توافقت الحكومة السودانية ومكونات الجبهة الثورية التي تضم خمس حركات مسلحة وأربع سياسية، بموجب اتفاق السلام الذي وقع بينهما في العاصمة جوبا، السبت، الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، على تطبيق نظام الحكم الفيدرالي في البلاد، على أن يتكون من ثمانية أقاليم بدلاً من 18 ولاية، تتمتع بصلاحيات وسلطات واسعة وحقيقية.
لكن يظل السؤال المطروح في ضوء التجارب السابقة الممتدة أكثر من 60 عاماً، هل ستقود تجربة الحكم الفيدرالي إلى استقرار السودان سياسياً، أم سنشهد انتكاسة كما حدث في عهود سابقة؟
أنجح تجربة سياسية
يقول مساعد رئيس حزب الأمة القومي السوداني للشؤون الولائية عبدالجليل الباشا، "أعتقد أن الحكم الفيدرالي أنسب نظام في إدارة التنوع واقتسام السلطة وتوزيع الثروة، بالتالي يصلح كنظام حكم للسودان الذي يشتهر باتساع رقعته الجغرافية، وتنوع سكانه وثقافاته وأعراقه، وتوجد دول كثيرة في العالم طبقت هذا النظام بنجاح تام، مثل أميركا والإمارات، وكذلك دول أفريقية. المهم أن يكون التطبيق سليماً، ويتبع معايير موضوعية وحقيقية، فضلاً عن أن أهمية المشاركة الحقيقية من المواطنين من خلال اختيار السياسات المختلفة، وإدارة إقليمهم بالطريقة التي تناسب مكونات مجتمعهم".
وأضاف الباشا، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، "بالرغم مما أصاب تجربة النظام الفيدرالي من تشويه خلال فترة حكم الرئيس السابق عمر البشير، لكنها تتميز بإيجابيات عدة، أهمها قدرتها على إدارة التنوع، وهو ما تشتهر به ولايات السودان التي تعرف بتنوعها الإثني والثقافي والعرقي، إضافة إلى أن صلاحية النظام الفيدرالي تكون في الغالب مضمنة في الدستور، ولا يحق للحكومة المركزية التعدي عليها بحكم القانون"، موضحاً أن "اتفاق السلام بين الحكومة السودانية والجبهة الثورية يعتبر خطوة مهمة في اتجاه استقرار البلاد سياسياً، خصوصاً في ما يتعلق بشكل الحكم. صحيح أن الاتفاق خاطب بعض القضايا المهمة في البلاد، لكن صاحبه أيضاً نقص في عدم مشاركة قوة حقيقية وحركات مسلحة أخرى".
وتابع، "من المهم جداً أن يحدث اتفاق بين جميع مكونات الشعب السوداني ذات الطابع والمستوى القومي، مثل قضية العلمانية وعلاقة الدين بالدولة، واقتسام الثروة والسلطة، والدستور الدائم، فجميع هذه القضايا تحتاج إلى النقاش ومشاركة الجميع في الطرح من خلال منبر قومي، حتى تكون المعالجة جذرية، وتوضع معايير واضحة تراعي التنوع المحلي وكيفية إدارته"، مشيراً إلى أن الحكم الفيدرالي "أنجح تجربة سياسية لفض النزاعات على المستوى المحلي والإقليمي، خصوصاً تلك المتعلقة بتقاسم السلطة والثروة، أو عائدات الثروة وإتاحة الحريات العامة، واحترام العادات والتقاليد والثقافات والأديان، لاسيما القضايا الأكثر حيوية مثل حيازة الأراضي والمشاريع ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي".
فوارق تنموية بين الأقاليم
في المقابل، يقول المتحدث الرسمي باسم حزب المؤتمر السوداني نور الدين بابكر، "تطبيق الحكم الفيدرالي هو واحد من المطالب الرئيسة والقديمة لمعظم سكان البلاد منذ استقلالها في 1956، فقد فشلت النخب السودانية طوال 64 عاماً في تحقيق هذا المطلب، مما أدى إلى اندلاع الحروب في المناطق المهمشة، بسبب تظلمات التوزيع غير العادل للثروة والسلطة وغيرها".
وأضاف نور الدين، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، "ظل الحكم المركزي هو الأساس في كل العهود السابقة، فقد سيطر هذا النظام على ثروات أقاليم السودان المختلفة، كما أصبحت هذه الأقاليم تحكم بواسطة أشخاص من خارج مناطقهم وغير ملمين بطبيعة المشكلات والتحديات التي تواجه الأقاليم التي يحكمونها، مما جعلهم يفشلون في إدارتها وحل مشكلاتها، فضلاً عما خلفه هذا النظام من غبن وسط مجتمع تلك الأقاليم التي تعرضت للتهميش السكاني والتنموي، لكن النظام الفيدرالي يتيح لأهل الإقليم إدارته من تلقاء أنفسهم، وتوجيه الموارد لتنميته، بالتالي لن يكون هناك تظلمات في هذه الناحية"، موضحاً أنه خلال فترة النظام السابق كان نظام الحكم "أشبه بالفيدرالي"، وظل المركز (الخرطوم) ينهب ثروات الأقاليم ويوظفها لمصلحته، "ولم تكن هناك عدالة في تقسيم الثروة والسلطة، بل كان هناك تركيز على مناطق معينة، مما جعل فوارق تنموية كبيرة بين أقاليم السودان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واستكمل، "النظام الفيدرالي له إيجابيات ومميزات عدة، أهمها أنه يراعي العدالة الاجتماعية، ويؤثر فيها، ويجعل كل إقليم ومنطقة تنعم وتتمتع بخيراتها، ويزيد من التنافس بين الأقاليم، ويرفع همة العمل والإنتاج من خلال استغلال الموارد والثروات بشكل كبير، فضلاً عن أنه يحد من الهجرة الى العاصمة، لعدم وجود شعور وإحساس بالتهميش، مع توفر كل الخدمات التعليمية والصحية وغيرها، كما أنه في ظل الحكم الفيدرالي يكون البرلمان قومياً يعكس التنوع بكل أشكاله، وفي الوقت نفسه يرفع أبناء الأقاليم للمشاركة في طرح قضاياهم في هذا المنبر القومي".
وواصل نور الدين، "اتفاق السلام يمثل خطوة إيجابية وميزة لم يسبق أن حدثت منذ الاستقلال، إذ فشلت النخب السياسية خلال الفترتين الانتقاليتين السابقتين في أكتوبر (تشرين الأول) 1964، وأبريل (نيسان) 1985، في التوصل إلى اتفاق مع حاملي السلاح، مما كان سبباً في إجهاض الديمقراطية، فالسلام الحالي ناقش قضايا أساسية من أهمها أسباب الحرب، واقتسام الثروة والسلطة، والترتيبات الأمنية. وفي اعتقادي أن اعتماد النظام الفيدرالي سيكون خلاصاً لأزمة السودان من ناحية الحكم والإدارة".
حكومة رشيقة وتوزيع عادل
وعلى صعيد متصل، يقول أستاذ الاقتصاد السياسي الحاج حمد، "التجربة الفيدرالية لا يجري الوصول إليها برغبة النخبة السياسية، بل هي مستوى من التطور في المؤسسية، فالمشكلة التي كانت تعانيها أقاليم البلاد المختلفة هي أن الحكومة المركزية ما كانت تعطيها صلاحيات كافية لإدارة شؤونها، بل كانت تتحكم في ثروتها بالرغم من مشكلاتها البنيوية".
وزاد حمد، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، "مشكلة الحكم الفيدرالي أن تطلّع نخبة سياسية سيؤدي إلى التوسع في عدد الوظائف في ظل اقتصاد مترهل، لا يسمح بزيادة بنود الصرف، فهو النظام الولائي نفسه الذي كان سائداً خلال فترة حكم النظام السابق، ما يعني ارتفاع حجم الصرف من دون وجود خدمات تنموية يستفيد منها المواطن، فالتجربة التاريخية المتراكمة في هذا الجانب تعني توسيع نطاق الدولة لمصلحة التوظيف منذ الاستقلال"، مشيراً إلى أن الأنسب لحكم السودان "إيجاد حكومة رشيقة تضمن وجود إدارات مهنية وخدمية متخصصة، وذلك من خلال حكم مركزي يضمن التوزيع العادل للدخل القومي".
مرسوم دستوري
في السياق ذاته، أشار حامد حجر، القيادي بالجبهة الثورية وعضو وفد التفاوض في تصريحات صحافية، إلى أن الاتفاق الذي أبرم بين الحكومة السودانية والجبهة الثورية "سيعيد السودان إلى الحكم الإقليمي".
وتوقع حجر أن يصدر قريباً مرسوم دستوري من رئيس مجلس السيادة السوداني عبدالفتاح البرهان يؤسس للفيدرالية، مشيراً إلى أن دارفور ستعود إقليماً موحداً بحدودها التاريخية، وأنه بموجب الاتفاق، سيطبق الحكم الإقليمي بشكل كامل، وتنقل الصلاحيات الإقليمية إلى عاصمة الإقليم، وكذلك صلاحيات الحكم المحلي إلى المحليات بشكل كامل، معتبراً أن ذلك يؤسس للديمقراطية من القواعد وممارسة السلطة على المستوى المحلي، مؤكداً أن كل ما جرى في الاتفاق، خصوصاً في الإطار السياسي وتقسيم السلطة والثروة، بناء على الحكم الإقليمي المستقل.
وأشار القيادي في الجبهة الثورية إلى أن الحكم الإقليمي الحقيقي يحقق مطلب حركات الكفاح المسلح منذ 1955، وهو ما تبناه كل من اتحاد جبال النوبة وجبهة نهضة دارفور وحركة الأنيانيا، وكذلك طالب الجنوبيون بالفيدرالية في مؤتمر المائدة المستديرة في 1947، لكن رفضتها الحكومة المركزية في الخرطوم، مما أدى إلى تمردهم ومطالبتهم بالانفصال لاحقاً.