خرجت الصراعات التي تدور في أعلى هرم النظام الحاكم في الجزائر الى العلن، على نحو مفاجئ، إثر إصدار بيان مدوّ لقائد أركان الجيش، الجنرال أحمد قايد صالح، حذّر من "اجتماعات مشبوهة" عُقدت بهدف بلورة حلول للأزمة السياسية في البلاد "خارج الأطر الدستورية". وأشار البيان بأن الاجتماعات المذكورة نظمتها "بعض الأطراف ذات النوايا السيئة التي تعمل على إعداد مخطط يهدف إلى ضرب مصداقية الجيش الوطني الشعبي والالتفاف على المطالب المشروعة للشعب"، مضيفا بأن "كل ما ينبثق عن هذه الاجتماعات المشبوهة من اقتراحات لا تتماشى مع الشرعية الدستورية أو تمس بالجيش الوطني الشعبي، الذي يعد خطا أحمرا، هي غير مقبولة بتاتا، وسيتصدى لها الجيش الوطني الشعبي بكل الطرق القانونية".
البيان شكل تأكيدا رسميا للمعلومات التي انفردت بها "إندبندت عربية"، الأربعاء 27 مارس (آذار)، بشأن الصراعات السرية بين أجنحة النظام الجزائري. وكان ملفتا أن هذا البيان، الذي يأتي بعد أسبوع من دعوة قائد الأركان الى تفعيل الآليات الدستورية لإقرار شغور منصب رئيس الجمهورية، أُصدر على إثر اجتماع طارئ في مقر وزارة الدفاع حضره، الى جانب قائد الأركان، قادة القوات المسلحة وقائد الناحية العسكرية الأولى التي تتبع لها الجزائر العاصمة والأمين العام لوزارة الدفاع. ما يدل بأن التحذير الشديد اللهجة الذي وجهه الجنرال قايد صالح لمدبري "الحلول غير الدستورية" يحظى بإجماع قيادة الجيش.
صلح مفاجئ بين الجنرال مدين وخصمه اللدود سعيد بوتفليقة:
بيان هيئة الأركان لم يقدّم أي تفاصيل عن هوية الأطراف أو الشخصيات التي قال إنها شاركت في "الاجتماعات المشبوهة" المشار اليها، مكتفيا القول بأن الأمر يتعلق بـ "أشخاص معروفين، سيتم الكشف عن هويتهم في الوقت المناسب". لكن غالبية المتتبعين للشأن الجزائري ربطوا هذا التحذير بأخبار انتشرت قبلها بساعات قليلة بشأن اجتماع سري عُقد في الإقامة الرئاسية في زرالدة (غرب العاصمة) بين الجنرال توفيق مدين، مدير الاستخبارات السابق، الذي تمت تنحيته عام 2015، وبين سعيد بوتفليقة، شقيق الرئيس ومستشاره الخاص. وهو ما أكده علنا رئيس حزب "التجمع من أجل الثقافة والديموقرطية"، محسن بلعباس، الذي أبدى أسفه لـ "إحجام هيئة الأركان عن تسمية الأطراف المشاركة في الاجتماعات التي تحدثت عنها".
ولم ترشح أي معلومات من مصادر موثوقة عن فحوى المباحثات التي دارت بين سعيد بوتفليقة، الذي يعده العارفون بخفايا اللعبة السياسية الجزائرية بمثابة "الحاكم الفعلي للبلاد"، في ظل تدهور الحالة الصحية لشقيقه الرئيس، وبين الجنرال توفيق مدين، الذي ما يزال يحظى بالكثير من النفوذ في المؤسسة الأمنية، بالرغم من اقالته من منصبه كمدير لجهاز الاستخبارات منذ أكثر من ثلاثة أعوام. علما بأن الرجلين يعدان خصمين لدودين، إذ أدت العداوة بينهما إلى إطاحة الجنرال مدين وحل جهاز الاستخبارات الذي كان يديره، بسبب اعتراضه على ترشيح الرئيس بوتفليقة لولاية رابعة، عام 2014.
بالرغم من غموض ملابسات هذا الصلح المفاجئ بين الجنرال مدين وسعيد بوتفليقة، إلا أن مصدرا معروفا بقربه من الأجهزة الأمنية الجزائرية كشف لـ "أندبندنت عربية" بأن ما دار في اجتماع الجنرال توفيق مدين وسعيد بوتفليقة مهّد لعقد اجتماع ثان قال المصدر انه التأم في بيت الرائد لخضر بورقعة، أحد القادة التاريخيين للثورة الجزائرية، ببلدة "بوشاوي" - التي تقع على بعد عشرين كيلومترا من العاصمة - وفقا للمصدر ذاته.
وضم الاجتماع "عشر شخصيات تحت إشراف موفد عن سعيد بوتفليقة وآخر عن الجنرال توفيق مدين. وشارك فيه الرئيس السابق ليمين زروال ورئيس الحكومة الأسبق أحمد بن بيتور، وعدد من النواب وممثلي المجتمع المدني" طبقا للمصدر.
وأضاف بأن "هذا الاجتماع بحث إجراءات تتعلق بترتيب المرحلة الانتقالية. وهو ما أثار حفيظة قيادة أركان الجيش التي اعتبرت ذلك أمرا مخالفا للدستور".
الجيش يلوذ بـ "الإرادة الشعبية":
وكان ملفتا أن بيان هيئة الأركان أكد على تمسك الجيش باحترام "الإرادة الشعبية"، وسعى لمسايرة التحفظات التي عبّر عنها الحراك الشعبي خلال مظاهرات الجمعة السادسة من الاحتجاجات. فبالرغم من أن تنحية الرئيس بوتفليقة تعد من المطالب الرئيسية للحراك، الا ان المحتجين تحفظوا على اللجوء الى تفعيل المادة 102 من الدستور لإقرار شغور منصب الرئيس، لأن ذلك معناه اجراء انتخابات رئاسية خلال ثلاثة أشهر، أي في ظل الدستور وقانون الانتخاب الحاليين. وهو ما يعارضه الحراك الشعبي، مطالبا البدء بانتخاب "مجلس تأسيسي" لصياغة دستور جديد، لتجري بعد ذلك انتخابات رئاسية شفافة وتعددية. وطالب المتظاهرين قائد الأركان الاستناد الى المادة السابعة من الدستور بدلا من المادة 102. وتجاوب بيان هيئة الأركان على ذلك، مؤكدا بأنه "على ضوء هذه التطورات، يبقى وقف الجيش الوطني الشعبي ثابتا بما أنه يندرج دوما ضمن إطار الشرعية الدستورية، ويضع مصالح الشعب الجزائري فوق كل اعتبار، ويرى دائما أن حل الأزمة لا يمكن تصوره إلا بتفعيل المواد 7 و8 و102 من الدستور".
يُشار أن المادة السابعة من الدستور تنص بأن "الشعب مصدر كل سلطة"، وأن "السيادة الوطنية ملك للشعب وحده". بينما تنص المادة الثامنة بأن "السلطة التأسيسية ملك للشعب". وتعد إشارة بيان هيئة الأركان الى هاتين المادتين مؤشرا على تأييد الجيش لمطالب الحراك الشعبي بخصوص تشكيل "مجلس تأسيسي" لسن دستور جديد. لكن قيادة الأركان تمسكت بخيار تنحية الرئيس بوتفليقة دستوريا عبر المادة 102 المتعلقة بإقرار شغور المنصب الرئاسي لأسباب صحية. من دون أن يوضح البيان كيف سيُدار الحكم في المرحلة الانتقالية.
وأشار بيان هيئة الأركان أيضا إلى مادة أخرى من الدستور هي المادة 28، التي تحدد الصلاحيات والمهام المخولة للجيش دستوريا، وذلك لقطع الطريق أمام التهم التي بدأت تُروّج من قبل بعض الدوائر المقربة من الرئاسة وبعض أطراف المعارضة، وبالأخص منها التيارات الإسلامية، بشأن اعتزام قائد الأركان الاستيلاء على السلطة.
وشدد بيان هيئة الأركان بأن خطاب الجنرال قايد صالح، في 26 مارس (آذار)، الذي دعا فيه الى تفعيل إجراءات شغور المنصب الرئاسي "يندرج حصرا في الإطار الدستوري، ويعد الضمانة الوحيدة للحفاظ على وضع سياسي مستقر، بغية حماية بلادنا من أي تطورات قد لا تحمد عقباها". وأضاف البيان بأن ذلك يتماشى مع "المهام الدستورية للجيش الوطني الشعبي، بصفته الضامن والحافظ للاستقلال الوطني، والساهر على الدفاع عن السيادة الوطنية والوحدة الترابية، وحماية الشعب من كل مكروه ومن أي خطر محدق، وفقا للمادة 28 من الدستور".
وفيما كانت الأنظار متجهة نحو شباب الحراك الاحتجاجي لمعرفة كيف سيتفاعلون مع بيان هيئة الأركان، لم تكد تمر ساعتان حتى التأم تجمع حاشد في ساحة أودان، بوسط العاصمة، رفع المتظاهرون خلاله شعارات "الجيش والشعب.. خاوة، خاوة" (بمعنى إخوة ) في تأييد واضح لبيان هيئة الأركان الذي اعتُبر انتصارا لـ "الإرادة الشعبية".