تحمل عناوين فيلم "انفجار" ("بلو– آب") للمخرج الإيطالي ميكائيل أنجلو أنطونيوني، الذي كان واحداً من أول أفلامه التي حققها خارج إيطاليا بعيداً من مواضيعه الإيطالية، ما يفيد بأن الفيلم مقتبس من قصة قصيرة للكاتب الأرجنتيني خوليو كورتاثار عنوانها "ابن العذراء". قد يكون هذا صحيحاً، بل إنه صحيح بالتأكيد. ومع هذا قد يصحّ أن نقول إن ذلك الفيلم البديع والغريب الذي كان من علامات السينما العالمية في سنوات الستين من القرن العشرين، وواحداً من الأفلام التي عرفت كيف تضع "لندن المهتزة المجنونة" في واجهة الأحداث الثقافية العالمية، هذا الفيلم يرتبط بالفنان الأميركي جاكسون بولوك بقدر ما يرتبط بالكاتب الأرجنتيني. بل قد يمكن القول أيضاً إن "انفجار" يكاد يكون تبريراً وتفسيراً – أي بالنسبة إلى السينما التي يصنعها أنطونيوني – إمعاناً في تشبيك العلاقة بين الفن والواقع لا يخرج أي منهما منه أكثر وضوحاً مما كان إنما أكثر منطقية بكثير!.
الحقيقة وسط تشابكات مبهمة
من المؤكد أن كثيراً من المبدعين، بل حتى من الفئات الأكثر نخبوية وتقدماً من بين المتفرجين العاديين، ما كان من شأنهم وهم يتأملون في لوحات جاكسون بولاك، إلا أن يفكروا بأن من حقهم أن يحققوا إبداعات لا متناهية، انطلاقا من مجرد محاكاة تلك اللوحات حتى وإن كانوا يعرفون أن ما يحول بينهم و ذلك، إنما هو استحالة تلك المحاكاة! ومن هنا لا يعود أمام الواحد منهم إلا أن يُعمل فكره في خلق تنويعات عليها قد تكون في المجال التشكيلي، وقد تكون في المجال الكتابي، أو، طبعاً، في المجال السينمائي كما فعل أنطونيوني حين كان يقرأ قصة كورتاثار، ويُدهش أول الأمر كيف لم يعنّ على باله وهو يقرأ، سوى واحدة من لوحات بولوك الأساسية، "تلاق رقم 10" (1952) التي لم تبد له فقط وكأنها تفسر نص كورتاثار ملتقية معه في نواح كثيرة، بل كأنها تترجم النص نفسه إلى لغة بصرية. ومن هنا لم تعد حكاية "دخول" بولاك وفنه إلى الفيلم مجرد مشهد يصوّر رساماً (هو صديق المصور بطل الفيلم)، منكباً على رسم لوحة بولاكية خالصة، بل تجاوز الأمر ذلك ليصبح الفيلم كله مرتبطاً بذلك البحث المضني وربما المستحيل عن معنى خلف تشابك صورة الأعشاب والنباتات في أرضية الحديقة اللندنية العامة التي صورها بطل الفيلم ثم جلس يتساءل عما إذا لم تكن ثمة أشياء في ثنايا العناصر المصورة من المستحيل أن تُرى بالعين المجردة، ما يجعل الصور في حاجة إلى ذلك التكبير (الانفجار) اللامتناهي داخل المختبر للوصول إلى سرّ سيكون من المستحيل في النهاية كشفه وبالتالي من المستحيل سبر العديد من الحقائق المخفية خلف قناع الخيال. ومن المدهش هنا ذلك اللقاء الذي مثله الفيلم بين ثلاث تصورات للعلاقة بين الحقيقة والخيال، تجلّى كل واحد منها لدى سينمائي (أنطونيوني)، وكاتب (كورتاثار)، ورسام (بولوك) ربما شكلوا معا جزءاً أساسياً من لعبة المزج المطلق بين الواقعي والمتخيَّل في ثقافة القرن العشرين.
في البدء كان الرسم
"جاكسون بولوك، هو أول فنان حديث، حقاً حديث، عرفه الفن التشكيلي في الولايات المتحدة الأميركية". هذا ما يقوله النقاد ومؤرخو الفن حول ذلك الرسام الذي حين غاب عن عالمنا في شهر أغسطس/آب من عام 1956، وهو بعد شاب في الرابعة والأربعين. يومها أجمع أولئك النقاد والمؤرخون أنه إذا كان ثمة شخص يمكن لعمله أن يؤرخ لولادة «المدرسة الجديدة في الفن الأميركي» فإن هذا الشخص لن يكون غير جاكسون بولوك.
والحال إن بولوك يعتبر تحديثياً بأكثر من معنى، حتى وإن كان العديد من النقاد يصرون على أنه، لئن كان رائداً بين الأميركيين «فإننا يجب ألا ننسى أنه إنما خضع لتأثير مباشر مارسه عليه الفنان الألماني ماكس إرنست» الذي عاش وعمل في الولايات المتحدة عقوداً طويلة من حياته. بمعنى أن جذور فن بولوك إنما هي جذور أميركية/ أوروبية، وليست أميركية خالصة، لا سيما في ما يتعلق بفن التنقيط، ذلك الذي طغى على مراحل بولوك جميعها وارتبط باسمه. إذ إن هذا الأسلوب، كان في الحقيقة، من ابتكارات ماكس إرنست، ويقوم في وضع اللوحة البيضاء مسطحة على الأرض، ثم تدلف عليها الألوان كيفما اتفق، وبخاصة عبر ثقوب تقام في أسفل علب الدهان، وبعد ذلك يؤتى بالفرشاة وتمر على كتل اللون، تمزج بينها عبر خطوط تبدو للوهلة الأولى عشوائية، لكنها عند تدقيق النظر إليها يصل مشاهد اللوحة إلى نوع من التوحيد بين نظره وبين بقع اللون والخطوط، «تخلق عوالم مدهشة وساحرة»، عوالم تكون نتيجة لتفاعل نظرة المتفرج مع الخطوط والألوان. إن هذا الأسلوب الذي كان ماكس إرنست واحداً من مبتكريه الرئيسين، ثم أتى جاكسون بولوك من بعده ليركز عليه ويعطيه أبعاده الجمالية، و الأيديولوجية أيضاً، هذا الأسلوب كان همه الأساسي أن «يشرك المتفرج في صناعة اللوحة بحيث تصبح اللوحة جزءاً من تاريخ هذا المتفرج وليست شيئاً يراه وحسب».
بعد أيديولوجي
الحقيقة أن هذا البعد الأيديولوجي الذي أضفاه جاكسون بولوك على لوحات كانت تبدو قبل ذلك تجريدية وغير ذات معنى إلا بالنسبة إلى الحساسية التي تطلع بها أمام أعين المتفرج، أضفى على فنه أبعاداً جديدة اعتبرت في حينه نوعاً من التثوير الجذري لعلاقة اللوحة بمن يشاهدها كما أنها أعطت للفن التجريدي أبعاداً جديدة، لا شك أن أنطونيوني وجد نفسه أسيراً لها حين جعل فن بولوك جزءاً من فيلمه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع هذا حين بدأ جاكسون بولوك اهتمامه بالفن، وراح ليدرسه في أحد منابع فنون تلك الأيام، المكسيك، كان يتطلع لأن يحقق فناً واقعياً ثورياً. فالحال أن بولوك المولود العام 1912 في مدينة لودي بولاية وايومنغ الأميركية، نما وترعرع في الغرب الأميركي الذي كان، بالتناقض مع حداثة «شرق الولايات المتحدة»، و«الأبعاد النخبوية لمثقفيها»، يعتبر المحافظ على التقاليد العقلانية وعلى الواقعية. ولقد بدأ بولوك دراسة الرسم في لوس أنجليس في 1929 قبل أن يسافر إلى المكسيك، حيث عمل وتدرب بعض الوقت في محترف الفنان المكسيكي الكبير أوروزكو، الذي كان أحد الأعمدة الأساسية لفنون الواقعية الثورية في المكسيك تلك الأيام.
عندما عاد بولوك من المكسيك عاد ثورياً، وقد آلى على نفسه أن يرسم لوحات واقعية حافلة بالأفكار الداعية إلى الثورة الاجتماعية، غير أن جولة قام بها في أنحاء الولايات المتحدة قبل أن يستقر في نيويورك كشفت له عن «لاجدوى الفن الواقعي لأنه فن سرعان ما يصار إلى استيعابه وتوظيفه سياسياً»، ومن هنا فضل أن يسترخي لفكرة الاستيعاب تاركاً لفنه المخيلة والحرية الضروريتين. ومن هنا عمل ضمن إطار «مشروع الفن الفيدرالي» وراح ينمي نزعات تجريدية كانت قد بدأت تلح عليه. وأقام معرضه الأول في 1943، فاعتبرت لوحاته في ذلك المعرض إشارة لثورة حقيقية، ولكن داخل العمل الفني لا خارجه، بخاصة وأنه كان قد خضع لتأثير الفنانين التجريديين الآتين من أوروبا.
إخراج الفن من جموده
منذ نجاح معرضه الأول، أقام بولوك في لونغ آيلند التي لم يبرحها حتى رحيله، في الحادي عشر من آب (اغسطس) 1956، وراحت لوحاته ومعارضه المتتالية تثير الاهتمام، أولاً، في الولايات المتحدة ثم في طول أوروبا وعرضها، حيث إن واحداً من النقاد الأوروبيين الأكثر تطلباً قال عنه إن «كل ما يرسمه بولوك يحمل طابع الثورة المتواصلة ضد الذات أولاً، ثم ضد البيئة المحيطة بعد ذلك، ضد الأكاديمية العتيقة كما ضد الامتثالية الحديثة. ومن هنا فإن انحرافاته المتتالية وتقلباته، إنما تعبر، خير تعبير، عن ضروب الشك والقلق، والصدمات التي كان في الوقت نفسه بطلها وضحيتها، المنتصر والمهزوم فيها». باختصار كان بولوك الفنان الذي أخرج الرسم الأميركي من جمود كان يتحكم به، ليجعله واحداً من أعظم الفنون في القرن العشرين.