تظل التجربة الشعرية فى تجلياتها العميقة شديدة الشبه فى مجاهدتها مع اللغة واقتناصها للحظة الإشراق الإبداعي، بالتجربة الصوفية في مجاهداتها الروحية للوصول إلى المطلق ومحاولاتها المضنية للتوحد به. وقد ارتبطت تجربة الشاعر المصري أحمد الشهاوي منذ بداياتها بالتصوف الذي أصبح علامة عليه منذ باكورته مروراً بـ"الأحاديث"، في سفريها الأول والثاني، التي تبدو كأنها صيغة عصرية من "المواقف والمخاطبات" للنفري، حتى نصل إلى ديوانه الأحدث؛ "ما أنا فيه" وهو عنوان يوحي بعكوف الذات الشاعرة على نفسها وتأمل حالاتها. ويبدأ الديوان الصادر حديثاً عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة، بهذه العبارة الدالة: "أنا عِند حُسن ظن الحرف بي"، وهذا ما يشير إلى رغبة الشاعر في امتلاك اللغة وتصريفها كيفما شاء. فقد وُصف الشعراء قديماً بأنهم "أمراء الكلام" يوجهونه حسب ما يستلزمه الإبداع حتى وإن خرج عن مقتضيات "القاعدة". ومن هنا شاع ما عرف بالضرورات الشعرية وخلافات الشعراء والنحاة. ولعلنا نلحظ شيئاً من هذا في قصيدة "دمٌ يضغط الشرايين"؛ حين يقول: "لا صوت لي أو صدى/ لكن كلما تكلم طائرٌ/ ظننتُ أن الحديث لي/ فطردتُ النُحاة من البيت/ ألقيتُ بداة الناس فى الحذف/ قلتُ: يكفي لي كتابٌ وقلم". تبدأ السطور بنفي اللغة، فلا صوت هناك ولا صدى؛ إنه السكون والصمت في حضرة الطبيعة والتواصل الإشاري معها.
هذا التواصل الذي لا يحتاج إلى نُحاة، بل يحتاج، فحسب، إلى ما يسمى بوحدة الوجود التي تجمع الإنسان والطير والطبيعة بأسرها في وحدة لا تعرف التنافر. وفي هذه الحالة لا يحتاج الشاعر سوى قلم يسطر وحي الطبيعة. ويبدو الشاعر راغباً في الانجذاب ومستغنياً عن الصحو أو اليقظة التي تقيد انطلاقات الروح؛ يقول: "مستغنياً عن الصحو/ أخبىء جرس الباب/ في الجيب/ أخفي جرس الهاتف في سترة الصمت". و"الصمت" الذي يستتر به الشاعر دال عرفاني شهير، فهو من وسائل القربى والتسامي، وهو نوع من العبادة، وهناك ما يعرف بـ"الصمت الكبير" الذي يدخل فيه الراهب طيلة عمره. وإخفاء "الهاتف"، كما يبدو في السطور السابقة، يعكس الرغبة في قطع التواصل مع العالم الأرضي إمعاناً في استبطان الذات وتحقيقاً لحالة العشق الخالص شبيه الماء الذي "إن شابته شائبةٌ خبا/ واختار أن يمشي بعيدا في طريقٍ مِن سراب".
وتستمر ثنائية "الصمت والكلام" في قصيدة "صورتي ليست بالألوان"، كما يبدو في قوله: "صحيحٌ أنني صامتٌ كثيراً/ لكن روحي تتكلم بلا انقطاع". وهي سطور واضحة الدلالة على أن "صمت" اللسان توطئة ضرورية لكلام الروح، وهي ثنائية تبدو غير محلولة دائماً بسبب ما يدركه الشاعر من تناقضات وجودية، حيث إن طيبته بوصفه شيخاً لا تمنع وجود "بضعة أبالسة يلعبون" في ساحته. وهو ما يوضح توظيف الشاعر لموروثه الديني الحافل بالصراع بين الإنسان والشيطان منذ بدء الخليقة.
حذر وابتعاد
هناك إذن حذرٌ وابتعادٌ عن رموز الشر في مقابل الانفتاح على الطبيعة بوصفها مجلى حالات الشاعر حين يقول: "صحيحٌ أنني – ابن برج العقرب – معتزلٌ/ لكنني – طوال الوقت – أرقب سيرة الشمس/ وهي تشرق من قميصي". وتبلغ الدرامية ذروتها حين يحس الشاعر بالأذى الذي ينام في نسيج كل شىء، رغم أن "باب البيت مغلق/ ولا أحد يقف في الخارج يهدد الهواء". وإذا كان الشاعر عند علي محمود طه قد "نزل الأرض كالشعاع السَني/ بعصا ساحرٍ وقلب نبي"، فإن الشاعر عند أحمد الشهاوي "بسيطٌ كشارعٍ مزدحم/ سهلٌ كنملٍ يصارع نقطة ماء/ أليفٌ كنصٍ طويلٍ بلا أي شرح/ وجواه هتك لكل سواد كثيف". لقد غابت سمات البطولة والتنبؤ عن الشاعر المعاصر وأصبح بسيطاً وسهلاً كنمل يصارع الموت، لكن هذا لا يمنع دوره فى هتك السواد الكثيف المحيط به وبنا ومقاومته لبيع الذات أو تأجير"العقل لمن يدفع أكثر"؛ لأنه ليس "فأراً لتجارب الأشرار". وينفي الشاعر صراحة فكرة القدرة على تحقيق المعجزات حين يقول في قصيدة "لا أحد يهتم بقتلاي فيَّ ": "لستُ في مقام النبوة والمُلك/ ولا مُلك لي أو معجزات". فهو عاجز أمام المردة والجن والشياطين بعد أن فشل حراسُ أبواب السماء في أن يغلقوا الفضاء أمامهم. ولا يغفل الشاعر البُعد الاجتماعي لمأساة العالم الذي لا يرى فيه سوى "وجوه اليتامى/ الذين شاخت جيوبهم من الصبر". وكما كان صلاح عبد الصبور يدعو كل واحد "أن يتحسس رأسه" بعد أن اختلطت رؤوس الناس ورؤوس الحيوانات، فإن أحمد الشهاوي يشعر أن برأسه – وهو دال متكرر في الديوان – نملاً نارياً يمشي لا يعرف نوعاً أو اسماً له حتى أصبحنا أمام ما يشبه المأساة الكونية التي لا يهتم فيها أحدٌ بالقتلى الذين يسكنون الشاعر؛ "بينما القتلة مطلقو السراح".
العالم القاسي
ومن المهم أن نذكر أن هذه القصائد مكتوبة من وحي زيارة الشاعر لأميركا، فهي تمثل رؤيته لهذا العالم المادي القاسي، حيث لا شىء سوى الخسران، عالم لا يُفتح فيه بابٌ والناس هناك "لا قلب لهم أو عقل/ أجمد من أحجار ليست لهم". ولا يجد الشاعر مفراً سوى أن يفتح "باباً للروح"، على عادة العرفانيين الذين يفزعون من العالم ويلوذون بتجليات الروح دون أن يعني ذلك الهروب أو التخلي عن رصد الواقع الذي يرى فيه "النور القادم مِن بعيدٍ/ دماً يتدفق في عنق الليل". ويصبح الآخرون هم الجحيم، كما يقول سارتر، أو أوغاداً استعمروا رأس الشاعر؛ "وصبوا فيها زيوت شرورهم". من أجل ذلك يحس الشاعر بتحول الأشياء إلى نقيضها، فالظل الذي أنفق عمره جالساً تحت أشجاره لكي يكون زاهداً مثل شيوخه، يتحول إلى أوهام، فيما الشمسُ ودَّعت مكانها ولم يبق إلا الغبار.
ويعاود الشاعر ما أشرنا إليه من توظيف التراث، فحين يقول إنه لم يضرب "الصخر فيجىء الماء"، نراه يستدعي قصة السامري الذي أغوى بني إسرائيل بعبادة العِجل الذي صنعه من ذهبهم، وجلب الماء من الصخر، يستدعي ما فعله موسى النبي ليشرب قومه أثناء عبورهم الصحراء. وفي قصيدة "عينٌ باسمي"، نجد إشارة إلى ابن نوح الذي قال إنه سيأوي إلى جبل يعصمه من الماء حين نقرأ: "سأخرج من محرابي/ وسأشرك في أمري أحداً/ وأسخر لي جبلاً يعصمني مِن نفسي".
هنا توظيفٌ بالمخالفة فالشاعر هو الذي يسخر الجبل، ومن هنا يأخذ دلالته الرمزية وهو – أي الشاعر – لا يريد العصمة من الطوفان بل مِن نفسه، ما يعكس الشعور بالاغتراب النفسي. إضافة إلى الاغتراب المكانى الذي عكسته ما يسميه الشاعر بالقصائد الأميركية، ومن السطور الدالة في هذا السياق: "لم أعد أعرف مَن أكون/ فأنا الغريب عن نفسي/ صارت الشمسُ لي برتقالة/ أو قوارب تبحر في مواكب عالية/ صار قمري وعاءً لنور الشموع الذابلة". والاغتراب النفسي ليس نزوعاً ذاتياً يفتقر إلى مبرراته الواقعية بل هو ناتج عما يشير إليه الشاعر في نهاية هذه السطور من تحول القمر إلى مجرد وعاء لنور الشموع الذابلة. وحين يغترب الشاعر عن نفسه تتساوى لديه الأشياء: "لم يعد الليل هو الليل/ ولا النهار نهاراً"، ويصبح الغياب كالحضور. إنها رحلة في اتجاهات متعددة تتخطى مجرد توظيف الدلالات الصوفية الذي أشتهر به الشهاوي على مدار رحلته الشعرية التي انطلقت قبل نحو أربعة عقود.