أعلن الجيش الجزائري أنه يبذل مساعي حقيقية لإعادة الاعتبار إلى القوات البحرية، لتصبح قوة مثلما كانت في الماضي "يُحسب لها ألف حساب في البحر الأبيض المتوسط".
وجاءت هذه التصريحات من قائد الجيش على هامش مناورة بحرية لقاذفات صواريخ بالواجهة البحرية لوهران غربي البلاد، ضمن تمارين دورية تشارك فيها في العادة غواصات وقطع بحرية حديثة.
ولم تعدّ السلطات الجزائرية نياتها في التحول تدريجياً إلى لاعب عسكري مهم غرب البحر المتوسط، إلا بعد مسار تحديث استمر نحو عقدين من الزمن على ترسانة القوات البحرية.
وأتى تصريح قائد الجيش الجزائري، الفريق سعيد شنقريحة، ليكشف عن قرب عدم اكتفاء بلاده بتحديث قوات البحرية، بل الرغبة في تحوّلها إلى قوة ردع "يُحسب لها ألف حساب".
الردع أمام التحديات الطارئة
وذكر شنقريحة، وهو رئيس أركان الجيش، أن "القيادة العليا للجيش تسعى لإعادة الاعتبار إلى البحرية الجزائرية التي عاشت فترة ذهبية في تاريخنا المجيد، وكانت تمثل من دون منازع سيدة البحار الأولى".
وأضاف، من مقر الناحية العسكرية الثانية بوهران (400 كلم غرب العاصمة)، "أبعاد السعي الحثيث والجهود المكثفة والمتواصلة المبذولة من القيادة العليا للجيش لا ترمي فقط إلى الرفع من القدرات القتالية والعملياتية لقواتنا البحرية، باعتبارها رمزاً أكيداً من رموز القدرة على حماية مياهنا الإقليمية".
ولفت إلى "وضع القوات البحرية، على المسار الصحيح، وجعلها قوة رادعة فعلية، تتماشى سمعتها مع سمعة الجزائر المستقلة، ذات الجذور الثورية العريقة، وتنسجم قدرتها القتالية والعملياتية مع مختلف الرهانات والتحديات الطارئة، التي أصبح يعج بها عالمنا اليوم، وتتوافق بالأساس مع المهام الدستورية الموكلة إليها ضمن قوام المعركة للجيش، سليل جيش التحرير الوطني".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مسار تحديث
استمر مسار تحديث القوات البحرية الجزائرية نحو عشرين سنة، انهمكت خلالها القيادة العسكرية في تزويد الواجهات البحرية بفرقاطات تكوين وغواصات وبوارج، لكن المنعرج اللافت في أداء القوات البحرية سُجّل في أكتوبر (تشرين الأول) من السنة الماضية حين عاينت الجزائر قدرات قواتها على ضرب أهداف أرضية بعيدة المدى بصواريخ ذات دقة عالية، انطلاقاً من غواصات بحرية روسية متطورة.
وعملياً تملك الجزائر ست غواصات، منها غواصتان جديدتان من فئة 636، وهي نسخة حديثة من غواصات كيلو الروسية، إضافة إلى نحو 85 قطعة بحرية.
وفي عام 2018 تسلّمت الجزائر من روسيا غواصتين متطورتين تعملان بالديزل والكهرباء، تحملان طوربيدات للألغام، وصواريخ ومنظومة الدفاع الجوي "إيغلا"، وقد أطلق عليها الناتو اسم "الثقب الأسود"، لأنها مخفية.
ويُقر رئيس أركان الجيش بأن القوات البحرية جرى إيلاؤها برعاية خاصة. ويقول "جرى الاهتمام بالقوات البحرية، ومنحتها القيادة العليا ما تستحق من العناية والرعاية، سواء من الجانب التجهيزي وتوفير كل أنواع وأشكال العتاد المتطور، أو من ناحية توفير العنصر البشري الكفء، أو في ما يتعلق بالجانب المنشآتي".
في المقابل، يفيد العقيد المتقاعد عمار قداش لـ"اندبندنت عربية" بأن "مسار تحديث القوات البحرية تسارع بشكل لافت، بعد طي ما عُرف بمرحلة الإرهاب، حين استحوذت القوات البرية المقاتلة أرضاً على اهتمام القيادة العليا، واللافت في مسار تحديث القوات الجوية أنه يجري عبر شركاء متنوّعين، أبرزهم الشريك التقليدي روسيا، قبل أن تدخل الصين على مسار التعاون في مجال التكوين، وقد تسلّمت الجزائر عدة سفن بحرية للتكوين أشهرها السفينة المدرسة الصومام، قبل أن تتعاقد البلاد مع ألمانيا لتوريد فرقاطات سريعة، ضمن صفقة تجهيز كاملة هي الأولى لدولة خارج الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي".
ويرى قداش أن "الجزائر انتقلت بخطابها الرسمي من مفهوم تأمين حدودها البحرية إلى فكرة قوة الردع. أظن أنه أول تصريح في هذا المستوى لمسؤول عسكري، وهو إعلان عن التحول إلى لاعب ضمن ما يحدث من صراعات في البحر الأبيض المتوسط".
توجس إسبانيا
لا يعتقد العقيد المتقاعد أن "نيران البحرية الجزائرية تستهدف أي بلد في الجوار أو أي حسابات خارج مبادئ الجزائر المعروفة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، الأمر يتصل بقوة ردع، يمكنها المساعدة على صياغة خطاب دبلوماسي متفوق".
وبالفعل لم تصدر أي تعليقات دولية عن تنامي قدرات الجزائر البحرية، فقط بدا لإسبانيا أن الأمر يثير مخاوفها. إذ قال السنة الماضية الرجل الثاني في قيادة أركان القوات البحرية الإسبانية، الأميرال مانوال غاراث، إن بلاده "تعتبر نفسها معرضة للهجوم من الجزائر بالمستوى نفسه مع جارتها البرتغال".
في الفترة الراهنة لا ترتبط الجزائر بأي خلافات بحرية مع جيرانها في المتوسط، لكن أزمة ناشئة مع كل من إسبانيا وإيطاليا لا تزال حبيسة المفاوضات الدبلوماسية، بعدما أقدمت الجزائر على تحديد خرائط مناطق بحرية اقتصادية.
من جهة ثانية، يقول الأستاذ والباحث في الشأن السياسي عبد الرحمن العايب، لـ"اندبندنت عربية"، "تجهيز البحرية الجزائرية وتصريح قائد الجيش يستبقان التعديل الدستوري الذي قد يمنح الفرصة للجيش بأن يشارك في مهام أممية بالخارج".
ويضيف، "أتصوّر أن الجامعة العربية التي ذكرت في النص الدستوري المرتقب كإحدى الهيئات التي يمكن إسنادها بمهام عسكرية في حال طلبت ذلك، تمتلك اليوم أكبر قوتين بحريتين في المتوسط: مصر شرق المتوسط، والجزائر غربه".
ويرى أن "مسار تحديث الجيش الجزائري معروف منذ فترة طويلة، كما أن الميزانية السنوية للجيش هي الأكبر منذ عقود، مقارنة بباقي القطاعات الحكومية. الاختلاف أن التحديث انتقل من المنظومة الداخلية للجيش إلى منظومة الردع الخارجي في سياق إقليمي ملتهب. لا توجد حدود برية واحدة مع الجزائر لا تحتمل اضطرابات، عدا تونس".