بدا الاختلاف صارخاً. في جنوب غربي لندن، حيث أقطن، كانت حركة المقاهي نشطة جداً عند الساعة الثامنة صباحاً. واصطفّ الناس للحصول على قهوتهم ومعجناتهم الصباحية. لكنني لاحظت أن كل المتاجر، ما عدا فرع مكتبة "دبليو إتش سميث" WH Smith، كانت مغلقة في (محطة) يوستون (للقطارات) التي وصلت إليها بعد 40 دقيقة في طريقي لزيارة بعض الأقرباء في شمال إنجلترا. فقد أوصدت مطاعم الوجبات الخفيفة والمقاهي كافة أبوابها. هل تريد فطوراً؟ إنسَ الموضوع. ترغب بشراء شيء تأكله في الطريق؟ هذا غير متاح أيضاً.
كما أنّ محطة القطارات الرئيسة في يوستون Euston كانت هادئة على نحو غير مألوف.و جاء الركاب لاستقلال القطارات، مثلنا. لكن عدد ركّاب رحلتنا إلى كامبريا Cumbria لم يتعدّ خمس سعة القطار. والأهم، بالكاد كان هناك ركاب يترجّلون من القطارات القادمة إلى المحطة من شمال العاصمة، وهي مكتظة عادة. فهم يعملون من المنزل، ويبتاعون حاجياتهم وقهوتهم وفطائرهم من المتاجر المحلية.
لا يعلم أي منّا إلى متى سيستمرّ أسلوب الحياة هذا. لقد غيّرت الوصف هنا، من أزمة، إلى أسلوب حياة. متى تنتهي الأزمة ونتحول إلى وضع طبيعي؟
حتّى عندما تنتهي بالفعل، ويصل اللقاح المنشود، سنحتاج لمدة طويلة للتعود على هذه الحياة المختلفة. فكثيرون من بيننا ألِفوا هذه الحياة وأحبوها. هل سنعود يوماً بكامل إرادتنا إلى المباني التي تقوم في مراكز المدن؟ هل سنستقلّ وسائل النقل العام، ونقضي جزءاً كبيراً من نهارنا كي نصل إلى مكاتبنا ونعود منها فقط؟ أم سنفضّل البقاء مرتاحين داخل منازلنا واستخدام مكاتبنا هناك وعقد اجتماعاتنا افتراضياً عبر برنامج (تطبيق الاجتماع بالـ فيديو) زوم Zoom؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الإجابات عن هذه الأسئلة غير معروفة كذلك. وفيما يقول بعضهم إننا سنختار عدم الذهاب إلى المكاتب، يرى آخرون أننا سندرك كم نكره العزلة، وأننا سنفتقد الأجواء والتفاعل الذي يوفره التواجد جسدياً وسط زملاء العمل، ومشاركة الأخبار والأقاويل والأفكار العابرة، وهي أحاديث قد يكون هناك احتمال بسيط لتحولها إلى شيء منتج ومفيد.
وربّما يصبح الوضع خليطاً من الحالتين. فقد يصير العمل المرِن هو المستقبل، فنتنقّل بسهولة بين المنزل والمكتب، ونقضي بعض الوقت هنا والباقي هناك.
ويدير أحد أصدقائي شركة استشارات في وسط لندن. ويوشك عقد إيجاره على الانتهاء. وباعتباره واحداً من الأشخاص المستنيرين، استطلع آراء موظّفيه حول ما يريدونه من المكتب، وما إذا كانوا يريدون ارتياده بالأساس؛ وكيف يفضّلون أن يكون شكله، وإن اختاروا وجود مكتب، فما الموقع الذي يفضّلونه له؟
حملت الإجابات كثيراً من الدلالات، وأعتقد أنها تنطبق كذلك على المنظمات الأكبر. أرادت غالبية الموظفين الأصغر سناً، في الفئة العمرية من 25 إلى 35 عاماً، العمل في مكان غير رسمي وودّي يمكنهم الجلوس فيه، والتحدّث مع بعضهم بعضاً، والعمل على حواسيبهم المحمولة. لم يشاؤوا أن يعملوا في غرف منفصلة،لا سيّما إن كانت مكاتب فردية لها أبواب. وعبّروا عن رغبتهم بالهدوء لكنهم تمنوا في الوقت نفسه أن يتوفر لهم مكان مركزي يمكنهم الجلوس فيه معاً، والعمل جنباً إلى جنب إذا اقتضى الأمر والتفاعل معاً.
أما بالنسبة للموقع، فأرادوه قريباً من محطة قطارات رئيسة، ومن شبكة جيدة لقطارات الأنفاق والباصات. إلا أنهم أعربوا عن أملهم أن يكون مزوداً بمرافق لركن الدراجات الهوائية، والاستحمام، وتغيير الملابس. كما حبذوا وجود خزائن لها أقفال يمكنهم إيداع أغراضهم فيها.
أما الموظفون الأكبر سناً، من كبار الإداريين والمدريرين، فلم تستهوهم كذلك الحاجة للمكاتب المنفردة. واختلفوا في الرأي بشكل أساسي مع الموظفين الأصغر سناً بشأن طلب وجود غرف الاجتماع. واعتبروا القرب الجغرافي من مركز رئيس للنقل من أولوياتهم، لكن لم يعنِهم بالدرجة نفسها وجود مرافق لركن للدراجات الهوائية، وأماكن للاستحمام. وما أرادوه باختصار هو العمل من المنزل معظم الوقت، والذهاب إلى المكتب من أجل لقاء العملاء والزملاء حين تقتضي الضرورة. لم تزعجهم أبداً فكرة عدم تخصيص المكتب.
وفي هذا العصر الأكثر ميلاً نحو المساواة، أصبح مكتب المدير التقليدي الباهر، بما فيه من أرائك وإطلالة مذهلة وخزانة جانبية مليئة بالصور والتذكارات التي تدلّ على مسيرة مهنية ناجحة ولامعة، شيئاً من الماضي. والآن، سيسرّع كوفيد-19 من وتيرة زوال المكاتب من هذا النوع.
إن زملاء العمل ليسوا هم الوحيدين الذين يجدون هذه الأمور منفّرة. ويجب أن يدفع أحد ما ثمن هذه الرفاهية والتصريح العظيم، والذكوري غالباً. وهذا الشخص هو العميل في العادة.
وقضت إدارات المؤسسات الأشهر القليلة الماضية في التدقيق بتكاليفها الثابتة Fixed Costs، وهي خطوة اضطرت إلى اتخاذها بفعل الانتكاسة العالمية المفاجئة. بيد أن دواعي هذا التدقيق تتخطى الرغبة بتوفير المال فحسب. فهذه المؤسسات ترغب بشدّة أن تظهر بمظهر الشركة التي يعمل موظفوها بشكل وثيق ومترابط داخلياً، ولا تميل كثيراً إلى وضع حواجز فاصلة بينهم، ولا تريد في المقابل أن يُنظر إليها على أنها تبالغ في الأمور ولا تهتم بالآخرين.
ويضاف إلى رحلة التنقلات اليومية، و"المكتب المعتبّر" statement office عن المكانة، المزايا الأخرى التي يتمتع بها المدراء التنفيذيون، استخدام سيارات الليموزين باهظة الثمن، والطائرات الخاصة، والضيافة الباذخة، ورحلات الشركات من أجل مزاولة رياضة الغولف والصيد. سيبقى هناك من يدلل نفسه على هذه الشاكلة، لكن سيُنظر إليهم بصورة متزايدة على أنهم استثناء، أو ديناصورات من العصر الغابر.
حركتا #MeToo و"حياة السود مهمّة"، علاوة على الحوكمة الاجتماعية والمؤسسية، وصعود الرأسمالية المسؤولة، وكوفيد-19، كلّها عوامل تتزامن، وتترك بصماتها على حياتنا.
لقد ولّت أيّام التباهي الذكوري للشركات.
© The Independent