أصدرت الرئاسة الجزائرية توضيحات تخص تعليمات رئاسية شفهية سابقة منع من خلالها الرئيس عبد المجيد تبون القضاء من الاعتداد بالرسائل المجهولة كأساس لتحريك دعاوى عمومية في قضايا فساد. ويعتقد قانونيون أن أصداءً قد تكون وصلت إلى رئاسة الجمهورية عن توجه ما للتراجع عن معركة الفساد التي دشنها الحراك الشعبي مطلع عام الماضي، وهي بذلك تصحح بعض المفاهيم بتفعيل ضمان "حماية الشهود".
وبعد بضعة أسابيع على توجيه تبون تعليماته للقضاء بمنع التعاطي مع الرسائل المجهولة كأساس قانوني لتحريك دعاوى تتعلق بالفساد المالي، عادت الرئاسة لشرح مقاصد تلك التوجيهات ودوافعها.
وشرحت الرئاسة الجزائرية في بيان مساء الجمعة 18 سبتمبر (أيلول) الحالي، أن "تقارير واردة إلى رئاسة الجمهورية أبرزت أن عدداً من موظفي الدولة والمسؤولين على مختلف المستويات تمت ملاحقتهم قضائياً بناءً على مجرد رسائل مجهولة، غالباً ما كانت عارية من الصحة، وأدى ذلك إلى حرمان عدد من هؤلاء حريتهم، وخلف حالة من الشلل في نشاطات الإدارات والمؤسسات العامة".
وذكر البيان أن الشلل المشار إليه "سببه الخوف والخشية من الوقوع تحت طائلة المتابعة بناءً على مجرد رسائل مجهولة، حتى إن العديد من المسؤولين الآخرين باتوا يقتصرون على الحد الأدنى من التزاماتهم ويمتنعون عن أي مبادرة، ما أسفر عن تأجيل معالجة ملفات مهمة، تكتسي أحياناً الطابع الاستعجالي، إلى تواريخ لاحقة، ما تسبب بإلحاق أضرار بالغة بسير هذه المؤسسات".
أخطاء التسيير والفعل العمد
على الرغم من أن الرسائل المجهولة ظلت محل تنديد من قبل هيئات المحامين ورجال القانون، فإنها كانت من روافد محاربة الفساد في أوقات سابقة بسبب خوف المبلغين من ملاحقات بحقهم، سواء كانت قانونية أم خارج القضاء. وعليه ورد في بيان الرئاسة ما يفرق بين خطأ التسيير وفعل الفساد المتعمد. وجاء في البيان أنه "من الضروري التمييز بين أخطاء التسيير الناجمة عن سوء التقدير والتصرفات المتعمدة التي لا تخدم سوى القائمين بها أو أطراف أخرى تحركها نيات سيئة. إن الإدارة القضائية تملك للقيام بذلك، كل الوسائل القانونية لإجراء التحريات اللازمة في هذا الشأن".
وتابع بيان الرئاسة أن "الشائعات التي غالباً ما يروج لها أصحاب المال الفاسد تغذي هذا الجو العكر، وغايتهم المساس، بأي ثمن كان، باستقرار الدولة وهياكلها والإفلات من مصيرهم المحتوم، وبهذا الصدد، يجب، وبمجرد تلقي هذه التعليمات، التمييز بين الأعمال الناجمة، على الرغم من طابعها المدان، عن عدم الكفاءة أو سوء التقدير، والتي لا تنم عن أي نية أو إرادة في الفساد الإيجابي أو السلبي، وبين الأفعال التي خلفت خسائر اقتصادية ومالية للدولة بهدف منح امتيازات غير مستحقة للغير".
انخراط الجزائريين
من جهة أخرى، يرى الأستاذ في كلية العلوم السياسية بجامعة الجزائر، رضوان بوهيدل، أن "نص البيان الرئاسي يشكل امتداداً لقرار سابق لرئيس الجمهورية ورد شفهياً أمام محافظي الولايات، واليوم يتحول الأمر إلى تعليمات رسمية. من حيث المضمون أعتقد أن الرسائل المجهولة تحولت في أحيان عدة إلى وسيلة لتصفية حسابات راح ضحيتها عدد من المسؤولين النزيهين. ووقع كثير منهم ضحية تصفية حسابات، وتمت إحالتهم إلى التحقيق والقضاء وأيضاً السجن".
وأوضح بوهيدل أن "نية واضحة اليوم تهدف إلى خلق قطيعة مع ممارسات مشبوهة دون التراجع عن مشروع محاربة الفاسدين، المطلوب كما ورد في البيان، هو تحمل كل جزائري لمسؤوليته بالتوجه إلى الجهات القانونية والإعلامية للتنديد بالفساد. وتحمل المواطنين لهذه المسؤولية يعفي القضاء من تضييع الوقت في قضايا من دون نتائج وأدلة واضحة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تراجع عن محاربة الفساد؟
أما المحامي الهادي بهلولي فأشار إلى أن "هذه التوضيحات تأتي في سياق حديث سياسي عما يشبه التراجع عن محاربة الفساد. الرئاسة تقول بشكل واضح إن معركة الفساد مستمرة، ولكن بآليات جديدة يضمن فيها القانون الحماية للمبلغين، وهذا شيء مستجد في اعتقادي". وتابع "الشيء الجديد في بيان رئاسة الجمهورية هو تقديم البديل للرسائل المجهولة المتصلة بمحاربة الفساد. البيان يقدم آلية لحماية المبلغين بدل تحويلهم إلى طرف في القضية نفسها، سواء كشهود أو متهمين بتسريب معلومات رسمية أو محل مطاردة أو تنكيل له أو أهله أو ممتلكاته من قبل الجهة التي بلغ عنها". ويوضح أن "هذه التعليمات جاءت في وقت حساس، لا سيما أن الجزائر تشهد تحريكاً لملفات فساد عدة. وتمنع هذه التعليمات منعاً قاطعاً تحريك الدعوى العمومية بناءً على شيء مجهول، لكنها تفتح الباب ولأول مرة أمام بديل، ما يعني أن بإمكان كل من يملك معلومات اللجوء إلى السلطات القضائية أو الأمنية والاستفادة من الحماية القانونية بناءً على قوانين الجمهورية".
وقصد بهلولي فقرة في بيان رئاسة الجمهورية جاء فيها أن "أي مساعدة يقدمها المواطن مباشرةً أو عبر وسائل الإعلام مقرونةً بالأدلة الضرورية، يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار خلال التحقيقات المحتملة. ومن البديهي أن واجب الدولة في هذه الحالة، هو حماية المواطن ضد كل أشكال الانتقام".
القضاء والضابطة القضائية
من باب تجربته الشخصية كمُحام، يذكر عمار خبابة لـ"اندبندنت عربية" حالات عدة رافع فيها شخصياً لصالح متهمين تمت ملاحقتهم بناءً على حجج واهية انطلاقاً من رسالة مجهولة، ويقول "المفروض في قضايا الفساد أن جهة الاتهام تأتي بالدليل لتواجه به الشخص المشتبه، لكن الذي كان يحدث أن جهة الإتهام تأتي بقصة من شخص مجهول وتطلب من المتهم جلب الأدلة التي تنفي هذه القصة".
ويضيف خبابة "وعلى هذا الأساس دخلت عملية محاربة الفساد مرحلة من تصفية الحسابات، لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالخطورة إذا وقع تواطؤ بين جهة قضائية ما وضبطية قضائية"، وبالتالي "أعتبر هذا البيان الرئاسي خطوةً لدفع الناس الذين يدعون أنهم على علم بملف فساد نحو اتباع المسار القانوني المعتاد، في النهاية هذا الأمر يحافظ على مصداقية العدالة لأن الشخص الذي يبلغ عن الفساد يكون معلوماً وأدى اليمين وتتحول شهادته في هذه الحالة إلى بداية دليل، أما الرسائل المجهولة فإما تلغى نهائياً، وإن وجدت فإنها مجرد إشعار، وليس سنداً قانونياً تبنى عليه القضية محل التحقيق".