لم أتردد أبداً في اعتقادي أن قصيدة التفعيلة مازالت، وغالباً ما ستظل، قادرة على العطاء والتجدد، بل، إنني أذهب إلى أن ما يعرف بالقصيدة "العمودية" مازالت هي الأخرى تمتلك هذه القدرة، والأمر كله يعود إلى موهبة الشاعر، الذي يستطيع تطويع الشكل وتجاوزه إلى "جوهر" الشعر. وآية ذلك المختارات الشعرية للشاعر الإماراتي الراحل حبيب الصايغ، الصادرة حديثاً في ذكرى رحيله الأولى عن مؤسسة سلطان العويس تحت عنوان "وردة الكهولة"، وهو عنوان يوحي بداية بإحساس بالزمن، ليس قاتماً أو قانطاً حيث يجعل للكهولة – هذه المرحلة المتأخرة من العمر – وردتها، أو لنقل قصيدتها على سبيل الاستعارة التصريحية. ومن البداهة أن نقول إن تيمة الزمن لا تظهر فحسب في ذلك العنوان، فهناك العديد من القصائد التي يصبح فيها الزمن عنصراً فاعلاً في تشكيلها مثل "أغلب الوقت"، و"سنة ما"، و"سهرة رأس السنة"، و"دم الوقت". يقول في "أغلب الوقت": "ليل/ شكل/ وفي أغلب الوقت/ وقت بلا أغنيات يمر ولا ينتهي/ وليل كأن دماء تسافر في قلبه/ قلبه واضح في غموض الطريق/ في سؤال الصديق/ وفي أغلب الوقت/ وقت مضى أحبك لم أجد الوقت حتى أحبك/ أو أتأمل وجهك/ لم أجد الوقت في أغلب الوقت".
قلب الليل
من الواضح أن الليل هو الزمن المهيمن فى هذه السطور، وهو دال كثير التردد في الشعر العربي منذ أن شبهه امرؤ القيس بموج البحر، الذي أرخى سدوله عليه بأنواع الهموم حتى أصبح ملاذ أغلب الرومانسيين، الذين رأوا فيه ستاراً يحجبهم عن العالم. لكن "ليل" حبيب الصايغ يبدو مفزعاً "كأن دماء تسافر في قلبه". واقتران الليل بالدماء يصنع حالة لا تتيح للشاعر ممارسة الحب، أو أن يتأمل حبيبته بعد أن أصبح "في زحمة الشغل والموت". والحقيقة أننا أمام نص شديد الكثافة يوحي أكثر مما يقول، ويلمح أكثر مما يصرّح، معتمداً على ما يمكن أن نسميه بالتدويم الإيقاعي من خلال هذا التكرار اللافت لعبارة "أغلب الوقت". وإذا كان الوقت/ الليل، قد بدا على الصورة السابقة، فإن العمر – تحديداً – أصبح شبيهاً بحفرة سحيقة مظلمة، يقول في قصيدة "حتى لا": "حفرة العمر/ سحيقة ومظلمة/ وأنا أنزل فيها/ درجة درجة/ حتى لا تتعثر رجلي/ وأقع على ظهري/ من شدة الضحك". والمفارقة الساخرة واضحة بين بداية القصيدة ونهايتها، فالشاعر لا ينطلق من حس تراجيدي في تصويره لحفرة العمر التي ينزلها بطيئاً حذراً، بل ينطلق من حس ساخر من ان العالم، وهو – بذلك – يعلو على فداحة الحياة ولا يستسلم لها. إنه الإيمان بقدرة الإنسان مهما بدت هامشيته. ويظهر ذلك فى قصيدة "الإسكافي"؛ هذا الإنسان الهامشي الذي يجعله الشاعر قادراً على ابتكار خطاه. يقول الصايغ، "مطر كأن الأرض تسكب ماءها في وجهه/ لكنه يمضي إلى غاياته القصوى/ ويبتكر الخطى".
يتوقف الشاعر أمام ما يبدو جزئياً؛ الغصن مثلاً، لا الشجرة ولا الغابة، فيفرد له القصيدة الأولى تحت عنوان "غصن من؟"، وهي صيغة استفهامية توحي بحيرة الشاعر في تحديد كنه هذا الغصن الذي "يرتدي خضرة الأرض/ يمضي إلى زرقة الصيف/ يمضي إلى حفلة العمر ظمآن يسكره همسه/ وتناغيه أشياؤه الداخلية/ يمضي وآخره واهب أوله". فعلى كثرة الصفات المنسوبة لهذا الغصن يظل غامضاً ويبقى من الواضح – فقط – انتسابه إلى عالم الطبيعة وعالم الإنسان، وهو ما يجعله رمزاً عاماً قابلاً للتأويل على أكثر من وجه.
الغزالة - القصيدة
لا شك أن هذه إحدى استراتيجيات حبيب الصايغ الشعرية، كما نلحظ – أيضاً – في توظيفه لدال الغزالة في القصيدة نفسها حين يقول: "على قدر ما تتفجر أخيلة النبع عن بذرة الماء في لفتات الجسد/ وعلى قدر ما أنتهي أو أردد معناك/ معنى الغناء المهم/ ومعنى الغزالة في ركضها نحو أوهامها ولذاذاتها". إن وجود بعض الدوال مثل النبع والماء يرجح أننا أمام غزالة حقيقية، لكن معنى "الغناء المهم" يحيلنا إلى عالم الشعر وبهذا التأويل تصبح الغزالة مرادفة للقصيدة، بخاصة مع إضافتها إلى "المعنى". ويبدو أن الركض نحو الأوهام واللذاذات والغايات القصوى تيمة متكررة عند الشاعر ففي قصيدة "استدراج" يتحدث عما يسميه بحصان الأماني، الذي "تلعثم في ركضه" والذي تجسد في "دمعة القلب/ حلم الفتاة"، وهو ما يعد تمهيداً لأن تتحول هذه الأماني إلى منايا، وأن يسترجع الشاعر متاهاته منذ عصر المطايا إلى عصر المطارات، وهو ما يجعل الحياة – في رؤيته – أشبه بالنفق الذي يبتلع الجميع. يقول واصفاً هذه الحالة: "عشرات تدخل من هذا الجانب/ ومئات تخرج من هذا الجانب/ عرب وأجانب/ هل يخرج من يدخل/ أم يتداعى بعض الناس/ فى تجربة أو أغنية أو إحساس؟/ أو معركة؟/ ها نحصي الداخل من هذا الجانب/ والخارج من هذا الجانب/ ونعد المفقودين؟". والملاحظة الأولى على هذه القصيدة هي شيوع الفعل المضارع ما يدل على الحركة الدائبة دخولاً وخروجاً، وما يترتب عليها من تداع وفقد.
إننا أمام مكان أشبه باللعنة، التى لا يملك أحد فراراً منها سوى الخروج المؤقت والسقوط الحتمي في النهاية. وبالحديث عن النفق نكون أمام العنصر الشعري الثاني وهو المكان الذي يظهر في قصيدة "الرايات" المعبرة عن الدمار والسقوط. يقول: "شرق بيتي أقاليم منسية/ وحدائق آيلة للسقوط/ شرق بيتي/ شوارع آيلة للسقوط/ شرق صوتي/ مدارس قد سقطت/ أين نكمل درس القراءة؟/ قال فتى مارد/ راسماً في كتاب صغير طفولته المقبلة/ مطر وشتاء/ وبينهما غيمة الحزن تضحك/ والآنسات الجميلات/ ينشرن أعمارهن على الشرفات".
المكان الحلم
المكان محدد بشرق البيت، ثم يحدث انحراف دلالي حين يستخدم ما يسميه بـ"شرق الصوت"، ثم تتوالى علامات الدمار، الأقاليم المنسية، الحدائق والشوارع الآيلة للسقوط، والمدارس التي سقطت، ومع ذلك يفتح الشاعر نوافذ الأمل المتمثل في غيمة الحزن الضاحكة، وفي تلك الآنسات اللائي ينشرن أعمارهن انتظاراً لمستقبل مغاير. وهناك ما يمكن أن نسميه بالمكان الحلم وذلك في قصيدة "بيوت"، التي تظل معلقة في فضاء/ خيال المهندس منذ طفولته وتعتمد القصيدة على بنية سردية تتطور فيها الأحداث من الخيال إلى أرض الواقع ومن الطفولة إلى الموت. وأتصور أن بيوت المهندس هنا مرادفة لأبيات الشاعر، التي تظل هي الأخرى معلقة في فضائه/ خياله حتى تتجسد في تشكيلاتها المجازية.
هكذا يظل الإبداع هو الفعل المقاوم لفناء الإنسان وفناء العالم، الذي يتولد فيه الموت فجأة كما يبدو في قصيدة "المرايا"، حيث "تدلت من السقف النظيف أعداد هائلة من الثآليل والبثور/ والجماجم والقبعات". وفي "لحظات قتل" التي تتكون من مقاطع أقرب إلى نمط "الأبيجراما"، نقرأ مثلاً، "قالت المشنقة لربطة العنق، أنا موضة هذا العام"، أو "الشجرة الخضراء/ مشروع تابوت"، أو "ماذا تعني ولادة جدي جديد في بيت القصاب".
تتداخل علامات الموت مع علامات الحياة والولادة مع القتل، ويمكن القول أخيراً إن الشعر عند الصايغ يرتبط بنظرية التعبير، وخلع مشاعر الذات على الأشياء، والتزام وحدة التفعيلة وتواتر القافية، ما يقرب القصيدة من طبيعة النشيد؛ لكنه النشيد الذي يصبح معه الشاعر مغنياً خارج السرب، ومغادراً جماعة الكورس حيث يمضي بمفرده بعيداً.