خلط الحراك الشعبي في الشارع الطرابلسي، الذي دخل يومه الخامس، الأوراق في المشهد الليبي، بعد أيام من بوادر انفراج في أزمة البلاد، المتعددة الأبعاد والأطراف، فاتحاً باباً كبيراً للسؤال عما هو آتٍ.
وكان الحراك الذي تقوده منظمة مدنية شبابية، تعرف باسم "همة الشباب"، وأطلقت عليه اسم حراك 23 أغسطس (آب)، نظم تظاهرات شعبية، احتجاجاً على تردي الأوضاع في البلاد من كل النواحي، قبل أن تواجهه سلطات العاصمة بالعنف والتضييق، واعتقال غالبية القيمين عليه.
وفي محاولة لقمع الاحتجاجات، أغلقت حكومة الوفاق الوطني الشوارع في طرابلس الجمعة 28 أغسطس (آب)، وعملت على تفريق أي تجمّع للمحتجين الذين وجهوا دعوات لتظاهرة مليونية في ميدان الشهداء، فيما انتشر فيديو مصوّر على وسائل التواصل الاجتماعي سُمع فيه صوت إطلاق نار.
وفي سياق متصل، أعلنت حكومة الوفاق تعليق مهام وزير داخليتها فتحي علي باشا آغا للتحقيق معه بشأن التظاهرات الأخيرة، وكلفت وكيل وزارة الداخلية العميد خالد التيجاني مازن بتسيير مهام وزارة الداخلية في طرابلس.
وقال المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق في بيان إنّه قرّر "إيقاف وزير الداخلية فتحي علي باشا آغا احتياطيّاً عن العمل ومثوله للتحقيق الإداري أمام المجلس الرئاسي خلال أجَل أقصاه 72 ساعة من تاريخ صدور هذا القرار".
وسارع الوزير الموقوف عن العمل إلى إعلان امتثاله للقرار، مطالباً بأن تكون جلسة التحقيق علنيّة ومتلفزة. وقال في بيان "أتشرّف باستعدادي للمثول للتحقيق وكشف الحقائق كما هي، دون مجاملة ولا مواربة".
وطالب باشا آغا "بأن تكون جلسة المساءلة والتحقيق علنيّة ومنقولة إعلاميّاً على الهواء مباشرةً لإبراز الحقائق أمامكم وأمام الشعب الليبي".
وذكّر الوزير في بيانه بـ"اعتراضه" على "التدابير الأمنيّة الصادرة عن جهات مسلّحة لا تتبع لوزارة الداخليّة وما نجم عنها من امتهان لكرامة المواطن الليبي الكريم وحقوقه وإهدار دمه قمعاً وترهيباً وتكميماً للأفواه حيث لا قانون".
ومع إصرار الحراك على مواصلة الاحتجاج، على الرغم من ممارسات حكومة الوفاق ضده، بدأت تطرح في الأوساط السياسية والشعبية في ليبيا، تساؤلات عدة عن مآلاته المحتملة، هل تنجح حكومة الوفاق في لجم الغضب الشعبي، أم يحقق المتظاهرون مطلبهم برحيلها، أو على الأقل في دفعها لإجراء إصلاحات واسعة؟
والسؤال الأهم، هل سيبقى الحراك سلمياً؟ أم يواجه عنف الوفاق بعنف مماثل، يفجر الأوضاع في العاصمة والبلاد برمتها؟
لماذا خرج الحراك؟
حدّد الحراك في بدايته، مطالبه التي دفعته للخروج إلى الشارع للمناداة بها، متمثلة في مكافحة الفساد، الذي بلغ مستويات غير مسبوقة، وكان أحد أهم الأسباب التي قادت البلاد إلى أزمتها الاقتصادية الخانقة، باختفاء السيولة وإفلاس المصارف وارتفاع سعر الدولار، متسبباً في موجة غلاء أثقلت كاهل المواطن الليبي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبحسب الأرقام الصادرة، عن منظمات محلية ودولية، على رأسها بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، فإن أكثر من مئتين وخمسين مليار دينار (180 مليون دولار) بالسعر الرسمي للدولة، من احتياطي النقد الليبي، صرفت بأشكال مختلفة خلال العقد الماضي ولا يعرف مصيرها حتى الآن، بينها 232 مليار دينار ليبي حددت كميزانيات لحكومتي الراحل عبد الرحيم الكيب وخلفه علي زيدان بين عامي 2012 و2014، وحكومة الوفاق منذ عام 2015، من دون أن يعرف كيف صرفت وأين اختفت.
تصريح أشعل الشرر
وما يدعم تصريح غسان سلامة، هو أن ليبيا حافظت خلال العقد الأخير، على مرتبة ثابتة، بين أكثر عشر دول فساداً في العالم، بحسب التصنيف الدوري السنوي للأمم المتحدة.
تضخم غول الفساد
ومنذ استلام حكومة الوفاق مهامها، عقب توقيع اتفاق الصخيرات عام 2014، توضح الأرقام الرسمية، الصادرة عن مصرف ليبيا المركزي، أن أكثر من مئة مليار دينار ليبي، سيلت لها كميزانيات تسييرية، في السنوات الخمس الماضية، من دون حدوث أدنى تغيير على مستوى الأزمات التي تعيشها البلاد، التي تفاقمت في هذه السنوات أكثر مما سبقها، أو بروز أي من مظاهر النهضة التنموية في طرابلس، أو غيرها من المدن كما تشير بيانات الحراك الشعبي.
ونالت طرابلس نصيباً وافراً من تردي الخدمات، وتفاقم الأزمات المعيشية، حيث غرقت المدينة خلال الأشهر الماضية، في ظلام شبه تام، بانقطاع الكهرباء عن مناطقها، لفترات تراوحت بين 16 و18 ساعة، في اليوم الواحد، عدا عن حالات الإظلام التام، التي تحدث بالشبكة بين فترة وأخرى، وتؤدي إلى انقطاع التيار ليومين متتاليين في بعض الأحيان.
وسط هذه الحالة الاقتصادية والمعيشية المضنية، التي يعيشها المواطن الليبي، كان يشاهد ويسمع هذه الفترة، عن شبهات فساد ضخمة، لعدد من المسؤولين في الدولة وقادة الميليشيات.
أبرز هذه الملفات، تلك المتعلقة بما يعرف بقضية "الاعتمادات الوهمية للدولار"، وتتعلق بصرف مئات الملايين سنوياً، لمسؤولين وتجار مقربين منهم وقادة كتائب مسلحة، كاعتمادات تجارية لجلب البضائع والسلع المختلفة، بالسعر الرسمي للدولة الذي يساوي 1.5 دينار، وبيعها في السوق السوداء، مستغلين الفارق الكبير في السعر بالسوق الموازي الذي تراوح بين 4.5 دينار للدولار الواحد، ووصل في بعض الفترات إلى حاجز 10 دنانير للدولار الواحد، ويقف حالياً عند حاجز 6.5 للدولار.
سرقة العصر
من جهته، يشير علي جمعة المتخصص في الاقتصاد والعلوم السياسية، بجامعة بنغازي، لـ"اندبندنت عربية" إلى أن "ما يحدث في ليبيا من فساد، هو سرقة العصر في المنطقة كلها، وليس في ليبيا وحدها، فالأرقام الخاصة بالأموال المنهوبة، لم يسبق أن سمعناها في بلد آخر، في المنطقة باستثناء العراق ربما".
ويبيّن جمعة أن "القذافي ترك وراءه كنزاً من مختلف العملات، واحتياطي ذهب هو الأضخم عربياً، واستثمارات بالمليارات في كل أنحاء العالم، غالبيتها نهب وتقاسمه الفاسدون داخل البلاد وخارجها، حيث تخطت السرقة المال العام، ووصلت إلى المال المجمد في الخارج، بالتعاون بينهم وبين مافيات دولية، لنهب الأموال التي تحتجز في المصارف الخارجية بقرار أممي، وملف الأموال الليبية المنهوبة في بلجيكا قبل عامين، هو ملف صغير من بين هذه الملفات، وما خفي أعظم وأدهى وأمر".
ويرى أن هذا الوضع المزري والفساد المخيف، كان من أهم أسباب التحرك الشعبي للاحتجاج في طرابلس. مضيفاً "الفساد الذي طال كل مؤسسات الدولة، لم يسرق المال العام فقط، بل سرق حياة المواطن، الذي بات يخرج من أزمة ليدخل في أخرى، وبلغ به الحال وهو الذي يعيش في دولة نفط وغاز، أن عجز عن تأمين قوت يومه واحتياجات عائلته، وأمام هذا الوضع تفجرت ثورة جياع حقيقية، وصرخة غضب شعبية في وجه الفساد والفاسدين، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه".