كشفت أزمة الفيضانات الأخيرة عن هشاشة سياسية بين مكونات الحكومة في إدارة الدولة السودانية، وعن تعاطي النخب السياسية المكونة من الأحزاب مع هذه الأزمة، وعلى الرغم من التفاوت بين أداء الحكومة الانتقالية والنظام السابق الذي كان يصور نفسه على أنه هو الدولة، فإن الفشل القائم يرتبط بصورة أساسية بإدارة الأزمات، مثل أزمة الفيضان الراهنة، ولو أن المجتمع السوداني ظل ينال جزءاً من سوء إدارة قادته حكاماً ومعارضة لقضايا الوطن، فإن الحاضر ينبئ بمغامرات تعج تارة بالاختلاف، وتارة أخرى بالائتلاف، نتيجة سوء التقدير وعدم القراءة الجيدة للمتغيرات.
"شلة المزرعة"
وشهد فيضان هذا العام تلكؤاً في ما يتعلق بمتطلبات إدارة الأزمات من عمليات اتصال ومعلومات متعلقة بالتعامل مع الأخطار، وتحذيرات مسبقة وتغطيات إخبارية احترافية في التلفزيون الرسمي للدولة وغيره من وسائل الإعلام الرسمية. وعوضاً عن ذلك، اعتمد المواطنون على الوسائط وشبكات التواصل الاجتماعي، لمقابلة التقصير الناتج عن بطء الاستجابة واتخاذ القرارات على المستوى العملي الذي يرتبط بسيناريوهات الفيضان والإنذار المبكر، وعلى المستوى التقني والفني الذي يرتبط بتفعيل القرارات الإجرائية، ثم القرار التنفيذي لدرء آثار الأزمة.
وإن كان بإمكان الاستجابة أن تكون أكثر فاعلية بالنسبة إلى الحكومة أو القوى السياسية الأخرى، وأن تكون الخطوة التالية التي يجب أن تتخذها هي وضع الخطوط العريضة لذلك، بما ينبغي فعله للتعامل مع هذه الأزمة، لإزالة القلق الشعبي وإشاعة قدر من التعاطف والتضامن. هذه هي الصورة الشاملة وفي زاوية منها يواجه رئيس الوزراء عبد الله حمدوك نقداً بالصمت وتراجع تصريحاته وتفاعله في هذا التوقيت، إذ مال إلى أن يكون غير مرئي في هذه الظروف وتجنب التواصل، ما خلا زيارته إلى ولاية سنار بعد أيام من الفيضان، تاركاً أسئلة عن عدم تفقد المتضررين، وحصر الزيارة في منطقة واحدة.
ومع أن هذه الكارثة تضررت منها ولاية الجزيرة وسط السودان وولاية نهر النيل شمال السودان، وشرق السودان ومناطق أخرى، فإن عبد الله حمدوك استجاب للحالة الثورية النشطة في وسائل التواصل الاجتماعي، وزار ولاية سنار من دون أن يتوقف في طريقه بولاية الجزيرة الأكثر تضرراً، ومؤكداً بذلك بعده عن نبض الشارع وتحركه بواسطة جماعة من قوى الحرية والتغيير تعرف بـ"شلة المزرعة"، ظهرت بصماتها في كل تحركاته وانتقاء أماكن معينة لظهوره الإعلامي المكثف، والتعتيم عليه في الوقت الذي يُرجى ظهوره.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مركزية الجيش
وفي جانب آخر من أزمة الفيضان، ظهرت مركزية الجيش السوداني في التعامل معه باعتباره كارثة طبيعية، وهي لا تخرج عن دور الجيش في مثل هذه الظروف في معظم الدول، لمقدرته على التصرف بسرعة وتدريب كوادره على التحرك في خضم الأزمات واحتواء آثارها، وخرج رئيس مجلس السيادة العسكري الانتقالي عبد الفتاح البرهان في جولات تفقدية إلى مناطق متأثرة، وظهر على متن القوارب مع المواطنين، إضافة إلى التوجيهات الفورية، التي أعاقت تنفيذها بشكل كامل الأزمة الاقتصادية وضعف الدعم اللوجيستي المخصص للكوارث والأزمات.
وعلى الرغم من أن هذا هو الدور المنوط بالحكومة وبتدخل الجيش في مثل هذه الأزمات، فإن بعض الناشطين السياسيين رأوا أن رئيس مجلس السيادة يبحث عن أرضية جديدة يؤسس عليها الثقة بين الجيش والمواطنين، وإضافة إلى نشر المجلس العسكري قوات لمساعدة المواطنين على التعامل مع الفيضانات، تحركت قوافل الدعم السريع التي دشنها نائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو "حميدتي"، لدعم المتأثرين بالفيضانات في ثماني ولايات، كأكبر قافلة يجري توجيهها لمساعدة المتضررين بالولايات، وذلك تحت رعاية إدارة الخدمات والكوارث، وجاءت مكملة للمساعدات الدولية ومساهمات رجال الأعمال والخيرين السودانيين.
تسييس الفيضانات
وتكررت الفيضانات العنيفة على السودان خلال القرن الماضي ست مرات، كانت أكثرها تدميراً، وسجلت أعلى المناسيب لمياه النيل في عامي 1946 و1988. وتذكر بعض الوثائق أن التعامل الشعبي والوقوف في وجه فيضان 1946 كان ردة فعل وطنية على تباطؤ الإدارة البريطانية في السودان بالتحرك لدرء أخطاره، وارتبط ذلك بأحداث وطنية شهدها عام 1944 جاءت هي الأخرى نتيجة لمطالب مؤتمر الخريجين العام بتحديد المستقبل السياسي للسودان.
وإذا كانت ظلال ذلك الفيضان بين سلطة الحاكم العام البريطاني وقوى وطنية سودانية، فإن ما غذى أزمة الفيضان الحالية ظهر في اجتماع أعضاء من النظام السابق يمثلهم حزب المؤتمر الوطني بالتضامن مع عدو الأمس صديق اليوم "حزب المؤتمر الشعبي" على وحدة الهدف من أجل إسقاط الحكومة الانتقالية، وربما يكون آخر ما في كنانة جماعة الإخوان المسلمين في هذه الفترة على أقل تقدير هو استثمار كارثة الفيضان بتحميل الحكومة الانتقالية مسؤولية ارتفاع مستوى الخسائر جراء الفيضانات، وكذلك العمل على تعميق الانقسامات المجتمعية، لتحقيق مكاسب سياسية بإبراز مناطق مهمشة، مثل شرق السودان وولاية النيل الأزرق معقل الحركات المسلحة والحرب الأهلية في الجنوب الجديد، على أنها ضحايا الفيضان والتهميش معاً.
انتهازية سياسية
نظرياً، تبدو وحدة الهدف منطقية على الأقل عند النظر في صحيفة السوابق الموحدة التي جمعت حزبي المؤتمر الوطني والشعبي، قبل أن ينشطرا وتحدث بينهما المفاصلة الشهيرة عام 1999، التي جرّت بعدها أحداثاً جساماً. لكن عملياً، المؤتمر الشعبي لا يعرف المؤتمر الوطني بمقدار معرفة الأخير به، وهذا ينم عن تتابع حالات الإغماء التي غشيت المؤتمر الشعبي بتواتر الضربات المتوالية على رأسه، التي لم تمكنه من الإفاقة والنظر حوله حتى تتسنى له رؤية موقعه الحقيقي، وهل هو اللاعب الوحيد في الساحة السياسية الذي يقف في المنتصف دائماً أم هناك غيره ممن يجيدون الرقص على الحبال؟
بعد سقوط النظام، استطاع حزب المؤتمر الشعبي أن يعترف بإدراكه أو تعرفه على خليل الماضي، عدو الأمس وصديق اليوم، وهذه خطوة بمقياس إنجازات المعارضة تبدو متقدمة نوعاً ما في انتهازية واضحة، وبهذه المعرفة وما يعده إنجازاً، يريد المؤتمر الشعبي أن يعقد صفقة أخرى مع المواطن السوداني بعد انقلاب 1989، وهو عقد جديد خال تماماً من محاسبة المسؤول عما وصل إليه حال السودان من تشظ وانقسام، كما أنه ليس فيه جرد حساب من أي نوع في دفتر أحوال المواطن السوداني، لكنه يحاول في نوع من الانتهازية السياسية تسويق ما طرحه من قبل الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي حسن الترابي بعد أن فقد موقعه في الحكومة السابقة، وهو "أهمية الاستفادة من التجارب السابقة في الحكم سواء الديمقراطي أو العسكري، وتداول السلطة بما يمنع تكرار الانقلابات العسكرية بالسودان".
ما بعد الأزمة
ومع أن أزمة الفيضان والأمطار والسيول ليست جديدة كلياً، إذ إن البلاد كل فصل خريف تغرق تحت هديرها مخلفة دماراً وتاركة الطمي ليتراكم ويسد إمدادات مياه الشرب، لكن نشأت التصورات المصاحبة الحالية لها مما يمكن أن تقوم به الحكومة الانتقالية، وما يُرجى منها، إذ إن الثورة لم تكن على رأس النظام فقط، إنما على نظام كامل أثبت السلوك الحالي أنه لا يزال يحرك بعض الخيوط.
وعلى الرغم من التفاوت الشديد في الحكومتين، فإن القاسم المشترك هو ضعف الدولة، فبينما انشغل نظام البشير بإدامة بقائه، فإن التضارب الحالي في الحكومة الانتقالية يعكس فقدان البوصلة، إذ إن التبرير لكثير من القرارات الحاسمة وعلاج أزمات الحكم والاقتصاد وصولاً إلى أزمة الفيضان فإنها تردد قول النخب السياسية المكونة من الأحزاب بأنها ورثت نظاماً معلولاً، وإن كان هذا التبرير صحيحاً، فإن دور الحكومة الانتقالية والنخب السياسية إزالة التناقضات التي كشفت عن عوار الممارسة السياسية والأداء المرتبك.
وهناك أيضاً ضعف البنية التحتية بسبب تجذر الفساد في النظام السابق التي كشف عنها الفيضان، فقد كان الترويج للتعاون السوداني الصيني في مجال استكشاف والتنقيب عن النفط منذ تسعينيات القرن الماضي في ظل النظام السابق، بأنه لأغراض التنمية وتأهيل البنية التحتية، وظهرت ملامحه في بعض الجسور والطرق، إلا أنها ظلت تنهار بالتوالي مع كل فيضان، ونظراً إلى هذا الضعف فإن مستوى الدمار الناتج عن الفيضان لم يفرق بين المناطق المهمشة في شرق وجنوب السودان، أو المناطق الريفية في ولاية الجزيرة وولاية نهر النيل أو الحضرية في العاصمة الخرطوم.
هشاشة الدولة
وأظهرت صدمات كثيرة متوالية هشاشة السودان، وأدخلته حلبة التحدي مع مفهوم "الدولة الفاشلة"، وحسب نعوم تشومسكي هي "العاجزة أو غير الراغبة في حماية شعبها من العنف، وربما من الدمار والفوضى، وهي أيضاً الدولة التي تعد نفسها فوق القوانين كلها، سواء كانت محلية أو دولية، فالفشل متعدد الأبعاد، وليس اقتصادياً أو عسكرياً فقط".
وبما أنه لم يحدث في تاريخ السودان أن صمدت أي حكومة في وجه الأمطار والسيول والفيضانات، فإن معاناة السودان الآن مع الحالة السياسية الراهنة ومدى قدرة استيعاب كيان الدولة المستجدات السياسية والاجتماعية. ولا يتم ذلك إلا باستصحاب المعاناة السياسية التي نتجت عنها أزمات اقتصادية طاحنة وعزلة دولية مريرة، لم تضع غير خيار واحد أمام الحكومة الانتقالية والأحزاب، هذا الخيار هو مبادرة بديلة تفضي إلى حل سياسي شامل، يحقق للشعب السوداني حالة من التوافق السياسي التي تمكنه من برمجة حراكه السياسي، لكن بدلاً عن ذلك طغى عجز الأحزاب السياسية عن مد الحكومة بما يضمن الانتقال السياسي، ففي ظل الفيضان كان من المفترض أن تكون الانقسامات السياسية التقليدية أقل أهمية، على الأقل في هذا الوقت الذي لا يسمح بالاستجابة للاقتتال السياسي أو المهاجمة لتحقيق مكاسب سياسية.