يواجه العالم أزمة اقتصادية غير مسبوقة على وقع أزمة جائحة كورونا، التي قد تستمر عدة سنوات حتى يتعافى منها، ويعتبر اللجوء إلى احتياطات الذهب لدى البنوك المركزية إحدى أبرز الأدوات المتاحة لتوفير السيولة اللازمة لخطط التحفيز الاقتصادي.
قال متخصصون في إفادات متفرقة لـ"اندبندنت عربية" بهذا الشأن، إن البنوك المركزية استغلت ارتفاع الأسعار القياسي للمعدن الثمين خلال أغسطس (آب) الماضي للحصول على بعض السيولة ثم إعادة الشراء مرة أخرى في الأشهر المقبلة.
وفي جميع العصور يعد الذهب الملاذ الآمن أوقات الاضطرابات الاقتصادية ومخزناً للقيمة للتحوط ضد الأزمات المالية، وخلال الأشهر الأخيرة اختبر الذهب أعلى مستوياته على الإطلاق، وسط توجه المستثمرين والبنوك المركزية إلى المعدن النفيس مع انهيار الأصول المالية الأخرى، مثل أسواق الأسهم وانخفاض عوائد السندات.
وكان احتياطي الذهب الوطني لكل دولة يستخدم قديماً بغرض تغطية قيمة العملة الورقية عن طريق معادلتها بمقياس أساسي من الذهب، الذي كان يتميز بندرته وقيمته الثمينة.
ولكن مع توالي الأحداث التاريخية سواء الحروب والأزمات الاقتصادية أصبح الذهب مخزوناً وطنياً يمكن اللجوء إليه للحفاظ على استقرار العملة ومنع قفزات الارتفاع أو الانخفاض أمام الدولار الأميركي (عملة الاحتياط الأولى في العالم).
الأسعار المرتفعة
وحول أسباب توجه البنوك المركزية لبيع الذهب، قال رجب حامد، المدير التنفيذي لمجموعة "سبائك" الدولية للمعادن الثمينة، إنها استغلت ارتفاع الأسعار خلال أغسطس (آب) الماضي ووقف زيادة حيازتها من الذهب مؤقتاً نظراً للمستويات القياسية للأسعار وتوفير السيولة لتمويل خطط التحفيز، ثم خلال الأشهر المقبلة تعيد استكمال زيادة الاحتياطات مرة أخرى، موضحاً "يختلف هذا الإجراء من دولة إلى أخرى حسب الملاءة المالية للدولة وسياساتها النقدية".
وذكر أن البنوك المركزية كانت أحد 4 عوامل وراء ارتفاع الأسعار الذهب المدعوم بزيادة الطلب خلال عامي (2018-2019)، التي شملت تزايد مشتريات المجوهرات والحلي بالأسواق، والاستثمارات الفردية والصناديق السيادية، أما خلال العام الحالي الذي شهد أزمة كورونا المستجد، فقد انخفض الإقبال على الذهب بأسواق الحلي والمجوهرات كذلك البنوك المركزية قياساً على وتيرة الشراء بالأعوام الأخيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأفاد حامد بأن الاستثمارات الفردية وصناديق الاستثمار المتداولة قدمت الدعم للمعدن الأصفر ليتجاوز سعر الأونصة مستويات قياسية عند 2074 دولاراً، مدفوعة بارتفاع درجة المخاطر الاقتصادية وحالة عدم اليقين بشأن مستقبل الاقتصاد العالمي بسبب الجائحة.
وأشار إلى أن البنوك المركزية كانت تلجأ إلى احتياطات الذهب قبل عام 2000 لحل أزمة السيولة، إلا أنه بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001 وتصاعد المخاطر الجيوسياسية العالمية مروراً بالأزمة المالية العالمية عام 2008 تغيرت توجهات الدول نحو تعزيز احتياطاتها من الذهب كأحد أفضل الملاذات الآمنة التي تحفظ القيمة.
التحول من الشراء إلى البيع
وكان مجلس الذهب العالمي، قد ذكر في تقرير الشهري، الأربعاء، أن البنوك المركزية تحولت خلال أغسطس ( آب) الماضي من مشترين إلى بائعين صافين للمرة الأولى منذ نحو عام ونصف العام، بصافي مبيعات سجل 12.3 طن لتصل حيازتها إلى نحو 35.123 ألف طن.
وأفاد التقرير بأن عمليات البيع تركزت في بيع قيام أوزبكستان نحو 31.7 طن خلال أغسطس (آب) لتصل إجمالي احتياطاتها من الذهب إلى 298.9 طن، تمثل 54.3 في المئة من إجمالي احتياطاتها الأجنبية، بينما باعت التشيك نحو 200 كيلو، وروسيا 100 كيلو.
وفي سياق آخر، أفاد التقرير بأن عمليات الشراء تركزت بين المشترين المنتظمين مثل جمهورية قيرغيزستان بنحو 5 أطنان، والهند 4 أطنان، كما اشترت تركيا والإمارات وقطر نحو 3 و2.4 و1.6 طن على الترتيب، إضافة إلى منغوليا وكازاخستان بمقدار 1.3 طن لكل منهما.
وأضاف التقرير أن الذهب يلعب دوراً مهماً في إدارة احتياطيات البنوك المركزية، وهم يمتلكون كميات كبيرة من الذهب.
استثمار آمن ومربح
باسم حشاد، المتخصص بالأسواق العالمية والاستشاري الدولي للبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، يرى أن الذهب يعد من أكثر الأدوات النقدية التي تسعى البنوك المركزية للاستثمار فيها لسبيين، "الأول، باعتبارها أداة احتياطية فاعلة. والثاني، أداة استثمار آمنة ومربحة بل الأكثر أماناً على مر التاريخ الاقتصادي للمجتمعات والبنوك".
وأوضح أن أي مستثمر يتأثر بقرار احتفاظ البنوك المركزية بالذهب بعدة عوامل أهمها تكلفة الفرصة البديلة للاحتفاظ به أو للتخلي عنه والاستثمار في قناة أخرى وباستخدام أدوات منافسة له.
ولفت إلى أن ذلك يعود أن أسعار الذهب شهدت انطلاقاً تصاعدياً غير مسبوق مع احتداد أزمة "كوفيد- 19" فقد فضلت كثير من البنوك المركزية تماشياً مع اتجاه السوق أن تزيد من اقتنائها الذهب على مدار الفترة السابقة.
وبين أن تقرير مجلس الذهب العالمي الصادر، أخيراً، يظهر أن بداية التخلي عن الذهب الآن يعد حادثة للمرة الأولى منذ فترة طويلة، والسبب في ذلك هو انخفاض منحنى الطلب على المعدن الثمين. الأمر الذي هبط بسعره إلى مستوى 1900 دولار للأوقية تقريباً بعد أن تجاوزت مستوى 2070 منذ أسابيع قليلة.
وأرجع انخفاض الطلب على الذهب إلى عامل رئيس هو الارتفاع النسبي للدولار المنافس الأول للذهب وإعلان ترمب توقف مفاوضات الإدارة الأميركية مع البنك الفيدرالي بشأن حزمة تيسير كمي جديدة، مما أدى إلى مزيد من الاتجاه للدولار على حساب الذهب، كذلك فإن الركود الذي خلفته الجائحة أثرت بشكل كبير على مبيعات الذهب من المشغولات، وهو بدوره أدى إلى انخفاض المنحنى الكلي للطلب على المعدن الأصفر، أخيراً.
توفير السيولة
من جانبه، قال محمد راشد، محلل الأسواق العالمية، إن البنوك المركزية العالمية تستهدف توفير السيولة عبر بيع بعض احتياطاتها من الذهب لتحفيز الاقتصاد الذي وقع في براثن الركود جراء أزمة كورونا.
وأضاف راشد، أن البنوك المركزية قد تستهدف أيضاً توفير السيولة اللازمة لسداد أعباء الديون من حيث الأقساط والفوائد، التي تراكمت بشدة بعد أزمة الجائحة.
وأشار إلى أنه من الملاحظ تراجع احتياطي النقد الأجنبي للعديد من الدول الكبرى نتيجة السحب منه على مدار الأشهر الماضية جراء تراجع مستوى الأداء الاقتصادي وتأثرت قطاعات مهمة وفى مقدمتها السياحة والصادرات، مؤكداً أن كل هذه المؤشرات تعكس أن العالم مقبل على أزمة سيولة ستؤثر في سداد الديون العالمية وتصيب الاقتصاد بمزيد من الانكماش.
الملاذ وقت الأزمات
بدوره، أكد نائب رئيس الاستثمار لدى "إن أي كابيتال" للاستشارات محمد الشربيني، أن المعدن الأصفر يعتبر الملاذ الآمن للاستثمار في أوقات الأزمات والفترات المضطربة اقتصادياً، التي يشهدها العالم منذ بداية عام 2020 وحتى الآن، واشترت العديد من البنوك المركزية حول العالم كميات كبيرة منذ بداية العام وهو نتيجة طبيعية للأحداث، بدأت بحرب تجارية بين الصين وأميركا، تلاها حرب عملات بين العملات الرئيسة، ثم التأثير الكبير جراء الركود الاقتصادي الناتج عن كورونا.
وأوضح أنه نتج عن ذلك قفزة كبيرة في أسعار الذهب حتى وصل سعره إلى فوق ألفي دولار. وأضاف "حالياً وصلت المراكز الاستثمارية للبنوك المركزية إلى مستويات مرتفعة ما قد يدفعها للتوقف قليلاً عن الشراء وإعادة تحليل المشهد الاقتصادي، خصوصاً مع قرب التوصل إلى علاج فعال أو على الأرجح توقيت محدد للإعلان عن لقاح فعال للفيروس".
وأشار إلى أنه حتى مع بوادر ظهور موجة ثانية يجب إعادة تحليل المتغيرات الاقتصادية ووضع الخطط الاستثمارية في ضوء المستجدات، وأيضاً في ضوء الخبرات المكتسبة من التعامل مع الفيروس خلال الموجة الأولى منها، ما انعكس على نماذج الأعمال ومواكبتها للتعامل مع الفيروس.
العشرة الكبار
وتتصدر الولايات المتحدة قائمة أكثر البنوك المركزية اقتناء للذهب ضمن احتياطاتها بمقدار 8133.5 طن تعادل 79.8 في المئة من إجمالي الاحتياطات المثبتة بنهاية أغسطس 2020، ثم ألمانيا بمقدار 3362 طناً تمثل 77.2 في المئة، وحل صندوق النقد الدولي بالمرتبة الثالثة بنحو 2814 طناً، ثم إيطاليا بمقدار 2451.8 طن بنسبة 72.3 في المئة، ثم فرنسا بالمرتبة باحتياطات تبلغ 2436 طناً بنسبة 67.4 في المئة من الإجمالي.
وحلت روسيا بالمرتبة السادسة بمقدار 2299.3 طن بنسبة 24.3 في المئة من إجمالي احتياطاتها الأجنبية، ثم الصين 1948.3 طن بنسبة 3.7 في المئة، وسويسرا 1040 طناً بنسبة 6.5 في المئة.
وجاءت اليابان في المرتبة التاسعة بمقدار 765.2 طن، تعادل 3.5 في المئة من إجمالي الاحتياطات الأجنبية، وحلت الهند بالمركز العاشر باقتناء نحو 668.2 طن بنسبة 7.7 في المئة.
الدول العربية
على صعيد الدول العربية ضمن القائمة، بلغ إجمالي حيازتها نحو 1347 طناً لدى 14 بنكاً مركزياً عربية جاء بقائمة مجلس الذهب بنهاية أغسطس الماضي.
وجاءت السعودية بصدارة الدول العربية بحيازة 323.1 طن، ثم لبنان 286.8 طن، والجزائر 173.6 طن، وليبيا 116.6 طن، والعراق 96.3 طن، ومصر 79.7 طن، والكويت 79 طناً، وقطر 50 طناً، والأردن 43.5 طن، والإمارات 38.9 طن، وسوريا 25.8 طن، والمغرب 22.1 طن، وتونس 6.8 طن، وأخيراً، البحرين 4.7 طن.
وكانت البنوك المركزية سجلت صافي شراء بمقدار 656 طناً من الذهب في 2018 وهو أعلى رقم في نصف قرن، بينما بلغت المشتريات في العام الماضي 650 طناً.
الصناديق المتداولة
وفي تقرير حديث، أكد مجلس الذهب العالمي أن صناديق الاستثمار المتداولة العالمية المدعومة زادت حيازتها بنسبة 2 في المئة خلال سبتمبر (أيلول) الماضي، في الزيادة للشهر العاشر على التوالي، بعد أن سجلت صافي شراء بمقدار 68.1 طن بقيمة بلغت 4.6 مليار دولار.
وبنهاية الشهر الماضي، تكون الصناديق المتداولة قد عززت أصولها من الذهب بمقدار 1003 أطنان (55.7 مليار دولار) خلال عام 2020، لترتفع حيازتها لأعلى مستوى على الإطلاق عند 3880 طناً (تعادل 235 مليار دولار).
وأضاف التقرير "كان الذهب أحد الأصول الرئيسة العديدة، بما في ذلك الأسهم والسلع ذات القاعدة العريضة التي بدأت الربع الثالث بقوة، وعكست مسارها في سبتمبر (أيلول)، لكنه أغلق الربع على ارتفاع بدعم ضعف الدولار الأميركي الذي أنهى الربع الثالث على انخفاض بنحو 4 في المئة".
وقادت الصناديق المتداولة في أميركا الشمالية التدفقات العالمية مرة أخرى خلال الشهر الماضي، بشراء 34.6 طن (2.2 مليار دولار)، فيما زادت الصناديق الأوروبية حيازتها بمقدار 26 طناً (1.9 مليار دولار)، كما زادت الصناديق الأسيوية حيازتها بمقدار 6.8 طن (432 مليون دولار).
وارتفعت أسعار الذهب خلال الربع الثالث 7 في المئة، إلا أنها شهدت تراجعاً بنسبة 3.6 في المئة خلال سبتمبر، وهو تراجع طبيعي حسبما يراه مجلس الذهب بعد سجل ارتفاعات بنسبة 22 في المئة بين شهري أبريل (نيسان) ويوليو (تموز) 2020، ليصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق في أوائل أغسطس.
وتابع "عندما تتحرك الأسعار بهذه السرعة، غالباً ما يكون هناك توقف مؤقت، أو تراجع في السعر المرتبط بجني الأرباح أو تحديد المواقع الاستثمارية"، مضيفا أن هناك عوامل محفزة لأسعار الذهب خلال الربع الأخير من العام، أبرزها الانتخابات الرئاسية الأميركية بجانب الجدل المثار حول مشروع قانون التحفيز الأميركي.