أدى إعلان السلطات المصرية تمكنها من القبض على محمود عزت، القائم بأعمال المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، إلى غياب "رأس" التنظيم العابر الحدود الذي تخوض الدولة المصرية معه حرباً شرسة منذ إطاحته عن سدة الحكم في صيف 2013 بثورة شعبية دعمها الجيش المصري، وإعلانه تنظيماً إرهابياً في مصر بعد سلسلة من الهجمات العنيفة التي شهدتها البلاد خلال السنوات الماضية، واتهمت الجماعة بتنفيذها أو بالتحريض عليها، مما أثار تساؤلات المراقبين حول مصير هرم القيادة سواء في الجماعة التي كان يتولى فيها عزت مهام "المرشدية"، وهو أعلى موقع تنظيمي بها، أو فيما يسمى "التنظيم الخاص" أو السري الذي يُنظر إلى عزت فيه باعتباره "الصندوق الأسود" والقائد الذي أعاد تأسيسه بعد أن جرى القضاء على هذا الجناح السري والقيادي في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر في خمسينيات القرن الماضي.
وأعلنت وزارة الداخلية المصرية بياناً، صباح الجمعة، قالت فيه إنه "استمراراً لجهودها في التصدي للمخططات العدائية التي تستهدف تقويض دعائم الأمن والاستقرار والنيل من مقدرات البلاد، ورصد تحركات القيادات الإخوانية الهاربة التي تتولى إدارة التنظيم الإخواني على المستويين الداخلي والخارجي، فقد وردت معلومات لقطاع الأمن الوطني باتخاذ القيادي الإخواني الهارب محمود عزت القائم بأعمال المرشد العام للإخوان ومسؤول التنظيم الدولي للجماعة الإرهابية من إحدى الشقق السكنية بمنطقة التجمع الخامس بالقاهرة الجديدة أخيراً وكراً لاختبائه، على الرغم من الإشاعات التي دأبت قيادات التنظيم الترويج لها بوجوده خارج البلاد بهدف تضليل أجهزة الأمن".
ماذا يعني القبض على عزت؟
يرى إسلام الكتاتني، الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية والقيادي الإخواني المنشق، أن إلقاء القبض على عزت لا يضاهيه أي نجاح أمني آخر في ما يتعلق بملاحقة القيادات الإخوانية الهاربة، وأكثر أهمية في حد ذاته من إلقاء القبض على محمد بديع آخر مرشد للجماعة قبل الإطاحة بها عام 2013.
وقال الكتاتني، في تصريحات خاصة إلى "اندبندنت عربية"، إن ما جرى الإعلان عنه، فجر الجمعة، يمثل "ضربة قاصمة لجماعة الإخوان، وهي الضربة الثانية المؤثرة، لأن الضربة الأولى كانت مقتل محمد كمال مسؤول اللجنة الإدارية للجماعة في الرابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2016، لأن كمال كان المرشد الحقيقي أو التنفيذي لجماعة الإخوان، وكان مسؤول اللجنة الإدارية العليا المسؤولة عن مجموعات العمل النوعي، وكان رئيسه المباشر محمود عزت، ثم تولى محمد عبد الرحمن المرسي، وألقي القبض عليه، بينما يعتبر علي بطيخ هو المسؤول عن مكتب الإخوان بالخارج حالياً. أمّا اللجنة الإدارية العليا فقد اختلفوا مع القيادة التاريخية التي تشمل عزت ومحمود حسين الأمين العام للجماعة الموجود بالخارج، وإبراهيم منير المقيم في لندن، وكذلك طلعت فهمي المقيم في تركيا، بمعنى أنه لم يبقَ أي شخص من هذا الوزن في مصر".
رأس التنظيمين "السري" و"الدولي"
وأضاف الكتاتني أن القبض على عزت "أهم بكثير من إلقاء القبض على محمد بديع المرشد السابق، الموجود حالياً بالسجن منذ 2013، لما يمثله محمود عزت في الملفات السرية التي كانت تحت يده في نشاط الجماعة التي لا يعلم عنها الكثير، وعلى رأسها النظام الخاص، وهو التوأم التنظيمي للخلايا النوعية التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة تحت مسميات مختلفة، وهما الجناحان المسؤولان عن العنف الذي شهدته مصر خلال السنوات الأخيرة، وهذا النظام الخاص يختلف عن الهيكل التنظيمي الهرمي للجماعة الأم، لأنه نظام خاص يقوم على الخلايا العنقودية الشبكية، وكل دائرة في هذا النظام لا يعلم بقية الهيكل التنظيمي الذي يتبع أشكالاً غير تقليدية، كما يعد عزت رأس التنظيم الدولي للجماعة باعتباره القائم بأعمال المرشد، الذي يتولى اتصالات الجماعة في الداخل والخارج، وليس كما يروّج البعض بشأن الشخصيات الموجودة في المملكة المتحدة أو تركيا فقط".
عودة مشهد 1954
عرف تاريخ الدول المصرية مع جماعة الإخوان أحداثاً مفصلية، كان أبرزها الصدام الأول، بعد ثورة عام 1952، الذي استهدف بالأساس القضاء على التنظيم السري للجماعة، وهو ما لم يحدث إلا من خلال سقوط أشخاص على وزن عزت من القيادات الكبرى في العمل السري. وأشار الباحث في شؤون الجماعة إلى أن التنظيم الخاص "كان موجوداً أيام مؤسس الإخوان حسن البنا في الأربعينيات، وجرى الانتهاء منه عام 1954، وعاد من جديد ليس في السبعينيات بمجرد خروج قيادات التنظيم من السجون، لكن عندما أصبح مصطفى مشهور مرشداً للجماعة، تحديداً في عام 1996، إذ أعاد توحيد ممثلي الفكر القطبي المتشدد الذي يشتهر بنزعة التكفير، وأعيد بناء التنظيم الخاص على يد المرشد مشهور، وهيمن أعضاء النظام الخاص على جسم القيادة في الإخوان مثل مكتب الإرشاد ومجلس شورى الجماعة وغيرها، وهيمنوا على مفاصل القيادة منذ تولي مشهور المرشدية".
ويجزم الكتاتني، الذي سبق له الانتماء تنظيمياً إلى الإخوان، أن أهم شخصين في التنظيم هما خيرت الشاطر ومحمود عزت، معتبراً أن ما حدث تطور كبير جداً، رغم أن الجماعة في أضعف حالاتها، والنظام المصري سيطر على المشهد، وجرى استعادة الاستقرار بعد موجات عنف متصاعدة، لكنّ أسراراً كثيرة في ما يتعلق بالنظام الخاص يعتبر عزت هو صندوقه الأسود، كما كان عبد الرحمن السندي الصندوق الأسود للنسخة الأولى من هذا النظام، عندما قُبِض عليه في الخمسينيات، وهو من سلّم كل عناصر النظام الخاص إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بعد صدام الجماعة معه، كما أن محمود عزت هو الرجل الحديدي في الإخوان مع خيرت الشاطر، والقبض عليه خبر مدو، وأشبه ما حدث اليوم بما حدث أيام 1954، حيث أسفر سقوط السندي عن انهيار النظام السري للإخوان كنوع من أنواع الخدمة التي قدمها لعبد الناصر ككنز أسرار يتيح معرفة كل شيء عن التنظيم الخاص.
نهاية قيادة الإخوان
يجادل بعض الباحثين في شؤون الإسلام السياسي بأن الجماعة ماتت إكلينيكياً بالقبض على "الصقر التنظيمي"، وأبرز رموز "القيادات التاريخية" للإخوان، وهم شريحة عليا من قيادات الإخوان، ونشأ خلال السنوات الأخيرة صراع مزدوج بينها وبين الدولة المصرية من جانب، ومن يطلق عليهم "شباب الجماعة" من جانب آخر، وهو ما يطرح تساؤلات حول نهاية القيادات التاريخية، ومن ثمّ غياب قمة الهيكل التنظيمي ككل، في ظل وجود أغلب قياداتها بالسجون التي شهدت وفاة بعضهم، كان آخرهم عصام العريان في وقت سابق هذا الشهر.
ويرى اللواء فاروق المقرحي، مساعد وزير الداخلية الأسبق، أن عزت هو "المؤسس الأول للجناح العسكري أو التنظيم المسلح في جماعة الإخوان في عودتها الثانية عندما أخرجهم الرئيس أنور السادات من السجون عام 1972، والذي أنشأ التنظيم المسلح هو محمود عزت إبراهيم، وهو إرهابي حتى النخاع، وهو الذي كان يقود الإخوان في كل أشكال العمل الإرهابي والسري كله، وجميع الأحداث التي وقعت في القطر المصري منذ عام 2013، وحتى يومنا هذا كان عزت ضالعاً فيها، وصدر بحقه عدة أحكام، منها حكمان بالإعدام، وستعاد الإجراءات القضائية، لكن كل التهم تشير إلى أن الإعدام ينتظره، بما يعني نهاية قيادة الجماعة إلى الأبد، وعدم إمكانية اختيار مرشد آخر يحظى بنفس مكانة وإجماع القيادات التاريخية التي كان عزت آخرها".
وتابع المقرحي أن عملية ضبط عزت "تعتبر حجر الزاوية في تحطيم الإخوان، فقد كانت الجماعة متماسكة، لأن من يقوم بأعمال المرشد هو عزت، وليس عاكف أو بديع، المتحكم من الناحية التنظيمية هو محمود عزت، ومن الناحية المالية خيرت الشاطر ومعه حسن مالك، والاثنان مسجونان حالياً، فلم يعد هناك عمود فقري للتنظيم سوى عزت".
وقال أحمد الخطيب، الصحافي المصري المتخصص في شؤون جماعة الإخوان في تصريح خاص، "التنظيم أصبح بلا رأس"، بالقبض على محمود عزت، مشيراً إلى أنه لم يبقَ سوى "إبراهيم منير الذي يعد المرشد في الخارج، والقبض على محمود عزت يؤكد وفاة التنظيم في مصر، وعزت هو مؤسس التنظيمات العنقودية، لأنه هو نفسه كان محرضاً ومحركاً غاية في الخطورة، ويمتلك الصندوق الأسود لتنظيم الإخوان، ويمثل صيداً ثميناً، لذلك فخبر القبض عليه يعني أن التنظيم شيع جثمانه رسمياً في القاهرة، ويمكن القول الآن مصر بلا تنظيم الإخوان المسلمين، وستكشف الأيام المقبلة التقاطعات الخاصة بالتنظيم مع الدول الأخرى، وهذا يؤكده دور عزت كمرشد فعلي للجماعة ومسؤول أول عن عملها السري".
أين كان عزت خلال 7 سنوات؟
وأكد اللواء المقرحي، الذي عمل سنوات في ملف مكافحة التنظيمات الإرهابية في مصر، أن القائم بأعمال مرشد الإخوان لم يلقَ القبض عليه سوى فجر يوم الجمعة في مصر، نافياً كل الأحاديث حول إمكانية تأخر إعلان القبض عليه، والتفسيرات المتضاربة حول قدرته على الاختباء طوال هذه السنوات في مصر، أو علاقة توقيت الإعلان عن القبض عليه بالتطورات المتعلقة بوضع الجماعة دولياً، ودورها في إطار الاحتكاك بين مصر والدول الداعمة لتنظيم الإخوان في ساحات إقليمية عديدة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقالات ذات صلة الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضاف أن اختفاء عزت ارتبط بعملية تمويه ضخمة وعمل سري شاق للتنظيم الخاص للجماعة، تورط فيه عدد ليس قليلاً من أعضاء هذا التنظيم، مضيفاً "عملية ضبطه ومعه عشرات الهواتف والحواسب والأجهزة المشفرة والأوراق التنظيمية، تمثل كنزاً كان غائباً، وجرى كشفه، ويدل على قدرة التنظيم الكبيرة على إخفاء قيادته عن الأمن، والتمويه والتضليل، إذ ادعى عزت نفسه الهرب إلى غزة، أو ظهر حديث عن وجوده في ليبيا، ثم الاستقرار في قطر، أو أنه ذهب إلى السودان ولندن واليمن، والأجهزة الأمنية لم تنطل عليها هذه المقولات، فهو ظل في مصر، والمجموعة الأمنية التي كلفت متابعة القائم بأعمال المرشد تمكنت من ضبطه فجر الجمعة، وانتهت أسطورة محمود عزت وجماعة الإخوان إلى الأبد، إذ إن عزت كان مثل الأسد العجوز الذي يدير كل الأمور بسرية، وفي خفاء تام".
وأوضح أن "عملية الضبط مسجلة بالصوت والصورة، وموجودة أمام نيابة أمن الدولة العليا، وجرت تحت سمع وبصر النيابة العامة، وهناك إذن بتفتيش الشقة التي كان يقيم بها بالتجمع الخامس، وتمت مداهمتها من ضباط الأمن الوطني والقوات الخاصة من دون إطلاق طلقة واحدة".
ما مصير تنظيم الإخوان بعد سقوط المرشد الفعلي؟
وشدد المقرحي على أن "القيادات الموجودة في الخارج مجموعة مستفيدة أكثر من كونهم مؤمنين بعقيدة الإخوان التي يقاتل التنظيم السري من أجلها، ولا يمتلكون من أمرهم شيئاً ولا يوجد قرار على مستويات التنظيم الدنيا، بينما عزت كان المتحكّم الفعلي والآمر الناهي، ويدين لهم الجميع بالبيعة والولاء والسمع والطاعة، ومن ثمّ لا يتوقع أن تستطيع الجماعة إدارة شؤونها كما كان يفعل عزت الذي استطاع الحفاظ على تماسك التنظيم الخاص".
ويرى الخطيب أن "عزت كان أكبر مسؤول بعد المرشد محمد بديع، وتنظيمياً كان أقوى من الشاطر، لأنه مسؤول التواصل مع أجنحة التنظيم في الخارج ومهندس علاقات الإخوان مع تركيا، وغير معروف للجماهير، وكان شخصاً يكره الإعلام، ويؤمن أن دوره محاط دائماً بالسرية، وعملية القبض عليه وتأخرها يتناسب مع موقعه في الجماعة ومسؤوليته السرية، والقبض عليه إعلان حقيقي أن جهاز الأمن الوطني المصري عاد إلى دائرة الضوء على المستوى الإقليمي، بالقبض على شخصية مسؤولة عن التنظيم وعلاقاته الدولية المتشعبة، وما لدى هذا القيادي من أسرار تهم دولاً إقليمية عديدة، وعليه عملية القبض على عزت لها تداعيات على مستوى التنظيم والوزن النسبي لفروعه على المستوى الإقليمي، بما فيها الفرع الأم في مصر الذي أصبح بلا رأس ولا جسد".
ما حقيقة وجود تركيا في المشهد؟
وخلال الأسابيع الماضية انتشرت أنباء حول مباحثات لتطبيع العلاقات بين تركيا ومصر، في ضوء تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل أيام حول وجود اتصالات بين الأجهزة الأمنية في أنقرة والقاهرة، ويؤكد الخطيب أنه "لا يستبعد حديث التعاون الأمني بين مصر وأنقرة حتى من دون حدوث استئناف للعلاقات الدبلوماسية بشكل كامل"، مشيراً إلى أن هذا التعاون كان له سوابق، وقد يجري من خلال أطراف ثالثة تتمتع مع مصر باتفاق تسليم مطلوبين.
وأضاف، "السلطات التركية تسعى جاهدة للتعاون وفتح آفاق للحوار مع نظيرتها المصرية، وفي هذا الإطار أنقرة تعرض عدداً من أشكال التعاون الأمني على القاهرة، من بينها تسليم المطلوبين لديها، وفقاً لطلبات مصر عبر الإنتربول عن طريق وسيط عربي ودولي. لا أستبعد أن تركيا تكون قدمت معلومات مفيدة ذات صلة بالقبض على محمود عزت، ولو كانت معلومة متعلقة بشخص آخر قاد إلى الوصول إليه، لكن في كل الأحوال القبض على محمود سيكشف مزيداً من المطلوبين، وبالفعل بعضهم بالخارج، وعدد كبير من المطلوبين يقيم في إسطنبول، ومصر تقدّمت خلال السنوات الأخيرة بطلبات عبر الإنتربول لتسليمهم، وتوجد التزامات دولية وظروف قد تسمح بالعمل بمقتضاها".