للمخرج الصربي أمير كوستوريتسا محطات نادرة في مجال الفيلم الوثائقي، فهو معروف بأعماله الملحمية الدرامية التي فازت بجوائز في مهرجان كانّ. لكن، هذا لم يمنعه من أن يختار رمزين شعبيين مادة لفيلمين تسجيليين له. أولهما لاعب الكرة الأرجنتيني دييغو مارادونا الذي صوّره في فيلم حمل اسمه وخرج في العام 2008، والثاني رئيس جمهورية الأوروغواي السابق (2010 - 2015)، المناضل الكبير خوسيه موخيكّا. الفيلم الذي أنجزه كوستوريتسا عنه قبل عامين حمل عنوان "ال ببه، حياة سامية"، وشارك في مهرجان البندقية السينمائي.
إلى معاناة السجن التي عاشها خلال 12 عاماً في فترة الديكتاتورية العسكرية يوم انضم إلى حركة التحرير الوطنية (1973)، صنع موخيكّا مجده بسبب الحياة المتواضعة التي قرر أن يعيشها هو وزوجته عندما أصبح رئيساً. حياة ترفض التبذير والمظاهر الخادعة، وباتت نموذجاً يُحتذى به ومحل إعجاب في العالم أجمع. كوستوريتسا، بخلفيته اليسارية، عشق في الرجل الدفء الإنساني الذي ما عاد موجوداً عند أهل السياسة. لفترة طويلة، رافقه، ملتقطاً تفاصيله، إلى أن ولدت بينهما ألفة، نلمسها بوضوح في الفيلم. ما يريه الفيلم هو الساعات الأخيرة لموخيكّا وهو رئيس، قبل نهاية عهده، قافزاً بنا إلى شيء أبعد من العناوين الصحافية العريضة التي عرفّته باعتباره "أفقر رئيس في العالم". كوستوريتسا يقدّمه إنساناً منسجماً مع قناعاته مهما اصطدمت مع واقع السياسة، ولكن يقدّمه أيضاً كمثال أعلى، ذلك أنه سينمائي مسيس جداً ناقم على نظام عالمي كامل لا يجد نفسه فيه ويسعى إلى تغييره، لا بل يصفّي حسابه مع هذا النظام "المجرم" من خلال موخيكّا.
الرئيس الحكيم، الواسع القلب، الذي لا يريد الكثير من هذا العالم، نراه في حديقته يزرع الزهور، يتجوّل في شوارع مونتيفيديو بلا أي بروتوكول. الناس يقتربون منه، يتوددون إليه، يعرضون عليه مشاكلهم. كوستوريتسا هنا دائماً، ينصت إليه وفي فمه سيكار. موخيكّا رجل بسيط، أفكاره مقنعة وواضحة، لا تتغير مهما كررها، وأمام كاميرا المخرج يبلغ مرتبة عالية من الشفافية. السياسة بمعناها الكلاسيكي غائبة عن هذا الفيلم الذي يطمح إلى طرح حلول تغييرية لنظام رأسمالي لم يعد ممكناً الاستمرار به. بيد أن أحد أروع مَشاهد الفيلم هو عندما يعترف موخيكّا بأن الألم هو الذي صنعه. استمّد قوته من العذابات، وما كان ليكون ما هو عليه لولاها.
"رجل كلمة"
الرمز الثاني هو البابا فرنسيس الذي صوّره المخرج الألماني الكبير فيم فندرز في "رجل كلمة". نكتشف في الفيلم أن رياحاً من القداسة قد هبت على فندرز وهو تجاوز السبعين، علماً أنه كان انتقل من الكاثوليكية إلى البروتستانتية في حياته. دُعِم العمل بموازنة كبيرة مكّنته من مرافقة عدد من زيارات البابا في أماكن عدة من العالم، من فافيلات (بيوت الصفيح) ريو دي جانيرو إلى المسجد الأقصى مروراً بمستشفيات الأطفال المرضى في أفريقيا.
إذاً نجم الفيلم الأوحد هو البابا نفسه، الذي، في أكثر من مناسبة، يتغلب على المخرج وعلى قدرته في الإمساك بخيوط الموضوع. من المعلوم أن الفاتيكان هي التي طلبت إلى فندرز إخراج هذا الفيلم، إلا أن هذا لم يمنع من أن المخرج مقتنع تمام الاقتناع برسالة البابا الكونية التي تدعو إلى التسامح والانفتاح، ويبلور خطاباً نقدياً مهماً. فندرز مسحور بالحبر الأعظم، وقد صرح سابقاً بأنه أُعجب به منذ طلته الأولى على شرفة كاتدرائية القديس بطرس بعد تسليمه مهام قيادة كاثوليك العالم.
الفيلم لا يكتفي بالتعريف بفكر البابا، بل يخوض في مجال الربط بين تجربته وتجربة القديس فرنسيس الأسيزي، رسول الفقر والتقشف و"الناشط البيئي"، الذي يتجسد من خلال مشاهد بالأسود والأبيض تشبه الأفلام الصامتة. وهذا الربط بين التجربتين ليس من باب المصادفة، ذلك أن فرنسيس هو أول بابا اختار اسم القديس. كلاهما يؤمنان بعقيدة واحدة تنبذ الترف وتدعو إلى العودة إلى الطبيعة.
يطرح البابا في الفيلم مجموعة أفكار ومواقف جدلية غير محسومة وهي لا تزال محل أخذ ورد كبير بين المؤمنين أنفسهم، بدءاً بقضية المثليين (يقول عنهم "مَن أنا لأحاكمهم؟") وصولاً إلى البيدوفيليا التي أحدثت فضائح عدة داخل الكنيسة، مروراً باللاجئين الذين يتوجب عليه كرجل إيمان أن يأخذ موقفاً إنسانياً منهم. هذه الطروحات فيها شيء من التمرد على مواقف الكنيسة الكلاسيكية، وهي مؤسسة دينية عمرها مئات السنوات، أحوج ما تكون إلى التحديث لتتماشى مع متطلبات العصر وروحيته. يدين البابا الكنيسة التي ترى في المال أملاً، مشبهاً إياها بالمنظّمة غير الحكومية، ذاكراً أحد أقول المسيح: "لا تعبدوا ربين…". فهو من أنصار كنيسة فقيرة للفقراء، وحجّته في ذلك أن "الفقر هو من صلب الأناجيل". يطاول نقده الإنسان الغربي الغارق في المادية والأنانية، الذي تحول إلى آلة بلا مشاعر. يشتكي من عالم أصابه الصمم، نتحدّث فيه كثيراً ونستمع قليلاً. ولا يتوانى عن الدخول في مسائل عائلية خاصة، مثل اهتمام الأهل بأولادهم، فيسأل: "متى آخر مرة لعبتم مع أولادكم؟". في النهاية، يرسم فندرز صورة لرجل دين ماركسي التوجّه، على الرغم من نفيه السابق لهذه "التهمة"، ولكن، مهما يكن، لا يستطيع الفيلم إخفاء معاداته للرأسمالية التي في رأيه، "منظومة مالية تستعبد الإنسان بدل أن تخدمه".
"كوبا والكاميرامان"
المخرج الأميركي جون ألبرت، يتولى في "كوبا والكاميرامان" توثيق تاريخ كوبا من خلال الناس الذين التقاهم ولكن، خصوصاً، من خلال قربه من الزعيم فيدال كاسترو الذي التقاه مراراً. فهو أمضى نحو خمسين سنة يتنقّل بين الولايات المتحدة وكوبا. يمكن اعتباره أحد الشهود على الدولة المحاصَرة وتاريخها الحديث، منذ السبعينيات وحتى سقوط الاتحاد السوفياتي الذي كان وقعه أليماً على حياة الكوبيين.
بدأ ألبرت يلتقي كاسترو ويحاوره منذ مطلع السبعينيات، وكان معه على الطيارة نفسها عندما سافر إلى نيويورك في العام 1979 ليلقي خطاباً شهيراً في الأمم المتحدة. يزخر الفيلم بمواد أرشيفية تُنشر لأول مرة، والهدف منها التنقيب في شخصية كاسترو، أو بالأحرى، في تلك النواحي غير المعروفة، التي يجهلها كثر. وهي، أي هذه النواحي، إذ تكشف بعض الجديد، فلا تزال مطابقة إلى حدّ بعيد لصورة القائد الفخور والعنجهي الذي يخطب أمام الجماهير في هافانا.
ألبرت معجب بكاسترو ويبلغ هذا الإعجاب الذروة في سعيه إلى لقاء أخير به قبل وفاته بأيام. الفيلم يولد من هذا التعايش بين الإعجاب بشخصية ونقد تجربتها الفاشلة. ينجح ألبرت في الامتداح بلسان، و"المحاسبة" بلسان آخر، والأخير هو لسان الكاميرا، أو لغتها، إذا صح التعبير. وهذا ما يبرع فيه ألبرت الذي يقدّم أحداثاً تاريخية بعين موضوعية قدر المستطاع، ويقف بعيداً من أسلوب مايكل مور الشعبوي. في الواقع، كان الصحافي معجباً بالتجربة الكوبية في بداياتها، ذلك أنه كان عثر فيها ما كان يأمل تحقيقه في أميركا. "شيء ما كان يحصل خلف الحدود، شيء كنّا نحلم به في أميركا"، يقول متذكّراً الماضي، لكن سرعان ما تحوّل النبيذ خلاً وتبددت الأحلام، لتتحوّل كوبا إلى سجن كبير للمعارضين.
طبيعة العلاقة بين ألبرت وكاسترو تخدم الفيلم كثيراً. إنه تواصل نديّ، حتى أن المخرج كان ينادي الزعيم باسمه الأول. ترى ما الذي جعل كاسترو يثق بأميركي؟ أغلب الظن أن بساطة الشخص الذي يقف خلف الكاميرا هي التي فتحت له تلك الأبواب. تلك الكاميرا التي هي أداة سلطة للبعض وأداة فهم للبعض الآخر.