بعد انزلاق البلاد إلى الابتذال لفترةٍ من الزمن، كما حصل مع "حافلة بوريس" في لندن، بقي الناس في حال انتظار على امتداد السنة كي يحصلوا على مادةٍ إخبارية تتعلّق بالقرصنة الروسية في المملكة المتّحدة، ثم فجأةً ظهرت ثلاث موادّ دفعةً واحدة، الأولى ترتبط بلقاحات مرض "كوفيد - 19"، والثانية بانتخابات العام 2019، والثالثة قريباً تتعلّق بنتائج التحقيق في استفتاء الخروج البريطاني من الاتّحاد الأوروبي الذي أجري في العام 2016.
هل هي مصادفة محض؟ قد لا تبدو كذلك على الإطلاق. لكن يُفضّل في الواقع، بصرف النظر عن العامل المشترك بينها المتمثّل في أن عملاء نظام قطّاع الطرق التابع للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، سواء كانوا مسؤولين رسميّين أو غير رسميّين، هم مسؤلون عمّا حدث، أن نتعامل مع التطوّرات الثلاثة كلٍّ على حدة، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة وضعها في السياق المناسب.
فبعد محاولةٍ فاشلة من جانب رئاسة الوزراء في "داونينغ ستريت" للتلاعب برئاسة "لجنة الاستخبارات والأمن" ISC البرلمانية المستقلّة، وافق رئيسها الجديد جوليان لويس والأعضاء الآخرون التابعون لمختلف أحزاب البرلمان بالإجماع، على نشر التقرير الذي تأخّر صدوره، عن التورّط الروسي في الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي الذي أجري في العام 2016. ولا شكّ في أن كبار المسؤولين في الحكومة الراهنة - رئيس الوزراء بوريس جونسون وكبير مستشاريه دومينيك كامينغز والوزير مايكل غوف المسؤول عن الإعداد لـ "بريكست" - كانوا من الشخصيات البارزة في صنع القرار في تلك الحملة المثيرة للجدل.
وقد ظهر بعد ذلك بوقت قصير موضوعان آخران عن القرصنة الروسية. فقد كشف وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب، أن بعض "اللاعبين الرئيسيّين" في روسيا ساهموا في "تضخيم" أثر وانتشار التقارير المسرّبة عن المحادثات التجارية بين المملكة المتّحدة والولايات المتّحدة الأميركية. وبرز على وجه الخصوص تنويه شديد الأذى، على أنه كان هناك إصرارٌ من جانب الشركات الأميركية والمفاوضين التجاريّين الأميركيّين، على فتح السوق الواسعة للأدوية والعلاجات الطبّية التي تديرها هيئة "الخدمات الصحّية الوطنية" NHS في بريطانيا أمامها. التسريب نُشر على محرّك Reddit الأميركي للدردشة والمناقشات الاجتماعية، ولم يتوانَ حزب "العمّال" البريطاني المعارض عن استغلاله والاستفادة منه بشكلٍ كبير.
أما الموضوع الثاني فيتعلّق بقراصنة الكمبيوتر الروس مثل "كوزي بير" Cozy Bear وغيرهم، الذين سعوا إلى التقصّي عن الجهود التي يقوم بها الغرب لتطوير لقاح لفيروس "كورونا"، بهدفٍ واضحٍ وبديهي يتمّثل في "سرقة تركيبة هذا اللقاح".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع أن مجمل الأنشطة الروسية في هذا الإطار قد تكون فظيعةً فإن كلا التحرّكين الأخيرين لم يبدآ إلا بعدما أتمّت "لجنة الاستخبارات والأمن" البرلمانية تقريرها عن التورّط الروسي في استفتاء المملكة المتّحدة. وقد يكون ظهور هذه الأخبار الآن بمثابة محاولةٍ لتشتيت الانتباه بهدف صبّ مزيدٍ من الطين في مياهٍ هي معكّرة أصلاً، ما يعني ضمناً أن الروس هم سعداء بمساعدة أيّ من الجانبين في حملةٍ انتخابية معيّنة، وباختراق جميع أنواع الأنظمة الإلكترونية الغربية بشكل اعتيادي، وليس بالضرورة دائماً لمساعدة بوريس جونسون وأصدقائه. وبالتالي، فإن التدخّل الروسي في موضوع المغادرة البريطانية للاتّحاد الأوروبي، يمكن أن يُدرج في سياق أوسع وأكثر حيادية، كما أن أيّ مزاعم بالتواطؤ تكون قد فقدت صدقيتها.
ستّتضح لنا الصورة بالتأكيد عندما تظهر نتائج التقرير (الفعلية) خلال الأيام المقبلة. لكن الأمر الجدير بالملاحظة هنا، هو أنه على الرغم من بعض التكهنات المحمومة في هذا المجال، فإنه لم يرشح سوى القليل عن محتويات تقرير "لجنة الاستخبارات والأمن"، المؤلّف من نحو 50 صفحة لم يتمّ تسريبها، وهو واقعٌ مثيرٌ للاهتمام في حدّ ذاته.
ويبدو هذا التحفّظ لمدةٍ طويلة عن نشر التقرير محيّراً في الواقع، في ضوء التصريحات العلنية التي أدلى بها الرئيس السابق للجنة دومينيك غريف. لا بل إن المسألة تعزّز الشكوك في أن المحتوى الذي قد يخرج إلى العلن من شأنه أن يشكّل إحراجاً كبيراً لرئيس الوزراء البريطاني، أو للمقرّبين منه، أو لكلٍ منهم على حدٍّ سواء، وإلا لماذا تمّ الذهاب إلى هذا الحدّ في إخفاء الأمور؟ أما الاحتمال الآخر فهو أن نتائج المراجعة قد تلقي بمزيدٍ من الضوء على علاقةٍ أوسع نطاقاً بين حملة دعاة "المغادرة البريطانية للاتّحاد الأوروبي" (بريكست) والمصالح الروسية، على سبيل المثال اللقاء الذي حصل بين آرون بانكس المؤسّس المشارك لحملة المغادرة والسفير الروسي قبل الاستفتاء، والذي كشف عنه في كتابه The Bad Boys of Brexit . وقد أقُفلت لاحقاً التحقيقات المختلفة التي أجرتها الشرطة البريطانية مع بانكس من دون اتّخاذ أيّ إجراءتٍ أخرى.
وقد أبلغ دومينيك غريف وأعضاءٌ آخرون في "لجنة الاستخبارات والأمن" مجلس العموم، بأن التقرير بات "مهيأ من حيث الإعداد"، في استعارةٍ لعبارة تردّدت منذ السابع عشر من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي عندما تم إرساله إلى بوريس جونسون. ومن المحتمل أن يكون رئيس الوزراء قد سعى إلى الحصول على مزيدٍ من التوجيهات من الوكالات المعنية أو من "مكتب مجلس الوزراء"، في شأن مراجعة التقرير أو تعديله أو إجراء مزيدٍ من التنقيح فيه. وإذا كان الأمر كذلك، فإن أحداً لم يضع الرئيس السابق للّجنة غريف في الصورة.
معلومٌ أن التقرير كانت قد صادقت على نشره جميع وكالات الاستخبارات منذ مدّة طويلة. وقيل لنا إن محتوياته لا تشكّل خطراً على الأمن القومي.
من بين ما يمكن استخلاصه، أن قسماً كبيراً من "التدخّل" الروسي يتعلّق باختلاق "أخبار مزيّفة" ونشرها، وبافتعال مواقف عدائية عبر وسائل التواصل الاجتماعي بواسطة جيوش من الذين يعمدون إلى بثّ رسائل مزعجة أو مسيئة وإنشاء حساباتٍ اجتماعية آلية تدار بالخوارزميات، أشرف عليها الكرملين أو تغاضى عنها، بقصد تعزيز أهداف السياسة الروسية في فصل المملكة المتّحدة عن الاتّحاد الأوروبي. وأفادت إحدى الصحف بأن "لجنة الاستخبارات والأمن" البرلمانية تحقّقت من أن هذا النشاط من جانب موسكو قد حدث فعلاً لكنها لا تستطيع إلا أن تقول إنه كان له تأثير "غير قابل للقياس من الناحية الكمّية"، في نتيجة الاستفتاء المتقاربة (52 في مقابل 48 في المئة كما بات معروفاً).
وزيرة الخارجية في حكومة الظل "العمّالية" إميلي ثورنبيري، كانت قد استخدمت امتياز الحصانة القانونية البرلمانية قبل مدةٍ وجيزة من الانتخابات العامّة في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، للقول إن "هناك تساؤلاتٍ عن طبيعة العلاقة بين سيرغي نالوبين Sergey Nalobin المرتبط بـ "جهاز الأمن الفيدرالي الروسي" FSB و"صديقه المقرّب" رئيس الوزراء الحالي" (بوريس جونسون).
وأضافت ثورنبيري: "هناك أيضاً علامات استفهام تُرسم حول علاقة دومينيك كامينغز كبير مساعدي رئيس الوزراء البريطاني مع الأكاديمي نورمان ستون Norman Stone في جامعة أكسفورد، والأعوام الثلاثة الغامضة التي أمضاها (كامينغز) في روسيا ما بعد الشيوعية عندما كان ما زال فقط في سنّ الثالثة والعشرين، والعلاقة التي يُزعم أنه أقامها مع أفرادٍ مثل فلاديسلاف سوركوف الشخصية الرئيسية التي تقف خلف عرش فلاديمير بوتين. وهناك تساؤلاتٌ أيضاً عن كمية الأموال التي تتدفّق إلى خزائن "المحافظين" من المهاجرين الروس، وعن مصادر الأموال التي دُفعت لحملة خروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي، وعن الأنشطة المثيرة للريبة لمجموعة Conservative Friends of Russia (التي تدعو إلى تعزيز العلاقات البريطانية - الروسية)".
وزير الدولة البريطاني كريستوفر بينشر ردّ على ما تقدّم بأنه "لا يوجد دليل على أيّ مشاركة روسية ناجحة في دورة الانتخابات العامّة في بريطانيا". جدير بالملاحظة أن التعبير الذي استخدمه قد صيغ بعناية، والكلمة الرئيسية التي اختارها تمثّلت في صفة "ناجحة" successful.
الواقع أن التكهّنات بالمحتويات الغامضة لتقرير "لجنة الاستخبارات والأمن" البرلمانية، تكاد أن تكون لا حصر لها، وقد تؤدّي إلى إثارة مزيدٍ من النقاش حولها.
وقد أنعشت معظم التغطيات الصحافية لهذا الموضوع، التقارير الواردة من الولايات المتّحدة التي عبّرت هي كذلك عن القلق من مزاعم حول وجود علاقةٍ لروسيا مع حملة دونالد ترمب الرئاسية في العام 2016. منها على سبيل المثال، ما تردّد عن أن الروس يحتفظون بمعلوماتٍ يمكن أن تجرّم ترمب - هل يمكن أن تكون لديهم معلومات مشابهة عن بوريس جونسون؟ - ثم مرّةً أخرى، لم يكن في وسع تقرير روبرت مولر، بعد التمكّن من القراءة بين السطور وإزالة الشوائب عنه، إلا أن يستنتج أنه لا يوجد دليل كافٍ على أن حملة دونالد ترمب للعام 2016 قد "نسّقت مع الحكومة الروسية أو تآمرت معها في أنشطتها الرامية إلى التدخّل في الانتخابات الرئاسية الأميركية".
في نهاية المطاف، إن تقرير "لجنة الاستخبارات والأمن" شأنه شأن كثيرٍ من التحقيقات الأخرى على جانبي المحيط الأطلسي (رسميةً كانت أم صحافية)، قد تخطى نقطة حاسمة من إضفاء الصدقية. إن اكتشاف حصول تدخّل روسي سواءٌ كان ناجحاً أو مجرّد محاولة، هو في حدّ ذاته أمرٌ سيّء جداً، ويشكّل خطوةً إضافية في اتّجاه تأكيد التواطؤ الفعلي. لكنه في المقابل ما زال غير قادرٍ على إثبات أنه أحدث فارقاً مادّياً. بعبارةٍ أخرى، هل كان مؤيّدو الخروج البريطاني من الاتّحاد الأوروبي سيفوزون بأيّ حال في العام 2016؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فماذا إذاً؟ هل تُجرى إعادة تصويت؟ هل يتمّ إلغاء المغادرة البريطانية من الكتلة الأوروبية؟ الآن، وفي غياب أي دليلٍ جرمي دامغٍ، ألا يُعتبر أن الوقت بات متأخّراً بعض الشيء؟
© The Independent