ملخص
تحكي الروايات التاريخية عن استعمال الزعفران في التعطير والطب لأكثر من ثلاثة آلاف سنة، إذ عرفه المصريون القدماء، وتسرد الأساطير مرويات عن استحمام الملكة كليوباترا في مياه مليئة بالزعفران ليعطي بشرتها بريقاً.
قضت عليه الحرب قبل عقد من الزمن، وأحالت لون مواسمه الحمراء وأوراقه البنفسجية الهادئة إلى اللون الأسود الحالك بفعل البارود والقصف، والآن يعود الزعفران السوري إثر تجارب فردية خجولة لزراعته خلال الأعوام الأخيرة هنا وهناك على امتداد الأراضي السورية لتشرق بارقة أمل بإنتاجه مجدداً.
تحكي الروايات التاريخية عن استعمال الزعفران في التعطير والطب لأكثر من ثلاثة آلاف سنة، إذ عرفه المصريون القدماء، وتسرد الأساطير مرويات عن استحمام الملكة كليوباترا في مياه مليئة بالزعفران ليعطي بشرتها بريقاً.
وكذلك استخدمه الرهبان في العصور الوسطى بمزجه ببياض البيض ليحل مكان أوراق الذهب، وعمدت الإيطاليات الثريات إلى صبغ شعورهن به في عصر النهضة، وفي وقت ما حظي بشهرة واسعة في جنوب غربي آسيا، ويقال إنه زرع للمرة الأولى في اليونان، وقطفت إيران المركز الأول في إنتاجه متفوقة على إسبانيا والهند والمغرب.
منذ أعوام يحاولون
في سوريا، بدأت نتائج الجهود المتناثرة من مختلف الأرياف تؤتي أكلها، من طرطوس في الغرب يروي المزارع آصف مهنا من بلدة دريكيش لـ"اندبندنت عربية" كيف اختبر زراعة الزعفران منذ خمس سنوات من خلال متابعة برامج زراعية، لكنه بعد مرور عام من اختبار طبيعة الأرض ومناسبة النبات والتربة وتأكده من عوامل النجاح، استقدم عدداً إضافياً وكبيراً من الكورمات (البصيلات) تجاوزت الـ30 ألفاً بكلفة 20 مليون ليرة سورية (ما يعادل 1300 دولار)، ليحصد ما زرعت يداه مع زيادة الإنتاجية.
وتنتشر هذه الزراعة من جديد في قرية بيت يوسف حتى وصلت هذا العام إلى مساحة 15 دونماً (الدونم يساوي 1000 متر مربع) في الأقل، واستطاعت توريد البصل الخاص بالزعفران إلى بقية المحافظات، أما بالنسبة إلى إنتاج المواسم فالعمل مستمر على إنتاج الأفضل من بينها من نوع "سوبر نقين"، وهو الأجود بحسب وصفه.
ويتوقع المزارع مهنا أن يحظى المنتج بمساحة في السوق المحلية، مع التطلع خلال عامين إلى أن يصل الإنتاج إلى حد يؤهله مع بقية مزارعي الزعفران للتصدير، وترافق ذلك مع إجراء تراخيص تعبئة وتغليف المنتج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"بقيت لدينا بعض الإجراءات لم تنتهِ بعد وتتعلق بتسعير المنتج داخل البلد"، قال المزارع مهنا الذي يرجح في الوقت ذاته بلوغ نسبة جيدة للجدوى الاقتصادية من ناحية تسويق الكورمات والمواسم على حد سواء.
يأتي ذلك في وقت عمدت جمعية أهلية تطلق على نفسها "بستان الصوج للزعفران" في طرطوس، بالتعاون مع الأمانة السورية للتنمية واتحاد الفلاحين، على تدريب المزارعين وعددهم 40، والعمل على نشر ثقافة زراعة النبتة في قرى مثل المحيلبة وقلعة الشيخ وعين الذهب ومشتى الحلو وبصيرة الجرد وعين الشمس وغيرها.
على امتداد الريف
في غضون ذلك، دخل مزارعو الزعفران في سباق مع الزمن لإنتاج بصيلات النبات في كثير من المحافظات، بحيث انتقل العمل من نشاط فردي إلى عمل تشاركي بين مجموعات بإشراف شركات زراعية متخصصة، ومن بينها تجربة شركة "قمح السورية" لزراعة أرض تقع في قرية دبسي عفنان في ريف محافظة الرقة (تبعد من مدينة الرقة 70 كيلومتراً).
وبحسب المعلومات الواردة من المشرفين على مشروع إنتاج الزعفران، فقد حقق نجاحاً في العام الأول بعد زراعة 20 ألف نبتة على مساحة ألفي متر مربع وكانت النتيجة 15 إلى 20 غراماً، لترتفع الكمية في العام التالي ويعطي كيلوغراماً بالدونمين، أي إن إنتاج الدونم الواحد نصف كيلوغرام، مما يساوي خمسة كيلوغرامات من إنتاج هكتار (الهكتار يساوي 10000 متر مربع) واحد، بينما المعدل العالمي 4.3 كيلوغرام في الهكتار.
ويتوقع متخصصون في "مجموعة قمح" (شركات نشأت في مرحلة الاستقرار والتعافي بمدينة حلب متخصصة في مجالات الإنشاء وتأهيل المدن والأوابد التاريخية والاستثمار ودعم الثروات الزراعية وتنميتها) مضاعفة الإنتاج أكثر مع إجراء بحوث عدة، وصولاً إلى 15 كيلوغراماً في الهكتار، أي أربعة أضعاف المعدل الوسطي.
وينصح المستشار في الشؤون الزراعية في "مجموعة قمح" محمد لؤي مكي بتحليل التربة لمعرفة تركيبها الكيماوي قبل البدء بمشروع الزراعة، إضافة إلى معرفة البنية الخاصة بالمحاصيل الدرنية والبصيلية وزرع من 50 إلى 60 ألف كورمة بالدونم الواحد.
ويجزم مكي لـ"اندبندنت عربية" بنجاح زراعة الزعفران في مواقع كثيرة من سوريا، فالبصيلة تعطي خمس إلى ست كورمات، متوقعاً زيادة الكميات خلال الأعوام المقبلة مع البدء بالاهتمام بهذه الزراعة، في حين وصل الإنتاج العالمي إلى أكثر من 400 طن سنوياً، 90 في المئة منها تنتج في إيران والمغرب وإسبانيا.
نهضة المواسم الذهبية
في الأثناء، تتوافر معلومات عن انتشار زراعة الزعفران في كل المحافظات، ويفسر المتخصصون ذلك بأن الأصول البرية موجودة في جبال سوريا، الموطن الأصلي له، من الجبال الطورانية (تمتد بين سوريا والعراق وإيران) إلى حمص وحماة وطرطوس وحلب وريفها والرقة وأقصى الجنوب باتجاه الغرب، وهناك تجارب أخرى في السويداء ودرعا، ما عدا البادية.
وبالحديث عن التجارب، عكفت غرفة زراعة حمص على إنتاج كورمات بمواصفات إنتاجية موثوقة لبيعها إلى المزارعين قبل خمسة أعوام وبمشاركة ما يقارب 100 مزارع تحت متابعة فريق فني متخصص، وتمكنت أيضاً من إنشاء مشاريع زراعية في مناطق الحواش والبريج وربلة.
إزاء ذلك، ما زال الزعفران من أغلى التوابل عالمياً، ويعزو المستشار الزراعي مكي ارتفاع سعره إلى أسباب عدة من ناحية قيمته الطبية العالية والحجم الكبير لليد العاملة المطلوبة نتيجة الزراعة الكثيفة لقطف الأزهار، وأي خلل يمكن أن يسبب انخفاضاً في درجة أو نوعية الزعفران.
في المقابل، يلفت المزارع آصف مهنا إلى أن زراعة الزعفران تتطور في قريته لأن هذا المنتج شتوي، ولا يعطل الزراعة الصيفية التي تعتمد عليها غالبية العائلات، والجميل في الأمر أن جميع أفراد الأسرة يشاركون في عملية الإنتاج، فالتعامل مع أزهار الزعفران مستحب ولطيف، بحسب رأيه.
وتتنامى فوائد الزعفران الاستشفائية على الأوعية الدموية والقلب، وأثبتت التجارب أنه يعطي مناعة ضد "كوفيد- 19" وفيه 100 مركب أهمها "الكورسين" و"البورو كورسين" و"السورفال" ومركب يعطي صبغة عالية الجودة كانت تستخدم لأثواب الكهنة في الهند.
تحديات الطبيعة وأعداؤها
ويواجه المزارعون تحديات عدة من بينها ما يتعلق بتسويق المنتجات، إذ إن تجارة بصيلات الزعفران لها حد معين من الأعوام، وسيبقى تسويق المواسم هو المبتغى، لذلك يعكفون بدقة على إنتاج مواسم عالية الجودة.
"غايتنا دخول السوق العالمية"، أوضح المزارع مهنا، ومن التحديات التي يسردها أيضاً عدم استخدام السوريين للزعفران في أطباقهم كبقية الدول المجاورة، بل يتعاملون معه كدواء فيشترونه للاستشفاء فقط.
ويقول "كثر الحديث عن أسعار الزعفران، وفيها شيء من المبالغة، ولكن ثمن كيلو المواسم في أحسن الأحوال 45 مليون ليرة، (3 آلاف دولار)، علماً أن ثمنه العالمي أعلى بكثير، وقد ينتج الدونم كيلوغرام مواسم لكن بعد أن تكبر البصيلة سنوات عدة".
ويشرح مكي أن "من صعوبات التسويق ارتباطه بكميات قليلة بينما الإنتاج العالي تفتح له الأسواق العالمية، ومن المتوقع زيادة الطلب عليه محلياً"، ونصح بإيجاد التربة المناسبة في المقام الأول عن طريقة تحليلها وإضافة الأسمدة العضوية، بخاصة أنها توابل غنية، علاوة على أنها تستخدم لنواحٍ علاجية.
وأسدى مجموعة من النصائح يجب أن يتوخاها مزارعو الزعفران بالقول "لا تفضل زراعته في الأماكن الماطرة لأنها تسبب غرق التربة وتنتج أمراضاً فطرية مع زيادة الرطوبة، لهذا يزرع في الأماكن الهامشية ويعطى رياً تكميلياً مع تأخر الأمطار، والأمر يختلف من منطقة لأخرى، وزراعتنا كانت في الشهر الـ10، وحالياً هناك إنبات كامل، والقطاف متوقع مع رأس السنة".
وأشار مكي إلى أن "حيوان الخلد أخطر ما يتعرض له نبات الزعفران لأنه يتغذى على الكورمات، ولجأنا إلى توفير المصائد وتسييج الأرض حتى أسفل التربة بنحو 30 إلى 40 سنتيمتراً، بالتالي لا يمكن اختراقها. والنمل أيضاً أحد الإصابات الحشرية، وعمليات السقاية المنتظمة يمكنها إبعاده".
وتابع أن "كل 150 زهرة تنتج غراماً من المواسم الجافة بشرط التجفيف في الظل والقطاف باكراً قبل سطوع الشمس، وهو يزهر في نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول) ويناير (كانون الثاني)، وينتهي نشاطه في فبراير (شباط)، وفي بعض المناطق يمكن ألا نعتمد على المواسم عبر الاستفادة من إنتاج الكورمات، وهكذا يمكن إنتاج وحدات تكاثرية".
أضاف أن "الزعفران لا يحتاج إلى أراضٍ مروية ومساحات واسعة بل هامشية، لكن لا بد من التعويل على الأرض من خمسة إلى 10 أعوام لأنه نبات معمر، ونشاطه من أربعة إلى خمسة أشهر وبعدها فترة سكون طويلة تمتد من الربيع إلى الصيف، ولا بد من عدم زراعته تحت الأشجار لأنه محب لضوء الشمس وزراعته في أماكن ظليلة يؤدي إلى انخفاض الإنتاجية والنوعية".