هناك إجماع عالمي على صعيد الحكومات والشعوب، على عدم العودة مرة أخرى لإغلاق الاقتصادات ووقف حركة الحياة حتى مع اشتداد موجة ثانية من فيروس كورونا المستجد.
وفي هذا الصدد، يرى محللون مختصون، أن الاقتصاد العالمي يعاني تداعيات غير مسبوقة للجائحة وسيستغرق سنوات لكي يتعافى منها، وتكرار سيناريو الإغلاق الكبير، قد تكون له آثار تدميرية على القطاعات التي نجت من الموجة الأولى، موضحين أن الخسائر المادية للإغلاق ستكون أكبر بكثير، مقارنة مع فتح الاقتصادات مع موجة تفش ثانية للوباء.
وذكروا أن العالم اكتسب الخبرات في التعامل مع فيروس كورونا وأصبح أكثر استعداداً مقارنة بالضربة المفاجئة في الموجة الأولى، التي تسببت في أعمق انكماش اقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية.
في الوقت نفسه ظهرت بيانات حديثة تشير إلى ارتفاع إصابات فيروس كورونا المستجد حول العالم منذ ظهوره إلى 27 مليوناً و101 ألف و541 إصابة، تعافى منهم 19 مليوناً و216 ألف و862 حالة، فيما توفي 884 ألفا و414، ويخضع نحو 7ملايين شخص حالياً للعلاج. ويتعرض عدد من الدول الكبرى لموجة ثانية لتفشي فيروس كورونا المستجد، لاسيما مع استئناف الأنشطة الاقتصادية وفتح حركة الطيران.
آثار واضحة
من جانبه، قال مجلس الاحتياطي الفيدرالي إن الاقتصاد الأميركي يظهر إشارات على التعافي، لكن آثار فيروس كورونا لاتزال واضحة على الأداء العام.
وقال الفيدرالي عبر تقرير "Beige Book"، الأسبوع الماضي، إن النشاط الاقتصادي ارتفع في معظم المناطق، لكن المكاسب لاتزال محدودة والأنشطة لم تصل إلى مستوياتها قبل ظهور الجائحة.
وتابع "لايزال عدم اليقين والتقلب المتعلق بالجائحة يلقي بظلاله على النشاط الاستهلاكي والتجاري في جميع أنحاء البلاد".
وأشار الفيدرالي إلى أن بعض المناطق أبلغت عن تباطؤ نمو التوظيف وتصاعد تقلبات عمليات التعيين بخاصة في قطاع الخدمات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عودة الإغلاق
في هذا الصدد، قال عضو المجلس الاستشاري الوطني في معهد "تشارترد للأوراق المالية والاستثمار" في الإمارات، وضاح الطه، "من الصعب العودة إلى الإغلاق مرة أخرى، حتى مع تزايد الإصابات والأضرار الجسيمة جداً التي سببتها الموجة الأولى".
وأفاد الطه بأن الإحصاءات الأخيرة لعديد من الدول كشفت أن هناك تزايداً في أعداد الإصابات بوباء كورونا، خصوصاً بعد انخفاض ملحوظ، ويبدو أن الأمر يعود إلى الاستخفاف بأن الوباء على وشك الانتهاء، مع تخلي كثيرين عن الحذر مما أدى لزيادة الإصابات.
وأشار إلى أن السيطرة على الموجة الثانية للوباء لا تحتاج إلى تعليمات أو إجراءات بقدر ما تحتاج إلى عقد اجتماعي أخلاقي في كل دولة للتصدي لزيادة الإصابات.
وتوقع الطه أن تكتفي الدول بفرض إجراءات صارمة، وربما يتم تبني سياسة مناعة القطيع، واستبعد تكرار سيناريو الإغلاق السابق في بداية تفشي الوباء، مضيفاً، "إغلاق ثان سيكون مكلفاً جداً ومضراً بالاقتصاد العالمي، فمن نجا من الشركات الصغيرة والمتوسطة من الموجة الأولى لن ينجو من الموجة الثانية إذا تم الإغلاق مرة أخرى، وستحتاج الاقتصادات كثيراً من الحزم والدعم اللذين سينهكان كاهل الحكومات".
ورجح أن يتم المضي قدماً في عمليات الفتح، والعودة إلى إجراءات تحفظية فقط والعمل على إيجاد لقاح فعال للتصدي للفيروس.
العبور المؤقت
من جانبه، قال باسم حشاد، المختص بالأسواق العالمية، الاستشاري الدولي للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، إن التوقعات كانت تشير إلى أن انتهاء الموجة الأولى من انتشار الفيروس ربما يكون بوابة العبور المؤقتة لاقتصاد أكثر استقراراً وقدرة على الانتعاش والعودة إلى المعدلات الطبيعية لما قبل ديسمبر (كانون الأول) 2019، إلا أن موجة ثانية محتملة حالت دون استقامة هذا التوقع، وأفضت قطعاً إلى زيادة الشكوك بشأن قدرة الاقتصاد العالمي على العودة مرة أخرى للأداء الطبيعي.
وأشار حشاد إلى أنه على مدار أكثر من ثمانية أشهر من العام 2020 يعاني الاقتصاد العالمي معاناة كبيرة سببها عاملان رئيسان أولهما، الكساد الذي بدأت ملامحه في التشكل من النصف الأول من العام الحالي، أما العامل الثاني بداية ظهور الحالات الإيجابية لفيروس كورونا في الموجة الأولى وتوسعه ليستهدف جميع دول العالم بلا استثناء.
وقال حشاد، "رغم خطورة الفيروس البادية وتأثيره المميت إلا أن عواقبه الاقتصادية كانت أكثر إماتة، وأنهت حياة عديد من المؤسسات والشركات والمشروعات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، وشردت الملايين وحرمتهم من وظائفهم ووضعت الجميع أمام السؤال الصعب "أيهما أهم، الاقتصاد أم صحة الناس وسلامتهم؟...وأيهما أكثر أهمية، عجلة إنتاج قوية ومستمرة مع التضحية ببعض الأفراد؟، أم أن الاقتصاد هدفه في الأساس سلامة الأفراد، وبالتالي لا معنى لاقتصاد قوي مع خسارة الأرواح التي يهدف الاقتصاد في الأساس خدمتها والارتقاء بمستوى معيشتها".
التأثر بالقرارات الأميركية
وأكد الحشاد أن هذه الإشكالية ظلت تداهم عديداً من الحكومات وتؤثر على قراراتها فيما يخص التعامل مع الجائحة، وترددت الحكومات ما بين فتح الباب لعودة النشاط الاقتصادي، وغلقه حفاظاً على صحة المواطنين، وفي ظني أن ثمة حالة عامة الآن تنتشر بين حكومات العالم أجمع، وربما تأثراً بقرارات الإدارة الأميركية بقيادة ترمب الذي أصر على فتح الاقتصاد واعتبره أهم من أية مفاضلات أخرى، فسارت على نهجه معظم الحكومات باستثناء أوحد ربما في منطقة الشرق الأوسط كلها وهي الحكومة السعودية، التي تصر للآن على حسم المفاضلة لصالح صحة المواطن والمقيم والحفاظ عليها.
الاقتصاد يكسب الصراع
وحول التوقعات باشتداد الموجة الثانية للوباء، قال حشاد إن الاقتصاد سيكسب جولة الصراع بين قراري الفتح والغلق، حتى مع احتمالات تكرر موجات أخرى للفيروس، ولعله أبرز ما قيل في هذا الصدد ويعبر عن لسان حال الكثيرين بخاصة في الاقتصادات النامية والفقيرة.
وأشار إلى إصرار الكثير على النزول للعمل في ظل اشتداد أزمة تفشي الفيروس، معللين ذلك بأن الإصابة بالفيروس تظل أمراً محتملاً، أما توقف الاقتصادات سيعرضهم للموت جوعاً، فالخيار الأفضل هو النزول للعمل مع مراعاة قواعد التباعد الاجتماعي، مضيفاً "توقف الاقتصادات أكثر ضرراً من جائحة كورونا فالخسائر المالية للدول والحكومات ستفاقم الأوضاع المعيشية لملايين الأسر حول العالم وترفع معدلات الفقر".
موجة قادمة لا محالة
من جهته، قال محمد دشناوي المختص بشؤون الاقتصاد العالمي، إن الموجة الثانية لفيروس كورونا قادمة لا محالة، فالأعداد تتزايد والإجراءات الاحترازية تقل وجميع الدول ترفع العراقيل عن حركة الأسواق، رغم الزيادة الواضحة في الإصابات وذلك لأن الأوضاع الاقتصادية أصبحت لا تطيق الإغلاق مرة أخرى.
وأكد أن الأوضاع اليوم تختلف عن الأمس، إذا ما تمت مقارنة نتائج الإغلاق الثاني للإنفلونزا الإسبانية في عشرينيات القرن الماضي، حيث كانت العواقب وخيمة اقتصادياً فقد أدخلت الاقتصاد العالمي في تباطؤ تلو الآخر، وصولاً للكساد العظيم والعالم تعلّم الدرس، ولن يعيد الإغلاق مرة أخرى بعدما جرب الإغلاق السابق وأثره على الاقتصاد وحياة الأفراد.
وتابع دشناوي أن الجميع تيقن بأنه لن يطيق تحمل ذلك مرة إضافية، مثلما أكد ستيف منوتشين وزير الخزانة الأميركي "بأنه مهما كانت التداعيات لن نغلق الاقتصاد مرة أخرى".
وأوضح دشناوي، أن الإغلاق السابق حقق أضراراً جسيمة، تباطأ الاقتصاد العالمي بنسبة تفوق 4.2 في المئة وانخفض الاستهلاك بـ 3.8 تريليون دولار، وهذا يوازي الناتج الإجمالي الكامل لكل من فرنسا وإيطاليا مجتمعتين طيلة عام. وما يزيد القلق بأن هذه الأرقام قابلة للزيادة بنهاية العام، بخلاف الأضرار الأخرى من خلق جيوش العاطلين التي تحتاج إلى دعم وإعانات ما أدى إلى تآكل الاحتياطيات النقدية وارتفاع المخاطر الائتمانية، الأمر الذي أشعل توتراً كبيراً في أسواق العملات والسندات، ما يؤكد أن العالم لن يغلق الأسواق مرة أخرى بنسبه كبيرة تفوق 95 في المئة مقابل 5 في المئة لصالح إعادة الإغلاق.
وأضاف أن ما يدعم ذلك عدة أسباب، أبرزها أن ظروف الاقتصاد تجعل الإغلاق أشبه بالانتحار، خصوصاً أن العالم قبل كورونا كان يعاني منذ أزمة العقارات 2008 التي انتعش منها سريعاً بفضل التحفيزات الاقتصادية، إلا أن هذا الانتعاش ظهر بأنه غير مستدام في 2013 – 2014، وأن التباطؤ بدأ يظهر جلياً للجميع وانعكس ذلك على توترات في الأسواق من إجراءات حمائية وتلاعب في العملات إلى أن وصلنا إلى الحروب التجارية الحالية، التي غالباً ما ستتطور لتكون حرب عملات صريحة، لأخذ حصة جيدة من الاقتصاد العالمي، فكيف سيكون الأمر إذا تم الإغلاق؟
الأضرار المحتملة
أفاد المختص في شؤون الاقتصاد العالمي بأن الدول النامية لا تمتلك رفاهية التفكير في الإغلاق مهما كانت الأضرار المحتملة من استمرار الفتح، فاحتياطاتها تآكلت بصورة كبيرة وبسرعة غير متوقعة والاحتياطي السلعي لها لن يدعمها لأشهر قليلة، بالإضافة إلى أن الإغلاق بالنسبة إلى هذه الدول خلق مأساة مجاعة سيكون ضحاياها أكثر بكثير من ضحايا كورونا المستجد.
ولفت إلى أنه بخلاف أن الأمر ربما يمتد إلى انهيار الدول، فالآن كثير من الدول ستتقاعس عن سداد التزاماتها المالية في الأوقات المحددة، وكثير من الدول لن تستطيع استبدال ديونها بأريحية بنفس الشروط السابقة، بخلاف أن هذه الدول تعاني أصلاً من مخاطر داخلية وأنظمة هشة ومحاطة بكثير من الأخطار الجيوسياسية التي تؤثر على سياستها.
وأما بالنسبة لاحتمالية عودة الدول للإغلاق، فأشار إلى أن القليل يشيرون أن ذلك قد يحدث إذا توحش الفيروس وأصبح الإغلاق أقل كلفة، رغم كل ما سبق عن تشغيل الاقتصاد، وهو أمر سيكون ظاهراً للجميع وسيكون خارجاً عن إرادة الجميع حكومات أو شعوب.