كل ما نصفه بـ"الأسود" نُحيله إلى عالم الشر. هناك "السحر الأسود" لأذية الآخرين، و"الثقب الأسود" الذي يبتلع المجرّات، و"الريح السوداء" التي تقتلع كل شيء في طريقها، و"الأرض السوداء" أو "المحروقة" في أزمنة الحروب والدمار، وهناك "الغيوم السوداء" للدلالة على أيام بائسة، و"الأفكار السوداء" للتشاؤم والقلق. لكن في زمننا الراهن، أشهر "السوداء" هي السوق.
يظن كثيرون أن السوق السوداء تظهر في أوقات الأزمات الاقتصادية والسياسية فقط، وأنها لا تعمل سوى في الدول النامية أو المتخلّفة وتطاول المواد الغذائية والعملات الصعبة. لكن الأمر معاكس لذلك، فالسوق السوداء موجودة منذ وجود السوق في المجتمعات البشرية، وهي تعمل في البلاد المتطورة والنامية، وهي سوق لكل شيء، من السيجارة إلى الأعضاء البشرية، ومن الحجر إلى البشر.
تشهد معظم الدول العربية في فترات مختلفة، لكن متقاربة، نشاطاً كبيراً للسوق السوداء، تحديداً لسوق الأموال السوداء والنقد الأجنبي. ويؤدي ازدهار هذه السوق غير الشرعية إلى التأثير في اقتصادات الدول العربية سلباً بنسب متفاوتة. فإما تؤدي إلى عدم القدرة على ضبط الاحتكار وسعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار، مثلما يحصل اليوم في لبنان وسوريا والعراق، وإما تؤدي إلى محاولة السلطات وقف فوضى السوق عبر تعويم العملة وفرض قوانين اقتصادية ومالية كثيرة ومختلفة كزيادة الضرائب أو مراقبة المعابر غير الشرعية والتهريب والاحتكار ووضع قوانين وعقوبات جديدة تتعلّق بتبادل سلع معينة، مثلما يحصل في مصر والعراق والأردن. أما في دول المغرب العربي، فتكاد السوق السوداء أن تصبح شرعية لشدّة التعامل بها وتغاضي السلطات عنها، وتجد فيها بعض الإيجابيات (مثل تأمين عمل غير قانوني للعاطلين من العمل وتأمين النقد الأجنبي في السوق الموازية).
سوق عالمية موازية
تعمل السوق السوداء بشكل موازٍ للسوق القانونية، وعلى الرغم من أن الأرقام الصحيحة والمؤكدة غير متوفرة في خصوص حجم السوق السوداء العالمية، فإنّ أرقام الأمم المتحدة والبنك الدولي والمؤسسات الدولية المستقلة تفيد بأنها تشكّل اقتصاداً عالمياً موازياً، يبلغ عشرات الترليونات من الدولارات سنوياً. وتُطلق على هذه السوق تسميات مختلفة على مستوى العالم، فهي السوق الخفية أو الرمادية أو سوق الظلّ أو غير الرسمية أو السوق غير الشرعية. أما العاملون فيها، بحسب التعريف القانوني، فهم الذين يشاركون في أنشطة سرية ويتحايلون أو يهرّبون أو يُستبعدون من النظام المؤسساتي للقواعد والحقوق واللوائح التي تحكم عمل الوكلاء الرسميين المشاركين في الإنتاج والتبادل، خلافاً للقانون وبعيداً من رقابة السلطات المحلية والدولية.
ويمكن أن تكون السلع والمنتجات المعنيّة بهذا النشاط على مستويين من الأسعار قياساً على السعر الطبيعي. فالمواد المتداولة في السوق السوداء قد تكون أرخص من أسعار السوق القانونية لكونها مهرّبة أو مسروقة. وهذا النشاط يُسمّى اقتصاد "تحت الأرض" أو "الاقتصاد الخفي". وأحياناً تكون أسعارها أعلى من أسعار السوق القانونية في حال كان من الصعب الحصول على المنتج أو إنتاجه أو ممنوع التعامل والتداول به. وفي الحالين، سواء كان السعر أقلّ أو أعلى من الطبيعي، فإن أي نشاط تجاري يقوم بصورة غير شرعية يُسمّى "السوق السوداء".
على سبيل المثال، انتشرت السوق السوداء في الحرب العالمية الأولى عندما اضطُرت الدول إلى تقنين المواد الأولية الضرورية للمجهود الحربي، واضطُر المواطنون إلى تأمينها من السوق غير الرسمية. وازدهرت السوق السوداء مع الحرب العالمية الثانية بسبب التقنين الصارم ومراقبة الأسعار. وانتشرت سوق العملة السوداء في معظم الدول العربية التي تبنّت نظام الاقتصاد الموجّه وحدّت من حرّية التعامل بالعملات الصعبة، وتزدهر السوق السوداء لتصبح هي السوق الرئيسة حين تندلع الحروب الأهلية، كما كانت الحال في لبنان وسوريا واليمن والعراق، حيث تسقط أي سلطة للدولة. وكذلك في البلدان التي تخضع لعقوبات اقتصادية، كما كانت الحال في العراق والسودان سابقاً، وفي سوريا وإيران حالياً. وتعيش السوق السوداء طويلاً بسبب الأرباح الطائلة التي تحققّها للمتداولين فيها، وفي زمن "ثورة الاتصالات" الحالي، استفادت من مناخات أشاعها انفتاح وسهولة التعامل التجاري عبر الإنترنت.
العملة الوطنية مقابل الدولار
يمثّل سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار الوجه الأشهر للسوق السوداء في منطقتنا. فحين تذكر عبارة "السوق السوداء" أمام مواطني لبنان وسوريا ومصر والعراق وتركيا وإيران، فإن ما يتبادر إلى الأذهان هو "سعر صرف الدولار"، لأنه في هذه الآونة من الأزمات المختلفة التي تضرب هذه الدول، لا يعرف سعر الصرف ثباتاً، وهو يرتفع أو ينخفض بحسب العرض والطلب (التسمية الرسمية) أي بحسب ما تقرّره السوق السوداء في الواقع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عمليّاً، تنشأ السوق السوداء للنقد الأجنبي عندما تتدخّل الحكومة في سوق سعر الصرف، وتقيّم عملتها بسعر يفوق السعر السوقي. بعبارة أخرى، حين تحدّد سقفاً لسعر الدولار مقابل العملة المحلية. هذا بدوره يؤدي إلى زيادة الطلب عن العرض الذي توفّره الحكومة للدولار الأميركي، ما يعمل على نشأة سوق سوداء لتلك العملة، يكون فيها تقويم الدولار الأميركي أعلى من تقييم الحكومة له.
أما في ما يتعلّق بمصادر الطلب على النقد الأجنبي في السوق السوداء، فيأتي من تمويل عمليات استيراد السلع من الخارج، سواء كان لتمويل عمليات التهريب أو ما كان يُطلق عليه سابقاً تجارة الشنطة. وهذا ما يجري في لبنان وسوريا الآن. وفي هذه الحالة، لجأت الحكومة في بيروت إلى دعم سلّة من المواد المستوردة لمساعدة المواطنين في موازنة مداخيلهم مع ارتفاع الأسعار، ولكن عملية الدعم هذه قد تؤدي إلى مزيد من الاحتكار من المستوردين والتجار. وربما تؤدي أيضاً إلى زيادة التهريب إلى الدول المجاورة من أجل الاستفادة من الفارق بين السعر الحقيقي والسعر المدعوم من الحكومة.
الأموال السوداء
أما الأموال السوداء، فتسهم في تغيير سعر الصرف، وهي الأموال المهرّبة التي لا تخضع للضريبة أو تلك التي تتأتّى من أعمال غير شرعية كالإتجار بالبشر والمخدرات والسلاح والجنس. وهي من النشاطات الخفية (على الرغم من علم معظم سلطات الدول النامية بوجودها)، وتشكّل نسبة متزايدة في الناتج المحلي الإجمالي سواء في اقتصاديات الدول المتقدمة أو في اقتصاديات الدول النامية. وأتاح التطوّر الهائل في تبادل المعلومات ووسائل نقلها عبر الشبكات والأقمار الصناعية ومجالات التجارة الإلكترونية، إمكانيات أكبر للقائمين بالأعمال الخفية، في إجراء الحسابات السرية في المصارف والأرقام السرية للملفات وإمكانية عرض المواد والسلع السوداء عبر التجارة الإلكترونية. هذه التعاملات السرية عبر الأموال السوداء تسحب جزءًا من السيولة النقدية وتزاحم النشاطات الرسمية في الحصول على السيولة بالنقد المحلي والنقد الأجنبي، فتؤثر في أسعار الصرف.
ومثل هذه الأعمال جرت في لبنان وسوريا والعراق خلال الأعوام الماضية. وما زالت المطالبات قائمة (انتفاضات، ثورات، محاكمات صورية، صرف النظر عن الأساسي بمواضيع هامشية...) في هذه الدول بالكشف عن الأموال المهرّبة إلى الخارج وعن الاحتكارات للمواد الأساسية التي أضحت بديلاً من السوق الرسمية.
تهريب رؤوس الأموال
في لبنان مثلاً، كُشف عن تهريب مليارات من الدولارات إلى الخارج قبل "ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019. وعلى الرغم من المطالبات الكثيفة والعنيفة أحياناً بالكشف عن مهرّبي الأموال وحجمها ومن ثم استعادتها، يُلفلف هذا الموضوع من دون الخوض جدّياً فيه. وبالطبع، فإنّ السبب يعود إلى أن المهربين هم أصحاب السلطة الفعلية في البلاد.
ومِمّا لا شك فيه أن رأس المال يُعدُّ من العناصر الحيوية للنهوض في الدول النامية، وهروب مثل هذا العنصر النادر لن يساعد هذه الدول في مواجهة الحاجات وتنفيذ برامج الاستثمار والتنمية. وحينما يُستخدم النقد الأجنبي لتمويل عمليات تهريب رؤوس الأموال إلى الخارج، فإنّ مستويات الواردات ستتأثر. ويؤدي تهريب أموال إلى تعقيد مشكلة المديونية فيها، فيصبح من الصعب إقناع الدول الدائنة بإقراض جديد لهذه الدول. ومن ناحية أخرى، يصبح من الصعب إقناع الدائنين بخفض حجم الديون القائمة. وهذا ما يجري تماماً اليوم في لبنان وفي غيره من الدول العربية.