ما بين تهليل المؤيدين وتشكيك المعارضين استناداً إلى "إعلانات سابقة لم تر النور بعد"، تباينت ردود الفعل التركية والدولية على مدار اليومين الماضيين إبان إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان "بشارته" بـ"أكبر حقل غاز طبيعي في تاريخ بلاده" بالبحر الأسود، وفق توصيفه. فيما تساءل آخرون، عن قابلية استخراج المورد الاستراتيجي بالنسبة إلى الاقتصاد التركي، من الناحية التجارية في ذلك الحقل الذي حمل اسم "تونا_1"، فضلاً عن مغزى توقيت الإعلان الذي يشهد توتراً متصاعداً بين أنقرة وجيرانها الأوروبيين، لا سيما قبرص واليونان، على المورد ذاته في منطقة الشرق المتوسط.
وتسعى تركيا منذ سنوات لفرض نفسها في معادلة النفط والغاز بالمنطقة، وتقليص اعتمادها على الواردات النفطية التي بلغت 41 مليار دولار العام الماضي، ما يثقل كاهل اقتصادها المتهاوي، وتأمل في اكتشافات غازية لتعزيز الأوضاع المالية للحكومة والمساعدة في تخفيف العجز المزمن بميزان المعاملات الجارية، الذي أسهم في دفع الليرة إلى مستويات قياسية متدنية مقابل الدولار، وفق توصيف المراقبين.
وصباح الجمعة، أعلن الرئيس التركي أن بلاد اكتشفت حقلاً "تاريخياً" للغاز الطبيعي يحوي 320 مليار متر مكعب (11.3 تريليون قدم مكعب) في البحر الأسود، وربما يتم العثور على المزيد، قائلاً من قصر عثماني بإسطنبول، "فتح الله لنا باباً على موارد لم نرَ مثلها من قبل. وهدفنا وضع غاز البحر الأسود في خدمة أمّتنا بدءاً من 2023"، وهي السنة التي ستحيي خلالها البلاد الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية (1923)، وهو ما عدّه معارضون بمثابة محاولة لـ"استعادة شعبية متهالكة".
"ليس الإعلان الأول من نوعه"
يستند كثير من المعارضين لسياسات الرئيس أردوغان وحكومته المنتمية لحزب العدالة والتنمية الحاكم، إلى تكرار التصريحات الرسمية أو الموالية في الإعلام بشأن اكتشافات غازية ضخمة "لم تر النور حتى الآن".
وبحسب ما غرد الكاتب الصحافي بجريدة "سوزجو" التركية (المُعارضة) يلماز أوزديل، بحسابه على تويتر، فإن هذه "البشرى ليست الأولى من نوعها، كثيراً ما أعلن عن اكتشافات مماثلة لم يظهر لها أثر حقيقي حتى الآن".
Beraber yürüdük biz bu yıllarda :) pic.twitter.com/GeV2YvYV9f
— Yılmaz ÖZDİL (@yilmazsozcu) August 21, 2020
وأرفق أوزديل تغريدته بصورة ضوئية، تضمنت ثمانية أخبار تناولتها مواقع موالية لسياسات الحكومة، تحققت "اندبندنت عربية" من بعضها، ونقل فيها عن مسؤولين في الحكومة أخباراً عن اكتشافات نفطية وغازية كبيرة بعضها في البحر الأسود، منذ 2004 وحتى 2013، ولم يظهر لها أي أثر على أرض الواقع.
في السياق ذاته، ووفق ما نقل موقع "تركيا الآن" الإخباري (معارض)، "فقد كرر الرئيس التركي إعلان اكتشافات لحقول غاز نحو خمس مرات على مدار السنوات العشر الأخيرة، لطالما ارتبط توقيتها بأحداث سياسية"، وذلك في أعوام (2010، و2014، و2015، و2018، و2019)، وأرجع توقيت الإعلان الحالي إلى تدهور شعبية الرئيس أردوغان وفق ما تظهره أحدث استطلاعات الرأي، وكذلك الاضطرابات التي تواجه الاقتصاد وتهاوي سعر العملة الرسمية.
ووفق الموقع ذاته، فإن التواريخ الخمسة السابقة ارتبطت بسياقات سياسية، ففي عام 2010، كان استفتاء سبتمبر (أيلول) على تعديلات دستورية، اقترحها حزب العدالة والتنمية الحاكم، تضمنت تعديل مواد تتعلق بالقضاء وإمكانية محاكمة "العسكر"، وكانت ترفضها الأحزاب العلمانية. وفي عام 2014، كانت انتخابات محلية في أواخر مارس (آذار)، حيث أعلن حينها اكتشافات غازية صخرية في منطقة "ديار بكر"؛ جنوب شرق البلاد، يمكن أن تلبي احتياجات البلاد لمدة 40 عاماً مقبلة.
وبتوقيت متشابه، كان الإعلان عن اكتشافات غازية في حقل بويراز، قبل نحو 5 أشهر من الانتخابات التشريعية المقررة في يونيو (حزيران) 2015، وتشابه الأمر كذلك في الانتخابات الرئاسية التي شهدتها البلاد خلال يونيو 2018، وبعدها إعلان وزير الطاقة التركي، فاتح دونماز، اكتشافات غازية في حقل "تراقيا" قبيل الانتخابات المحلية في مارس (آذار) 2019.
من جانبه، اعتبر الكاتب والمحلل التركي، جان دوندار، في تغريدات بحسابه على "تويتر"، أن "إعلان الاكتشاف الغازي الجديد ما هو إلا استراتيجية من (الرئيس) أردوغان والسلطة الحاكمة لإنقاذ شعبيتها المنهارة". لافتاً إلى "وجود كثير من الأخبار التي تناولت في السابق اكتشافات مماثلة للغاز الطبيعي دون أن يكون لها أثر فيما بعد، مما يثير الشكوك في الإعلان الجديد". وبحسب ما ذكر دوندار، فإنه وخلال الإعلان الحكومي عن اكتشافات غازية بحقل تراقيا، شمال غرب البلاد، العام الماضي، قالت في تقديراتها إن الحقل يحوي 20 تريليون متر مكعب من احتياطيات الغاز وهذا لم يكن له أي أثر".
أسئلة بلا أجوبة بشأن حقل "تونا_1"
في الوقت الذي جاء فيه إعلان السلطات التركية بشأن "الاكتشاف التاريخي" لحقل "تونا_1" مقتضباً دون مزيد من التفاصيل، إذ يحتوي الإعلان على تقديرات السلطات لاحتياطاته الغازية مع ترجيح بواكر إنتاجه المحلية في عام 2023، حذر متخصصون من أن بدء الإنتاج من أي كشف للغاز في البحر الأسود قد يستغرق ما يصل إلى عشر سنوات، وسيحتاج إلى استثمار مليارات الدولارات لتشييد بنية تحتية للإنتاج والإمدادات. وفق تقديراتهم.
وبحسب ما نقلت وكالة بلومبيرغ الأميركية، عن كبير محللي النفط والغاز في بنك وود أند كومباني فإن "السؤال الآن هو مقدار الغاز القابل للاستخراج؟ هذا ليس واضحاً بعد. ما تريد السوق حقاً معرفته أيضاً هو مقدار ما يمكن إنتاجه سنوياً؟ لكني لا أعتقد أن تركيا في وضع يسمح لها بقول ذلك حتى الآن".
كما كتب جون بولوس، رئيس تحرير موقع إنيرجي ريبورترز، قائلاً، "إذا كان هناك كشف حقيقي وجرى تطويره، فسيستغرق الأمر سنوات للوصول إلى مرحلة الإنتاج".
الأمر ذاته، رجحته "كابيتال إيكونوميكس"، معتبرة أن "هناك أسباباً للحذر. سيستغرق إنشاء البنى التحتية اللازمة لاستخراج الغاز وقتاً".
من جانبها، نقلت وكالة رويترز، عن صحبة كربوز، مدير شؤون النفط والغاز لدى مرصد المتوسط للطاقة الذي مقره باريس، قوله إن تركيا قد تمضي قدماً في قرارات استثمارية بشكل سريع. مضيفاً "العملية ستمضي بسرعة شديدة من حيث التمويل والوقت والإجراءات. ربما تكون هناك حاجة لمساعدة من شركات أجنبية من الناحية التقنية، لكني أرى 2023 هدفاً معقولاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل يتخلص الاقتصاد التركي من عبء واردات الغاز؟
رغم إعلان وزير الطاقة التركي فاتح دونماز، أمس السبت، أن بلاده تتوقع انخفاضاً كبيراً بوارداتها من الطاقة بعد اكتشاف كبير للغاز الطبيعي في البحر الأسود، فضلاً عن مزيد من الاكتشافات بمنطقة أخرى يتم تقييمها الآن. ترجح المصادر المتخصصة، أن يكون دور حقل "تونا_1"، إذا كان غازه قابلاً للاستخراج من الناحية التجارية، فإن نسبة تقليص الواردات لن تكون كبيرة في بلد تبلغ فاتورتها النفطية والغازية من الخارج نحو 41 مليار دولار، بحسب الإحصاءات الرسمية التركية للعام الماضي.
وكتب أوزغور أونلو حصارجكلي، مدير مكتب معهد "جرمان مارشال فاند" الأميركي بأنقرة، في تغريدة له، "أن الاكتشاف المعلن الجمعة لا بأس به على الإطلاق، لكن ذلك لا يغير المعطيات أيضاً".
من جانبها، ذكرت صحيفة "وول ستريت" الأميركية، أن الاكتشافات التركية الجديدة في البحر الأسود من شأنها أن تقلص حجم المشكلات الاقتصادية التي يعانيها الشعب التركي خلال الفترة الماضية، وأن خبراء الطاقة يأملون أن يكون غاز البحر الأسود حقيقياً ليشكل فارقاً في مواجهة الأزمات الهائلة التي تضرب الاقتصاد التركي. مؤكدين، أنه حتى الآن لا تستطيع أنقرة التأكد من جودة الغاز المكتشف أو وجوده بكميات كبيرة من الأساس.
وبحسب ما نقلت وكالة "أسوشيتد برس" الأميركية، عن خبراء طاقة، فإن حقل الغاز الطبيعي الذي اكتشفته تركيا "لا يكفي أبداً لتحويلها إلى مصدر عالمي للغاز الطبيعي، وأن الكميات الهائلة المعلن عنها غير منطقية، فما زال الأمر مبكراً لحسم الحجم الحقيقي للاكتشاف التركي".
وكتب رئيس قسم بحوث العملة في كومرتس بنك، أولريش لويشتمان، أنه "في حالة افتراض صحة الاكتشاف التركي فإنه لن يُحدث التأثير الكبير الذي يتوقعه البعض"، مضيفاً أن "الأمر يتطلب عادة عقداً كاملاً لاستخراج الغاز من أي كشف جديد، وأن المستثمرين يبدون متشككين في زعم أن الاكتشاف سيلغي العجز المالي التركي الحالي".
في المقابل، قال مكتب "كابيتال ايكونوميكس" في مذكرة، إنه رغم أن حقل الغاز الجديد الذي أعلنه أردوغان الجمعة "متواضع نسبياً مقارنة بحقول غاز طبيعية أخرى في العالم، فإنه سيساعد تركيا في خفض فاتورتها بمجال الطاقة".
ماذا نعرف عن الحقل الجديد؟
بحسب الحديث الرسمي للرئيس التركي ووزير الطاقة فاتح دونمار، وما نشرته وكالة الأناضول التركية، فإن حقل "تونا_1"، الذي ستتولاه مؤسسة البترول التركية (شركة طاقة مملوكة للدولة) يقع على بعد نحو 100 ميل بحري إلى الشمال من الساحل التركي غرب البحر الأسود.
وذكر دونمار، أن كشف الغاز يقع على عمق 2100 متر تحت الماء، مع مد الحفر 1400 متر إضافية تحت قاع البحر. ورجح هو وأردوغان، أن تبدأ عملية الإنتاج بالحقل المكتشف حديثاً في 2023، ففي كلمته أعلن الرئيس التركي، أن "هدفنا هو وضع غاز البحر الأسود بخدمة أمّتنا بدءاً من 2023"، وهو العام الذي ستحيي خلاله البلاد الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية.
وعشية إعلان الرئيس التركي، أن الحقل المكتشف حديثاً يضم 320 مليار متر مكعب (11.3 تريليون قدم مكعب)، كانت وكالة رويترز نقلت عن مصادر تركية، قولهم، إن أعمال التنقيب كشفت عن احتياطات الغاز في منطقة "تونا-1" الواقعة قبالة مدينة إيريجلي التركية، وأن "الاحتياطي المتوقع 26 تريليون قدم مكعب أو 800 مليار متر مكعب، وهو يلبي حاجات تركيا لنحو 20 عاماً"، لكنه حذر من أن بدء الإنتاج قد يستغرق من 7 إلى 10 سنوات، وقدّر التكاليف الاستثمارية بما بين مليارين و3 مليارات دولار.
وبحسب وكالة الأناضول ففي العشرين من يوليو (تموز) الماضي، بدأت سفينة فاتح التركية (أبرز السفن التركية، يبلغ طولها 229 متراً وعرضها 36 متراً، ودخلت الخدمة عام 2011) أول عملية تنقيب لها في حقل "تونا-1" بالبحر الأسود. وكانت سفينة الفاتح انطلقت يوم 29 مايو (أيار) الماضي من إسطنبول في طريقها إلى ولاية طرابزون، قادمة من شرق البحر المتوسط.
ويأتي الاكتشاف التركي وسط خلافات إقليمية حادة بينها وبين اليونان وقبرص شرق البحر المتوسط، إذ تصر تركيا على التنقيب في مياه متنازع عليها. وقد دخلت فرنسا على خط الأزمة وعززت وجودها العسكري.