قد يكون من السابق لأوانه ملاحقة تأثير انتشار وباء كورونا المُستجد على فكرة السينما، فصحيح أن قاعات العرض عادت لاستقبال الجمهور على استحياء، دون أن تعمل بكامل طاقتها بعدْ، إلا أن عادات مشاهدة السينما قد تغيرت بلا شك. أتاحت المنصات المختلفة، مثل نتفليكس وغيرها، مشاهدة الأفلام عبر الشاشات الصغيرة، ولم تعد الأفلام الجديدة تُعرض على الشاشة الكبيرة فقط، وأصبح بالإمكان التحكم في إيقاع المشاهدة وأجوائها. وهذه وإن عدها صناع السينما خسائر، فهناك في المقابل مكسب كبير؛ أن حياة العزلة لاتقاء الإصابة قد جعلت للأفلام مكانة ثابتة فيها، على الأقل ارتبط المشاهدون العابرون بالأفلام.
خصص أصحاب "شوف فيلم" منصتهم للسينما البديلة وعروض الأفلام المُستقلة إنتاجياً وفكرياً، الأفلام المتحررة والثائرة أو التي تُبشِّر بمشاريع لصناع سينما مازالوا على الطريق. والمهم أن هذه المنصة على عكس المنصات الأخرى، لا تتطلب اشتراكاً مدفوعاً حتى الآن، مما يغري المتفرج العادي بإلقاء نظرة، هو الذي لم يكن يشعر بارتياح كبير إزاء تعبير "سينما بديلة".
البرنامج الأول
اختارت المنصة ستة أفلام قصيرة، من جنسيات مختلفة لعرضها في البرنامج الأول، الذي أُتيح للفرجة عبر شبكة الإنترنت في الفترة من 8 إلى 22 أغسطس (آب) الماضي. المنصة الجديدة لمؤسسها ومديرها الفني وجيه اللقاني، هي مبادرة من مبادرات مشروع "سينما في كل مكان"، وهي بحسب الوصف على الموقع " تسعى إلى أن تقدم للجماهير تجربة سينمائية مختلفة في تلك اللحظات العصيبة من جائحة كوفيد – ١٩، وما نتج عنها من عزلة وتباعد مجتمعي وحجر منزلي...".
تنوعت الأفلام من حيث اللغة والهموم المطروحة وطرق معالجتها فنياَ، وحتى تواريخ صدورها. الفيلم الأول "رغبات" وهو تونسي من إنتاج سنة 2014، مأخوذ عن قصة قصيرة للأديب لسعد بن حسين، ومن إخراج سمير حرباوي، يحكي قصة مثقف، يعاني الإقصاء من الحياة الاجتماعية الطبيعية للآخرين، يعيش على الهامش بكل معنى للكلمة، بإحسان ممَنْ يلتقيهم في طريقه بسبب عوزه المادي، أو ربما عدم قدرته على التكيّف اقتصادياً مع مجتمع لا يرى فيه مزية حقيقية سوى الحلم. في هذه العزلة التي تكاد تبتلع البطل والمتفرج معاَ، تتشكل رغباته، في التفاعل الحميم مع الآخر، في طعام شهي، في سيجارة، في مقعد في السينما، وربما فقط في استنشاق عطر وردة. يُثير الفيلم أسئلة عدة، بعضها عن شكل تفاعل الكاتب العربي مع مجتمعه، وأيضاً عن مسؤوليته عن هذا التفاعل. حوار الفيلم بالدارجة التونسية، مع ترجمة فرنسية فقط للشاشة.
فيلم آخر أيرلندي هو "انتظر"، لغته إنجليزية إنتاج عام 2016، وهو من تأليف وإخراج أودري أوريلي، السينمائية الأيرلندية المتخصصة في الأفلام القصيرة. يُعتبر الفيلم أرق الأعمال التي تضمنها البرنامج، وهو يحكي عن رجل كرّس ما تبقى من أيامه لتربية الطيور، والمشاركة في مسابقات الحمام. إنه متوحد تماماً مع الطبيعة، لا شيء يمنعه من مراقبة رفاقه الصغار ولا حتى المطر. غير أن وصول ابنه الشاب لقضاء أجازة قصيرة معه، يُربكه. ومنذ الدقائق الأولى، وعلى رغم الابتسامة الودودة التي لا تفارق شفتي الأب، يبدو أن الحرارة بينهما مقطوعة. تأتي لحظة التنوير في هذا الفيلم القصير، عندما يتشتت انتباه الابن عن عالم أعماله، ويتجه إلى حمامة تعود من سفرها الطويل مجدداً إلى حضن أبيه.
عن الحرب السورية والهجرة
فيلم "اليقظة" السوري من إخراج عمرو علي، وإنتاج 2018، قد يكون أقسى أفلام هذا البرنامج، الفيلم حصد من قبل جائزة أفضل سيناريو في مهرجان "مكناس الدولي لسينما الشباب" في عام 2019، وهو يبدأ بمشهد لامرأة تتعرض لعنف على يد زوجها. صرخاتها المسموعة تتقاطع مع صرخات حقيقية لنساء في الذاكرة، جارات عانين في البيوت المغلقة من عنف الرجال، خلال زمن العزل بسبب كورونا.
تتشابه الأوضاع، فالزوج يستغل الحرب السورية لإذلال زوجته التي تعمل في محل لبيع فساتين الزفاف، وهي مفارقة حزينة لأنها بالطبع ليست سعيدة في زواجها. يسعى الرجل إلى الزواج بفتاة أخرى أصغر سناً، لا تريد الزواج منه، هي أيضاً تتعرض لعنف من والدها الذي يريد أن يتخلص منها أو بيعها للرجل المجهول الذي يزعم الثراء، لكنه يبيع بدوره حتى ثوب عرس زوجته ليحصل على المال. أما صاحبة هذا المحل، فهي سيدة أرستقراطية توشك أن تفقد زوجها الشاب والمُحب إذ يستدعيه الجيش فجأة للمشاركة في الحرب، ما يعني ضمنياً احتمال عدم عودته. في هذا الفيلم المثير للاهتمام حقاً يتشكل شريط الصوت من الضوضاء المُقلِقة للطائرات الحربية، وفي الراديو نسمع أصوات مذيعات يحاولن مقاومة الخوف، بعرض برنامج أغنيات يبدو كإنكار غير مقنع للبؤس الذي نراه على الشاشة.
تتواصل ثيمة الاغتراب ، في فيلم "في أرض البرتقال الحزين" ، وهو تسجيلي قصير إنتاج فرنسي 2018 ومن إخراج ضياء جربي، مصحوب بترجمة إلى الإنجليزية، يأتي الفيلم بالأبيض والأسود الذي يضفي روح الشعِّر والغموض على الصورة، يجعل هذا الفيلم من بكاء الطفل الرضيع، أو الحفيد في عائلة جربي، موضوعاً للتأمل. يجمع شريط الصوت، حتى أقل الإشارات التي تأتي من العالم الخارجي، ويمكن أن تقلقل نوم الصغير في هذه الغرفة المعزولة، حيث الشارع ليس سوى ساحة بعيدة تخضع للمراقبة من الكاميرا. نستمع فقط إلى أجزاء من حوارات الجد والجدة باللهجة المغربية، مع ابنهما المهاجر، عن الحفيد وهم يرسمون ملامحه المستقبلية. هل سيكون أشقر؟ أم أسمر مثل أبيه؟ تقول الأم: "لو أستطيع فقط أن أتجاوز هذه الشاشة!". هذا عمل تجريبي، يدعو للتأمل وإلى مشاهدته عدة مرات لربط النص الأدبي الذي يلقيه الأب بشعور الهجرة، الذي يعبر عنه الفيلم في مستوياته المختلفة.
فيلمان مصريان
أما الفيلمان المصريان المشاركان في البرنامج فهما: " بعيداً عن الحرارة" من إخراج مينا نبيل، وهو من إنتاج عام 2012، لا يتجاوز زمنه ثماني دقائق، وتتناول قصته لحظة التقاء شخصين أثناء انقطاع التيار الكهربائي، أحدهما صيدلاني، والآخر مدمن على وشك ارتكاب جريمة كي يحصل على الجرعة التي يحتاج إليها من المخدر بعيداً عن الأنظار. والثاني هو "حياة" من إنتاج عام 2012 أيضاً، حسب توقيع مخرجه إسلام كمال داخل الفيلم، وليس بإشارة الموقع إلى العام 2014. خلال ربع الساعة، نشاهد حكاية حنان البطلة المُحاصرة بين نظرات حارس العقار الطيب، وبين وقاحات الذكور في الشارع، ودخان سجائر رئيسها في العمل، ودوائر الروتين في المكاتب الحكومية. تنتمي حنان للطبقة المتوسطة، فيجعل الفيلم من هذه المعاناة اليومية كلها مجرد أحداث هامشية، ويركز على رومنسيتها، أو حاجتها لخطيبها، سعيد. نادراً ما نسمع البطلة حنان تتحدث، لكننا نسمع بضع جمل من حوارات الأفلام، ومقاطع من الأغنيات العاطفية. ولكن يأتي المشهد الأخير، ليسجنها تماماً في أحلامها، عندما تصبح فعلاً بطلة في فيلم عاطفي، ملون، غريب عن الواقع.