من غير المسبوق تقريباً أن ينمو الاقتصاد البريطاني 6.6 في المئة خلال شهر واحد، مثلما حصل في يوليو (تموز)، لكن ليس من الحكمة المسارعة إلى الاحتفال.
فبعد أكبر ركود مسجل، لم تسترجع البلاد سوى نحو نصف الناتج المفقود بين فبراير (شباط) ومايو (أيار). وبدأ النمو يتباطأ في يوليو بعد تراجع بعض "المكاسب السريعة" الناجمة عن إعادة فتح المؤسسات أبوابها بعد الإقفال العام.
لكن الأمور تحركت بصورة ملحوظة منذئذ، فما الذي يمكن أن يحمله ما تبقى من العام؟
ولا شك في أن الاقتصاد نما أكثر في أغسطس (آب)، لكننا لا نعرف النسبة بعد. وثمة إجماع على أنه سيظل عند مستوى أدنى خمسة في المئة على الأقل مقارنة بفبراير (شباط)، وهذا سيشكل ضربة اقتصادية كبيرة ذات تداعيات مهمة في سبل عيش الناس.
وتعطينا المؤشرات المبكرة فكرة عن الطريقة التي قد يؤثر بها ذلك الرقم المجرد في حيوات الناس.
وثمة شيء نستطيع أن نقوله على وجه اليقين وهو أن مزيداً من الناس سيفقدون وظائفهم في قطاعي البيع بالتجزئة والضيافة. فالأسبوع الماضي، بقي عدد الناس الذين يزورون المتاجر البارزة ومراكز التسوق أدنى بقليل من 75 في المئة منه قبل سنة.
والآن استقر هذا المستوى أساساً، ما يشير إلى أن الـ25 في المئة الباقية لن تأتي قريباً، هذا إذا أتت. فقد غيّر بعض الناس، لا سيما القلقين أكثر من غيرهم من الفيروس، نمط حياتهم.
وتدنت الثقة في سيطرة الحكومة على الفيروس، ومن المرجح أيضاً فرض مزيد من الإغلاقات (إجراءات الحجر) المحلية.
وهذه العوامل مجتمعة ستسبب مشكلات أكثر بكثير لجهات البيع بالتجزئة، التي توظف أكثر من مليوني شخص. وهي تحاول أن تعيد تركيز عملها سريعاً على التسوق عبر الإنترنت وتقليص التكاليف، لكن إجراء تخفيضات في الوظائف سيكون حتمياً، في حين قد تستفيد "أمازون" من التغيير وترتفع نسبة مبيعاتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي تطور أكثر تشجيعاً، استأنف دورانه محرك الاقتصاد البريطاني، وهو الإنفاق الاستهلاكي، في أغسطس وعاد إلى المستوى المسجل العام الماضي إذ تمتع الناس بـ"عطل داخل بلادهم"، وفق بيانات المدفوعات من "باركليكارد".
وتخفي الأرقام الوطنية اختلافات محلية كبيرة. ففي حين لا تزال مراكز المدن أكثر هدوءاً من ذي قبل، ثمة تقارير شفهية عن أن المطاعم في مناطق الضواحي شهدت الشهر الثامن الأكثر ازدحاماً في الذاكرة الحديثة.
ويتجنب الناس الرحلات الطويلة، لا سيما في وسائل النقل المشترك. ولا يزال نحو 36 في المئة من الناس يعملون من المنازل، وفق استطلاعات مكتب الإحصاءات الوطنية.
وليست إعادة التوزيع هذه للوجهات والطرق الخاصة بإنفاقنا لمالنا سالك ويشوبها بعض العوائق. فهناك أعمال ستنهار، ولن تتمكن من أن تنتعش ببساطة في مجالات أخرى. ويصح الأمر نفسه على كثر من العاملين الذين يفقدون وظائفهم. ويتمثل التحدي في تليين هذه الضربات من خلال المساعدة في تسهيل التحول من الأنماط القديمة للعمل إلى أنماط جديدة.
ويتلخص الشاغل الأكبر لوزير المالية في احتمال تسريح أعداد كبيرة من الموظفين عندما ينتهي برنامج الإجازات. ففي ذروة الإغلاق، غطت الحكومة رواتب نحو ثلث العاملين. والآن انخفضت النسبة إلى 11 في المئة.
لكن عدد المستفيدين لا يزال أكبر من ثلاثة ملايين. وثمة ملايين أخرى من الناس ممن لم يتأهلوا لأي دعم، وكثر منهم عاملون لحسابهم الخاص لا يزالون لا يعملون.
وتعرض الحكومة على أصحاب العمل دفعة لمرة واحدة تساوي ألفاً و500 جنيه إسترليني (ألف و920 دولاراً تقريباً) في مقابل كل عامل موضوع في إجازة لا يصرفونه من العمل بحلول 31 يناير (كانون الثاني). وسيجري بعض أصحاب العمل حساباتهم ويدركون أن الأمر لا يستحق العناء. ولن يساعد تزايد عدم اليقين في شأن التوصل إلى اتفاق تجاري يرافق بريكست في زرع الثقة في أصحاب العمل بأنهم قادرون على تحمل فاتورة أجور أكبر في المستقبل.
واقترح "مؤتمر الاتحادات المهنية" دعماً للعمل "لوقت قصير"، ما يعني أن يحصل أصحاب العمل على مال في مقابل إبقاء الموظفين المهددة وظائفهم يعملون بدوام جزئي.
ويعني ذلك، مثلاً، بدلاً من صرف 100 موظف وحصول هؤلاء على مساعدات حكومية ومعاناتهم للعثور على وظائف جديدة، يُعَاد توزيع ساعات العمل بين بضع مئات من الموظفين الذين يُستبقَون بدوامات جزئية في حين يُدرَّبون على مهارات جديدة. ولا يقتصر الحض على التغيير على الأصوات النقابية. فوزير المالية، ريتشي سوناك، يواجه الآن دعوات من مختلف أرجاء الطيف السياسي إلى توفير دعم مستهدف للوظائف. فلجنة المالية، وهي برئاسة أحد المحافظين، طالبت وزير المالية بأن "ينظر بعناية" في تمديد برنامج الإجازات وعرض المساعدة على الذين لا يزالون متأثرين.
لكن الحكومة قلقة من الأعباء المتزايدة. فهي تخطط لخفض الإنفاق ومحض قوى السوق ثقتها لترتيب الأوضاع. وأبلغ رئيس الوزراء مجلس العموم الأسبوع الماضي أن الناس "يعانون من دون عمل" ومن خلال تعليق عملهم وكأنهم "مجمدون" من خلال برنامج الترسيح المؤقت.
وأشار تكراراً إلى أن البرنامج كلف إلى الآن 40 مليار جنيه. لقد طفح الكيل.
ويشير ذلك إلى سوء فهم للمشكلة. فمعظم الخبراء يتفقون على أن أفضل طريقة لإصلاح المالية العامة تتمثل في دعم الاقتصاد الذي يمثل مصدر العوائد الضريبية كلها.
ولا يختفي المال المخصص لبرنامج الإجازات. هو يدور في الاقتصاد، وهو الأوكسجين الذي يبقي الأعمال والوظائف على قيد الحياة.
ولا تزال أسعار الفائدة سلبية، ما يعني أن المستثمرين التواقين إلى مكان آمن يضعون فيه مالهم يدفعون أساساً للحكومة لتأخذه. ويرى محللون كثر أن من المنطقي اقتراض ذلك المال بهدف الحفاظ على الاقتصاد.
فمزيد من البطالة سيفاقم المشكلات الاقتصادية للبلاد من خلال توفير الإعانات لأعداد كبيرة من الناس. وفي هذه الحالة ستواصل الدولة تمويلهم، لكن بمعدلات متدنية تصل إلى 90 جنيهاً في الأسبوع، ما يضع كثراً من الناس على مشارف الكفاف ويجبرهم على الوقوف في طوابير أمام مراكز توزيع الطعام مجاناً بدلاً من أن ينفقوا المال؛ وهذا يعني أن ملايين إضافية من الناس لن تستطيع الشراء من الشركات التي سرحتهم من أعمالهم فيها.
ثانياً، ثمة قطاعات قابلة للاستمرار تشغل عاملين مهرة ولا تستطيع لأسباب ليست من صنعها فتح أبوابها بسبب قواعد التباعد الاجتماعي.
فكثير من المواقع الفنية والترفيهية والنوادي الليلية والمسارح والمواقع الموسيقية مغلقة. لكن الناس لا يزالون يرغبون في ارتياد هذه الأماكن.
وهذه أماكن تحسن المملكة المتحدة إدارتها. فقد مضت عقود من الزمن من العمل في بناء هذه القطاعات لتصبح رائدة عالمياً.
ولو بقيت المرافق مغلقة، تبددت قيمتها وربما لن تُستعَاد أبداً. فالمهارات تضيع حين يتوقف الناس عن العمل كفنيين في مجال الإضاءة، أو كوميديين، أو لاعبي تسجيلات، أو ممثلين ليعملوا سائقين في مجال توصيل السلع.
ولا يعني مجرد القول للناس أن يعودوا إلى العمل أنهم سيجدون وظائف يلتحقون بها. فالوظائف المتاحة تساوي اليوم نصف متوسطها المسجل عام 2019.
وهذه ليست فقط حال الوظائف المتأثرة أكثر من غيرها بالتباعد الاجتماعي. فالمشكلة حادة في البلدات الأصغر أكثر منها في المناطق الأكثر حضرية. فماذا ستفعل أم عزباء تعمل في البيع بالتجزئة إذا فقدت عملها ولم تجد عملاً متوفراً محلياً، مثلاً؟ فالانتقال لمسافة 100 ميل (161 كيلومتراً تقريباً) للعمل في مستودع لـ"أمازون" قد لا يكون خياراً.
وبعبارة أخرى، يُرجح أن إنفاق المال على الوظائف والتدريب الآن سيشكل استثماراً جيداً. وقد يكون البديل كارثياً.
© The Independent