ماذا تعرفون عن ماريا بيفتشيخ؟ بهذا السؤال استهلت صحيفة "كومسومولسكايا برافدا" الروسية واسعة الانتشار، تحقيقها حول إحدى مرافقات المعارض الروسي أليكسي نافالني الذي جرى نقله إلى ألمانيا للعلاج في مستشفى "شاريتيه" في برلين في أغسطس (آب) الماضي مصاباً بتسمم لا يزال يكتنف حقيقته وأسبابه الكثير من الغموض. ولم تترك الصحيفة قراءها غرقى في بحار التفكير، بحثاً عن الإجابة عن هذا السؤال، لتسارع قائلة "إنها المرأة التي رافقت فريق نافالني في مهمته إلى سيبيريا". وأضافت الصحيفة كثيراً من المعلومات والأسرار التي كشفت بها النقاب عن صلات هذه المرأة، واتصالاتها في الخارج بحكم إقامتها الدائمة في لندن، بما قد يشير ضمناً، إلى دور رعاة الظل في الخارج ممن يضطلعون بمهام تمويل، وربما أيضاً توجيه نشاط "صندوق مكافحة الفساد" (الذي يديره أليكسي نافالني في روسيا).
قالت "كومسومولسكايا برافدا" في تحقيقها الاستقصائي المثير للجدل، الذي زودته بكثير من الصور الفوتوغرافية لأبطاله وشخصياته، إنه إذا صدقنا ما توصل إليه الصحافيون من نتائج حول "المرافقة الغامضة" لنافالني في رحلته الأخيرة إلى سيبيريا، فإن ماريا بيفتشيخ تعيش في لندن في أحد الأحياء الراقية المطلة على نهر التايمز قريباً من "تاور بريدج"، وتملك عدداً من متاجر بيع الكتب التي تدر عليها دخلاً مناسباً. غير أن هناك أيضاً أنباء تشير إلى وجود أقاربها وذويها ممن يعيشون في مدينة زيلينوغراد الواقعة في ضواحي العاصمة موسكو، ومنهم جدتها الطاعنة في السن فالنتينا فاسيليفنا، التي لم تكلف الحفيدة ماريا نفسها عناء التردد عليها أو السؤال عنها خلال زياراتها لموسكو، التي بلغت خلال السنوات الأخيرة فقط 64 زيارة.
ليست مجرد موظفة
ومن هذا المنظور حرص مراسلو الصحيفة الروسية على تقصي سيرة ماريا، ومتابعة تحركاتها واتصالاتها في روسيا بداية من معارفها في زيلينوغراد وجامعة موسكو الحكومية، وحتى رفاق الدراسة وجيران السكن والأقارب والزملاء في "صندوق مكافحة الفساد" الذي يرأسه نافالني. وخلص هؤلاء إلى أن ماريا ليست مجرد موظفة في "صندوق مكافحة الفساد"، بل هي رئيسة غير معلنة لقسم التحقيقات في هذه المؤسسة، وربما أيضاً تكون المشرفة الراعية للصندوق نيابة عن مموليه الغربيين.
وتمضي الصحيفة على درب الإثارة والغموض، لتشير إلى أن هذا الاسم وحتى أسابيع قليلة مضت، لم يكن معروفاً على نطاق واسع، اللهم إلا لعدد محدود للغاية. أما اليوم، فقد غدا متداولاً على ألسنة الخاصة والعامة في مختلف أرجاء العالم على حد قول كثيرين. وقالت أيضاً إن ماريا لم تنكر عملها في صندوق مكافحة الفساد منذ ما يقرب من عشر سنوات، وأنها على إطلاع ومعرفة بكل ملفاته وتحقيقاته تقريباً، رغم عدم ظهور اسمها في أي من الوثائق أو الشرائط الوثائقية التي أصدرتها أو أنتجتها هذه المؤسسة. كما أن اسمها لم يرد على أي لسان لأي من زملاء أو رفاق العمل. حتى بعد وقوع حادث تسمم نافالني في 20 أغسطس الماضي، لم يسمع أحد عن أن هذه المرافقة الشابة البالغة من العمر 33 عاماً، كانت ضمن رفقاء رحلة نافالني في رحلته إلى سيبيريا.
ومن منظور أحكام الإثارة أيضاً، يتواصل الحديث حول أنه كان من الممكن أن يظل اسم ماريا بيفتشيخ بعيداً عن التداول، لو لم يرد في قوائم المرافقين للمعارض الروسي التي صدرت عن جهاز التحقيقات التابع لأجهزة الأمن في سيبيريا. كما أنها كانت أيضاً الوحيدة ضمن مرافقيه الستة التي لم يجر التحقيق معها. ولم تتوصل أجهزة الشرطة إلى أنها رحلت إلى ألمانيا في الثاني والعشرين من أغسطس أي بعد يومين فقط من واقعة التسمم، إلا في 11 سبتمبر( أيلول) الحالي، أي بعد ثلاثة أسابيع من وقوع الحادث، ولتؤكد في تقاريرها اللاحقة "أنه لم يتسن التحقيق معها، أو أخذ أقوالها نظراً لأنها رحلت إلى ألمانيا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رحلة بحث عن الأسرار
وما إن أدركت الأجهزة المعنية مدى حرج الموقف وكارثية التبعات، حتى راح كثيرون من ممثلي الصحافة وأجهزة الشرطة والنيابة ينطلقون بحثاً عنها، أو عن أي معلومة يمكن أن تساعد في إزالة الغموض الذي يكتنف شخصيتها، والمهمة التي كانت تقوم بها إلى جانب نافالني. ولم يتوصل المعنيون بالأمر، إلا إلى معلومات سطحية تعود إلى سنوات دراستها في إحدى مدارس زيلينوغراد، وقبل تخرجها في كلية الاجتماع بجامعة موسكو. غير أن هذه المعلومات كشفت وعلى الرغم من "سطحيتها" عن اختيارها قبل تخرجها في الجامعة لتكون رئيسة الوفد الشبابي الذي سافر إلى كندا للمشاركة في أحد المنتديات الشبابية التي عقدت على هامش مؤتمر الثمانية الكبار. كما عثر الصحافيون على اسمها ضمن طلبة مدرسة الاقتصاد والعلوم السياسية في لندن. وتوصلت "أجهزة البحث" عن ماريا كذلك، إلى عدد من الصور القديمة التي تظهر فيها إلى جانب نافالني خلال لقاءاته مع مسؤولين غربيين في موسكو في عام 2013، فضلاً عن صورة أخيرة التقطها صحافيون غربيون لها ضمن مرافقي نافالني إلى برلين إلى جوار قرينته يوليا، وإن اختفت ملامحها تحت نظارة سوداء وقناع طبي لزوم الوقاية من "كورونا".
ويزداد الغموض حدة ومساحة، حين يتعلق الأمر بذويها وأصدقائها، حيث تقول المصادر إن "مثل هذه السرية التي تحيط بها ماريا نفسها، لا تعني سوى المزيد من الشكوك التي تعني في طياتها احتمالات وجود علاقة مع أجهزة استخباراتية أو أمنية". كما أن ما تسرب من معلومات حول أبيها قسطنطين بيفتشيخ المسجلة معه في مسكنها السابق في زيلينوغراد، والذي يعمل مديراً عاماً لإحدى الشركات الخاصة التي تعمل في مجال أبحاث الفيروسات والأدوية، يثير كثيراً من الغموض المفعم بالمزيد من الإثارة والإبهام. وكشفت "كومسومولسكايا برافدا" عن اهتمام مماثل من جانب الصحف البريطانية التي توصلت إلى عنوان والد ماريا، وكذلك عنوان صندوق مكافحة الفساد في موسكو، لكنها لم تصل إلى أي معلومات تذكر بهذا الشأن. وقالت إنها علمت أن الأب أصيب بالإغماء، حين علم أن ابنته ماريا كانت ضمن الفريق المصاحب لنافالني في رحلته التي انتهت بتسممه. ومن هنا كانت الشائعات والأقوال التي تحدثت عن احتمال انزلاق ماريا بيفتشيخ إلى عالم الجاسوسية والتخابر، بل وهناك كذلك فلاديسلاف روجيموف الخبير في الشؤون السياسية الذي نقلت عنه الصحيفة الروسية تصريحاته حول "ارتباطها بمكتب المخابرات البريطانية MI6". كما نقلت الصحيفة الروسية عن الجنرال أليكسي ميخائيلوف الضابط السابق في المخابرات الروسية "أف إس بي" ما قاله حول احتمالات أن تكون ماريا "عميلاً مزدوجا" فضلاً عن فرضية استخدامها أسماء مستعارة. وبهذه المناسبة، ثمة من يقول إن الغموض الذي يكتنف شخصية ماريا بيفتشيخ، والمهمة التي كانت مكلفة بها، أسهمت إلى حد كبير في إضفاء الغموض على الموقف الراهن، مما يزيد من صعوبة وتعقيد تطورات وتبعات القضية، إلى جانب ما تتسم به هذه القضية برمتها، من توتر زاد من حدة تفاقم الأوضاع حول البحث عن أسباب وقوع الحادث. على أن هناك من يكشف أيضاً عن أن ماريا تملك سلسلة من متاجر بيع الكتب، في الوقت الذي أشارت فيه مصادر صحفية في موسكو إلى أنها ترتبط بعلاقات وثيقة مع معارضي الخارج المقيمين والمترددين على لندن من أمثال ميخائيل خودوركوفسكي إمبراطور النفط الروسي السابق صاحب مؤسسة نفط "يوكوس"، وإن ظهر من يدحض هذه الأخبار استناداً إلى عدم وجود أي صور لها أو أي إشارات إليها في مواقع التواصل الاجتماعي لهذه الشخصية المعارضة.
غير أن "كومسومولسكايا برافدا" عادت لتقول إن ماريا لم تكن بالنسبة للعاملين في صندوق مكافحة الفساد، تلك الشخصية الغامضة التي تحار أمامها وحولها أجهزة الاستخبارات. وقالت الصحيفة أيضاً إنها ظهرت على شاشة "بي بي سي" في لندن لتفسر عزوفها عن الظهور في المحافل العامة أو الخاصة، فيما أضافت أنه ما إن عاد المعارض الروسي نافالني إلى وعيه وأفاق من غيبوبته في 15 سبتمبر الحالي، حتى انخرط الزملاء، وكأنما بأوامر وتعليمات "من عل"، لتبرير وتفنيد كثير مما جرى تداوله بشأن غموض ماريا بيفتشيخ واحتمالات تورطها في تسميم نافالني. وراح هؤلاء ينشرون صورهم برفقة ماريا مؤكدين ارتباطهم بها وعملهم معها منذ سنوات طويلة. وأشارت الصحيفة الروسية إلى ما تتسم به هذه المحاولات من طابع أقرب إلى الهزل والسخرية، في توقيت مواكب لنشاط محموم من جانب الصحافيين المرتبطين بمجموعة "فاغنر" الروسية المسلحة للحراسات الخاصة التي يشرف عليها يفغيني بريغوجين المعروف في الصحافة المحلية والعالمية تحت اسم "طباخ الرئيس"، لأسباب تعود إلى علاقاته بالكرملين وأجهزة الدولة وكذلك الرئيس بوتين شخصياً. وقالت إن هؤلاء الصحافيين بدأوا ينشطون في البحث والتنقيب عما يمكن معرفته من أسرار عن ماريا لدى ذويها ومعارفها في زيلينوغراد، وفي الأماكن التي عملت فيها، أو ترددت عليها. ونقلت الصحيفة عن ماريا ما قالته حول إن عزلتها قضية شخصية من خيارها، وإن أكدت أنها معروفة في أوساط العمل والصحافة، فيما سخرت من كل ما قيل حولها على النحو الذي بلغ حد تشبيهها بجيمس بوند. أما عما تردد بشأن نشاط أبيها، قالت ماريا إنها "قصة مختلقة تبلغ حد الجنون"، وكشفت عن أنها لم تره أو تتصل به منذ 15 سنة، وإن الطلاق وقع بين والديها منذ فترة طويلة، في الوقت الذي ثمة من يزعم بأنه "يكاد يكون الشخصية الرئيسة في كل ما وقع من أحداث". وعلى الرغم من استطرادها في تفاصيل علاقاتها "المنفتحة" مع زملاء العمل، وما اتخذته من خطوات في أعقاب اكتشاف تسمم نافالني في تومسك في نهاية مهمته الاستقصائية في سيبيريا وجمعها الأدلة والقرائن المحتمل أن تكون سبباً في تسممه، ومرافقته لدى نقله إلى ألمانيا على متن ذات الطائرة التي أقلته إلى هناك، وظهر من يفند ذلك ويدحض ما قالته بهذا الصدد.
ميل إلى العزلة
ونقلت "كومسومولسكايا برافدا" المعروفة باتساع دائرة صلاتها واتصالاتها، عن فيتالي سيروكانوف الذي عمل خلال الفترة من 2013 حتى 2016 في "صندوق مكافحة الفساد" الذي يديره ويرأسه أليكسي نافالني، ما قاله حول ماريا بيفتشيخ. وكان سيروكانوف ذكر أن ماريا استرعت انتباهه تحديداً في عام 2016، وإن كان لاحظ وجودها قبل ذلك في هذه المؤسسة كثيراً. وأضاف أن نافالني المعروف بحرصه على التباعد مع موظفيه، كان يتعامل مع ماريا على نحو خاص. فقد كان يبدو حريصاً على معاملتها باحترام خاص، وعلى نحو يوحي بالندية والتكافؤ، وإن بدا وكأنما يفعل ذلك لكونها حلقة الوصل التي تربط بين مؤسسته والرعاة الأجانب لهذه المؤسسة، فيما وصفها بأنها كانت أشبه بـ "المفتش البريطاني العام"، على حد قوله. ولم لا، وهي التي قالت في حديثها إلى "بي بي سي"، إنها كانت تشغل منصب رئيس قسم التحقيقات في صندوق مكافحة الفساد. وكان سيروكانوف أشار أيضاً إلى ما يراوده من شكوك حول "ميل ماريا إلى العزلة وحرصها على الابتعاد عن المحافل واللقاءات العامة"، فضلاً عن إشارته إلى عدم صحة ما تشيعه من عدم حصولها على أي مكافآت أو مرتبات عن عملها في صندوق مكافحة الفساد، وكأنما تعتمد فقط على دخلها من نشاطها الخاص كمواطنة بريطانية.
وذلك كله يضفي على "القصة والحكاية" كثيراً من الغموض والإثارة، ويجعلها أقرب إلى قصص الجاسوسية والمخابرات، بما يؤكد في الوقت نفسه أن "وراء الأكمة ما وراءها"، وأن للقصة بقية، قد تميط اللثام عما هو أعظم.