع حصولهما على تمييز إيجابي في التنمية نظير ما تعرضتا له من ظلم على مر التاريخ".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
امتصاص الغبن
في سياق متصل، أوضح المتخصص في الحكم المحلي الدكتور صلاح بابكر أنه "دائماً ما يلجأ الناس إلى الحكم الذاتي في حال وجود مشكلة، سياسيةً كانت أو اجتماعية أو اقتصادية في إقليم أو منطقة ما، أظهرت نوعاً من الغبن داخل المجتمع، فيتم منحها هذا النظام الاضطراري والاستثنائي من الحكم لفترة محددة من الزمن لامتصاص هذا الغبن. وتدريجاً تُعالَج المشكلة بعد نيل سكان هذه المنطقة الرضا بأنه تم تمييزهم عن الآخرين". وشبه بابكر الحكم الذاتي بـ"العملية القيصرية"، التي يُلجأ إليها في حال مواجهة متاعب وتعثر منع أطراف الصراع من التوصل إلى اتفاق عن طريق الحوار. وبالتالي يُمنح سكان المنطقة المعنية هذا الحكم كحالة مرحلية يُقصد بها إنصافهم مما تعرضوا له من ظلم أو اضطهاد وغيره من قضايا عدم العدالة الاجتماعية بكل أشكالها وصورها. وأضاف أنه "حسب تجارب دول عدة طبقت نظام الحكم الذاتي، فإن خطورته تتمثل في حال منحه سلطات سيادية، وذلك من خلال الاستقلال بالعلاقات الخارجية، والعملة، والجيش، والأمن، والجوازات والهجرة، والتجارة الدولية، ففي هذه الحالة قد تنمو الرغبة في الانفراد بالسلطة وتزداد أطماع الانفصال، لذلك الضمان الوحيد هو احتفاظ الحكومة المركزية بالقضايا السيادية، على أن تكرس جهودها في معالجة قضايا التنمية والتعليم والصحة والطرق وغيرها من القضايا التي كانت محل تظلم، وستقل تدريجاً حدة الغبن الذي كان مسيطراً على سكان المنطقة".
وزاد بابكر "في اعتقادي أن السبب الرئيس وراء منح منطقتَي جنوب كردفان والنيل الأزرق حكماً ذاتياً يعود إلى غبن تاريخي أوقد جذوة الظلم والشعور بالتهميش مقارنةً بالمناطق الأخرى في شرق وشمال ووسط البلاد، فمثلاً تُعد ولاية النيل الأزرق من أكثر الولايات إنتاجاً في مجال الزراعة فهي غنية جداً بالموارد، وتعتمد عليها ولايات سودانية عدة، وكذلك في جانب التصدير، لكنها من أكثر الولايات تخلفاً، وهو شعور يلازم معظم سكان المنطقة". لكنه استبعد وجود رغبة لدى سكان منطقة النيل الأزرق في الانفصال، "لأنه مجتمع متصالح ومتعايش ومتصاهر بين قبائله، فضلاً عن عدم وجود نعرات قبلية يمكن أن تؤجج الصراعات وتغذيها لخدمة أجندة سياسية أو خارجية"، لكنه أعرب عن عدم اطمئنانه "لسكان منطقة جنوب كردفان، وواقع المشهد السياسي والأمني في هذه المنطقة، وما خلفه النظام السابق من تراكم أخطاء قد تقود إلى أطماع وضغوط للقبول بتقرير المصير،إذا لم تعالج كل القضايا بحكمة وحنكة تعيد الثقة إلى أهالي المنطقة، وإلحاق "الحركة الشعبية لتحرير السودان - جناح عبد العزيز الحلو" بركب السلام، بخاصة أنها تسيطر عسكرياً على جزء كبير من المنطقة".
موقع المنطقتين
تقع ولاية جنوب كردفان في منطقة السافنا الغربية للسودان في مناطق الحزام الساحلي المداري من الكرة الأرضية، أي في جنوب أواسط السودان قبل أن تصبح منطقة الجنوب الجديد بعد انفصال دولة جنوب السودان، وتبلغ مساحتها 82000 كيلومتر مربع، وعدد سكانها 2.500.000 نسمة بحسب إحصاء سكاني أُجري قبيل انتخابات عام 2011. ويسكن الولاية أكثر من 24 مجموعة قبلية تأتي على رأسها قبائل النوبة، والحوازمة، والمسيرية، وأولاد حميد، وكنانة، والكواهلة، والفلاتة، والبرنو، والبرقو.
وتقع ولاية النيل الأزرق في الجزء الجنوبي الشرقي من السودان، وتُقدر مساحتها بنحو 45.844 كيلومتراً مربعاً، وعدد سكانها بحوالي 1.2 مليون نسمة. وتشكل قبائل الفونج، والانقسنا، وفازوغلي، والبرتا، والقمز، والبرون، والرقاريق، والجمجم، والكدالو، والأدوك، والهمج الأفريقية، العدد الأكبر من سكانها، إلى جانب بعض القبائل العربية والإثنيات المشتركة مع دولة جنوب السودان، والمناطق الطرفية من دولة أثيوبيا.