ملخص
يعتقد محللون أن للتجاذبات السياسية سواء بين المركز والإقليم أو داخل الحزب الحاكم في تيغراي تأثيراً كبيراً في تعثر تنفيذ اتفاق بريتوريا في مواعيده، أو محاولة التنصل من بعض البنود فيه، مما ينبئ بأن الطريق الآمن والسلس نحو تنفيذ الاتفاق لا يزال بعيداً.
تتزامن الذكرى الثانية لتوقيع اتفاق بريتوريا لوقف الأعمال العدائية بين الحكومة الفيدرالية الإثيوبية و"جبهة تحرير تيغراي" (الرابع من نوفمبر’تشرين الثاني‘ 2022)، مع تصاعد الصراعات السياسية في الإقليم بين جناحي الجبهة الشعبية الحاكمة والقيادة الجديدة والحكومة المركزية في أديس أبابا، في شأن تعثر تطبيق بنود الاتفاق وعلى رأسها عودة النازحين، والبت في القضايا الخلافية العالقة علاوة على استمرار الاشتباكات المتقطعة بين ميليشيات تابعة لإقليم أمهرة وقوات الدفاع التيغراوية.
تأتي الذكرى الثانية في ظل ظروف سياسية بالغة التعقيد وبخاصة داخل إقليم تيغراي، حيث شهد الحزب الحاكم (الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي) تصدعات بين قياداته، وانسحب جناح رئيس بقيادة رئيس الحكومة الموقتة للإقليم جيتاشوا ردا وأعضاء نافذين في الحكومة الإقليمية من المؤتمر الـ ـ14 للحزب الحاكم، معتبرين أنه مؤتمر يفتقد الأسس القانونية الحاكمة، في حين أعلن رئيس الحزب والرئيس السابق لحكومة الإقليم عن سحب الثقة من الحكومة الموقتة متهمين إياها بموالاة الحكومة المركزية في أديس أبابا.
من جهتها، أعلنت عدة أحزاب سياسية معارضة في إقليم تيغراي خشيتها من انهيار اتفاق بريتوريا، سواء نتيجة الخلافات التي يشهدها الحزب الحاكم أو تنصل الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا من التزاماتها تجاه بنود اتفاق بريتوريا، على رغم عن مرور عامين على توقيعه بضمانات دولية وإقليمية.
واستنكر حزب "سالساي وياني" المعارض في بيان استمرار الأزمة الإنسانية في الإقليم على رغم مرور عامين على توقيع معاهدة السلام في بريتوريا، ووصف الوضع السائد في تيغراي بأنه صورة أخرى من "الإبادة الجماعية" التي بدأت بالحرب خلال نوفمبر 2020، ولا تزال مستمرة بصور مختلفة بعد نوفمبر 2022. وسلط الحزب الضوء على الخسائر الهائلة التي لحقت بتيغراي حيث فقد أكثر من مليون شخص حياتهم، وتضررت البنية التحتية بشدة وتشرد الملايين من سكان الإقليم.
وبحسب بيان الحزب، على رغم اتفاق السلام الذي وُقع قبل عامين والذي يهدف إلى إنهاء الأعمال العدائية وتمهيد الطريق للتعافي، فإن التقدم كان ضئيلاً والقضايا الأساس التي تحرك الصراع لا تزال من دون حل والعنف ضد شعب تيغراي لا يزال مستمراً.
من جهته، قال حزب "بايتونا تيغراي" في بيان أصدره بالمناسبة ذاتها أن الحزبين الحاكمين في كل من مقلي وأديس أبابا يتجاهلان التزامات الاتفاق الذي وُقع منذ عامين، مشيراً إلى أن الوضع الإنساني السائد في الإقليم ينذر بانهيار النظام ككل واندلاع فوضى أمنية، وبخاصة في ظل استمرار حالات النزوح الداخلي وانعدام الخدمات، إضافة إلى انشغال الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في خلافاتها الداخلية، فيما اتهم الحكومة الفيدرالية بالتنصل من التزامات الاتفاق الموقع في بريتوريا.
وعبر الحزب عن مخاوفه في شأن التزامات القوى الدولية المشاركة في صياغة اتفاق بريتوريا للسلام، وأشار إلى البيان الأخير الذي أصدرته الخارجية الأميركية بمناسبة الذكرى الثانية لاتفاق بريتوريا، مؤكداً أنه "تجاهل وشوَّه عديداً من الجوانب الحاسمة في ما يتعلق بالوضع في تيغراي".
واشنطن بين تيغراي وأمهرة
وكانت الخارجية الأميركية أصدرت بياناً خلال الثاني من الشهر الجاري بمناسبة مرور عامين على توقيع الاتفاق، أكدت خلاله دعم واشنطن للجهود المثمرة التي يقوم بها طرفا النزاع من أجل تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية، الذي أنهى حرباً استمرت عامين في تيغراي.
وأشار البيان الذي وقعه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى أن الولايات المتحدة تتابع من كثب الجهود الإثيوبية لتنفيذ الاتفاق. وأعرب عن مخاوف الولايات المتحدة في شأن "العنف المتزايد" داخل إقليم أمهرة، وشدد على الحاجة إلى الحوار السياسي بين الحكومة الفيدرالية والمسلحين، في حين تجاهل الأوضاع الإنسانية والسياسية داخل تيغراي فضلاً عن التحديات التي تواجه اتفاق بريتوريا مما ينذر بفشله.
ويرى مراقبون أن الولايات المتحدة تركز اهتمامها الآن على الأوضاع السائدة بإقليم أمهرة نظراً إلى تصاعد المعارك بين ميليشيات فانو والجيش النظامي، أكثر من اهتمامها بالقضايا العالقة في تيغراي والتي تسهم بصورة أساس في تعطيل إنفاذ بنود اتفاق بريتوريا، فعلى رغم الجولات المكوكية التي قادت المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي السفير مايك هامر إلى كل من أديس أبابا ومقلي لتقريب وجهات النظر حول تطبيقات الاتفاق، فإن الأوضاع لم تتغير سواء على مستوى نزع سلاح قوات الدفاع التيغراوية أو عودة النازحين، إضافة إلى قضية ترسيم للحدود المشتركة بين إقليمي تيغراي وأمهرة، فضلاً عن استمرار الحال الإنسانية المقلقة.
تسييس الاتفاق
بدوره يقرّ أحد أعضاء الوفد التيغراوي المشارك في مفاوضات بريتوريا أسيفا أبريها بأن الاتفاق لا يزال يواجه جملة من التحديات لإنفاذه، وبخاصة في ما يتعلق بانسحاب جميع القوات من الإقليم وقضايا الترسيم وعودة اللاجئين. ويؤكد أن الخلافات السياسية المستجدة بين قيادات الحزب الحاكم في تيغراي جعلت الاتفاق مشجباً لتعليق الخلافات، والادعاء أنه لا تيحقق مصالح الشعب التيغراوي.
يضيف المفاوض الذي يشغل منصب مستشار رئيس الحكومة الموقتة داخل تيغراي في حوار مع إذاعة محلية أن الاتفاق الذي وُقع باسم الحزب ووجد ترحيباً كبيراً من قياداته، يواجه الآن إدانة واضحة من جناح رئيس الحزب، إذ يُوصف موقعوه بأنهم "تجاوزوا الصلاحيات الممنوحة لهم كمفاوضين".
ويرى أبريها أنه على رغم وجود بعض البنود التي لم تطبق بعد فإن الاتفاق يعد مكسباً مهماً لتيغراي والشعب الإثيوبي عموماً، لجهة نجاحه في إيقاف نزف الدم وفك الحصار عن الإقليم الشمالي، مشيراً إلى أن ثمة قضايا عالقة تعمل الحكومة الموقتة على حلها مع الحكومة الفيدرالية، مؤكداً أن وضع الاتفاق في مرمى نيران الخلافات السياسية لا يخدم مصالح التيغراويين. ويؤكد أن تسييس الاتفاق وإقحامه في التجاذبات السياسة القائمة من قبل طرف من أطراف الحزب الحاكم في تيغراي يضعف من الموقف التفاوضي للحكومة الموقتة، التي تسعى إلى تنفيذ جميع الالتزامات التي ينص عليها الاتفاق، واصفاً المحاولات التي تصور الاتفاق باعتباره خصماً من نضالات التيغراويين بأنها جزء من الصراع على السلطة.
اتفاق لتقاسم السلطة
من جانبه يرى المحاضر في جامعة مقلي جبريسيلاسي كحساي أن اتفاق بريتوريا لم يتم تنفيذه بالكامل، ويواجه "أخطار فشل" نظراً إلى أنه لم يستعد أراضي تيغراي، حيث ترزح عديد من المناطق تحت سيطرة الجيش الإريتري فضلاً عن ميليشيات الأمهرة"، وأضاف "بسبب هذا فإن السكان أو النازحين داخلياً في غرب تيغراي وجولوميكيدا وإيروب لم يعودوا إلى ديارهم، وعلى رغم عودة عدد مقدر من النازحين إلى الجزء الجنوبي من تيغراي، فإنهم غير محميين وغير آمنين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول كحساي إن الاتفاق لم يشمل ضمانات كافية لحماية المدنيين ويتعلق بالدرجة الأولى بالبقاء في السلطة بأي ثمن بدلاً من معالجة المشكلات على الأرض، ويضيف "لا أعتقد أن الأزمة الإنسانية تبدو على رأس أولويات الطرفين". ويرى أن الاتفاق غالباً ما يتم تجاهله من دون أية عواقب لعدم الوفاء بالالتزامات. ويحمّل المحاضر التيغراوي المجتمع الدولي مسؤولية الوفاء بالالتزامات، مؤكداً أن "غياب الدفع من جانب الوسطاء وبخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي، يبدو أنه أسهم في عدم فعالية تنفيذ الاتفاق". ويرى أنه يتعين تشكيل مجلس لتقييم أسباب عدم تنفيذ اتفاق بريتوريا وإنفاذه في أسرع وقت ممكن.
حظوظ النجاح والفشل
وفي السياق ذاته، يرى المتخصص في الشأن الإثيوبي محاري سلمون أن الحفاظ على اتفاق بريتوريا يعد بمثابة الحفاظ على وحدة إثيوبيا واستقرارها، إذ إنه يمثل صمام الأمان لبقاء تيغراي تحت السيادة الإثيوبية في حين أن فشل الاتفاق سيقود إلى دورة جديدة من الصراع، ويبعث برسائل سالبة إلى الأقاليم الأخرى التي تشهد صراعاً مسلحاً مع السلطة، وعلى رأسها إقليما أمهرة وأوروميا. ويعتقد سلمون أن حظوظ نجاح الاتفاق يتوقف على الإرادة السياسية للتنفيذ الأمين لبنوده، مشيراً إلى أن التنصل من أي بند من البنود يعد بمثابة بداية النهاية لأية اتفاقات قد تتم بين الحكومة المركزية وبقية الأطراف.
ويعزي المتخصص الإثيوبي أسباب تعثر تنفيذ الاتفاق لعوامل عدة موضوعية وذاتية، أهمها أن المواقيت المنصوص عليها في صيغة الاتفاق لم تراع الجوانب الفنية واللوجيستية اللازمة لتنفيذ تلك التعهدات، وبخاصة أن البلاد خرجت من حرب ضروس استمرت عامين مما أنهك قدراتها الاقتصادية والمالية، إلى جانب التأثيرات المباشرة في النسيج الاجتماعي فضلاً عن أزمة الثقة القائمة بين الطرفين.
ويعتقد سلمون أن للتجاذبات السياسية سواء بين المركز والإقليم أو داخل الحزب الحاكم في تيغراي تأثيراً كبيراً في تعثر تنفيذ الاتفاق في مواعيده، أو محاولة التنصل من بعض البنود فيه، مما ينبئ أن الطريق الآمن والسلس نحو تنفيذ الاتفاق لا يزال بعيداً.
ويرجح أن المركز ممثلاً في حزب الازدهار الحاكم في أديس أبابا استفاد من التجاذبات السياسية التي حدثت داخل تنظيم تيغراي، ويحاول استغلال ذلك لمصلحة مشروعه السلطوي، في حين أن الخاسر الأكبر في المعادلة هم التيغراويون لأنهم عجزوا عن تحقيق مطالبهم حرباً وسلماً.
ويحدد سلمون تلك المطالب في وحدة الأراضي التيغراوية، إذ إن العودة لخريطة ما قبل الرابع من نوفمبر 2020 أضحى أمراً عسيراً الآن، ثانياً دفع التيغراويون ثمناً باهظاً يقدر بنحو ميلون ضحية في الحرب الأخيرة ما بين قتيل ومفقود وجريح، ودُمرت معظم مقدرات التنمية والبنى التحتية التي أنشئت خلال العقود الثلاثة الماضية، ثالثاً أسهمت الحرب في انفراط العقد الاجتماعي والسياسي الذي حكم الإقليم لما يقارب أربعة عقود.
العدالة أولاً
ورأت السفيرة العامة لمكتب العدالة الجنائية العالمية بيث فان شاك أن اتفاق بريتوريا لوقف الأعمال العدائية في إثيوبيا يتضمن جزءاً مهماً يتعلق بالتحقيق في مزاعم ارتكاب جرائم حرب، إذ التزم الطرفان العمل على كشف جميع التجاوزات والانتهاكات، وضمان عدم إفلات المتهمين من العقاب.
وقالت الخبيرة الأميركية في تقرير بمناسبة مرور عامين على توقيع الاتفاق، إن حكومة إثيوبيا اتخذت خطوات مهمة لتطبيق بعض بنود اتفاق السلام، إلا أن المسار نحو تحقيق العدالة الانتقالية كما نصت عليه مخرجات بريتوريا لا يزال بعيد المنال. وأشارت إلى أن حكومة الولايات المتحدة من خلال وزارة الخارجية وبالتنسيق مع الخبراء الدوليين تعمل على متابعة كل خطوة في اتجاه تلازم مسار السلم بمطالب العدالة.
وأوضحت أن الاتفاق نجح في إسكات البنادق وجلب السلام نسبياً إلى المنطقة، لكنه لم يكن سوى نقطة البداية لعملية طويلة وصعبة تتضمن محاسبة المتسببين في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وهي انتهاكات جسيمة شاركت في ارتكابها جميع الأطراف أثناء فترة الحرب.
أضافت شاك أن العاميين الماضيين شهدا تقدماً كبيراً لجهة انخفاض انتهاكات حقوق الإنسان في تيغراي، لكن هناك كثيراً مما ينبغي القيام به من قبل الحكومة الفيدرالية والحكومة الموقتة في شأن معالجة المخاوف من الانجرار لدورة جديدة من الصراع، وجعل اتفاق بريتوريا أداة لإلهام وتجسيد السلام على مستوى البلاد.
ورجحت المسؤولة الأممية أن دورات العنف المستمرة في إثيوبيا دليل على حقيقة أنه لا يمكن تحقيق سلام دائم من دون بسط العدالة وضمان عدم إفلات المتسببين في الانتهاكات من العقاب.