حرمت كورونا عدداً من العائلات التونسية من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة على موتاها من ضحايا الفيروس، الذي يواصل حصد أرواح العشرات يومياً في البلاد وفي العالم، فلا نظرة وداع تطفئ نار الفراق، وتخفف وطأة الموت، ولا تقبل للعزاء للمواساة، وتخفيف حدة الحزن، مشاهد صعبة ومؤلمة يحفرها كورونا في كيان العائلات التي تفقد أحد أفرادها بهذا الوباء.
شروط على الأحياء والأموات
فرض الوباء شروطه على الأحياء والأموات في آن واحد، ما دفع وزارة الصحة في تونس إلى وضع بروتوكول خاص بدفن الضحايا، وفق إجراءات صارمة، تفرض دفنهم، من دون تطبيق الطقوس الدينية، والاجتماعية المعهودة.
إجراءات خلفت جدلاً فقهياً واجتماعياً في المجتمع التونسي، فما أهم إجراءات البروتوكول الصحي الخاص بدفن ضحايا كورونا؟ وهل يتعارض ذلك مع الفقه الشرعي؟ وما تداعيات ذلك اجتماعياً على عائلة فقيد كورونا؟
في هذا السياق، أكد المدير العام لوزارة الصحة فيصل بن صالح في تصريح صحافي، أنه بعد الاطلاع على الدليل الإرشادي لدفن وفيات كورونا الصادر عن منظمة الصحة العالمية، ستراجع طريقة دفن الموتى في تونس من ضحايا الوباء خلال الـفترة المقبلة، مع الأخذ بالاعتبار، مسألة تجنب التجمعات، واحترام البروتوكول الصحي خلال الدفن.
ووفق مديرة البرنامج الوطني لمكافحة كورونا، نصاف بن علية، فقد سجلت حلقات عدوى خلال تجمعات، وقعت عند مراسم دفن موتى ضحايا الوباء، وأوصت بتفادي مثل تلك التجمعات.
الفيروسات تبقى حية في الجثة
من جهته، أكد عضو اللجنة المسؤولة عن صياغة البروتوكول الصحي الخاص بدفن موتى كورونا محمد بن ذياب أن البروتوكول الجديد ينص على مبدأ احترام أخلاقيات التعامل مع جثة الميت وعائلته، منذ إعلامها بالوفاة، إلى حدود الانتهاء من عملية الدفن، وسيسمح لـ 10 أشخاص من عائلة المتوفى بحضور مراسم الدفن مع ضرورة احترام التباعد الجسدي، وسيمنع ارتداء الأعوان المتدخلين في عملية الدفن القناع الواقي من الغازات السامة كما سيلغى عملية إنزال الجثث عن طريق الجرافة، واعتماد إنزالها بالحبال أو بالأيدي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكد ذياب أن عدوى كورونا تنتقل بين الأشخاص، عن طريق الرذاذ، والتنفس، أما العدوى من الميت فتنتقل عبر اللمس، إما بلمس الجثة، أو لمس المكان، الذي توضع فيه، وأضاف أن مدة عيش الفيروس في جثة الميت تكون طويلة (ساعات) خصوصاً بسبب وضعها في بيت الأموات إضافة إلى عامل الرطوبة.
وكانت عملية الدفن التي يؤمنها أعوان البلدية، تتم، حسب البروتوكول الحالي، من دون حضور عائلات المتوفين، باستثناء شخصين أو ثلاثة من ذويهم، على أقصى تقدير.
ويوضع جثمان المتوفى، بعد تعقيمه، في كيس، ولاحقاً في تابوت يعقم، لينقل في سيارة، ويدفن وتعقم السيارة التي نقلت الجثمان.
تكريم الإنسان حياً وميتاً
أثارت هذه الطريقة، جدلاً فقهياً في تونس، وأكد منير الكمنتر رئيس مشيخة جامع الزيتونة المعمور، والأستاذ في الجامعة الزيتونية، في تصريح لـ "اندبندنت عربية"، "الأصل في الشريعة الإسلامية هو تكريم الإنسان حياً أو ميتاً، والله، سبحانه وتعالى، هيأ كل ما في هذا الكون، لخدمة الإنسان، ومن مظاهر التكريم ميتاً، هو الدفن الذي يجب أن يكون بطريقة فيها احترام للنفس البشرية، وفيها تقدير لهذا الميت بعيداً عن أي مظهر من مظاهر الإهانة (لا سمح الله)"، مضيفاً أن "الشريعة أمرت بأن نغسله ونكفنه ونصلي عليه، ونحمله على الأكتاف احتراماً وإجلالاً له، ونأخذه في جمع غفير إلى المقبرة وندعو الله له بالمغفرة".
وفضل الكمنتر أن يوضع ميت كورونا في كيس أبيض بدل الأسود المعتمد حالياً، داعياً الأطباء إلى الحسم في فترة العدوى من الميت إلى الحي، مقترحاً إمكانية تأجيل الدفن لساعات، بعد التأكد من عدم وجود إمكانية للعدوى.
مبالغة في تطبيق البروتوكول
وشدد على وجود مبالغة في تطبيق البروتوكول الصحي الخاص بدفن الموتى، مستغرباً تكدس الناس في القطارات والحافلات والأسواق والمقاهي من دون أن يحرص على فرض احترام البروتوكولات الصحية، قائلاً "يحرص فقط على تطبيقها كاملة وببعض التعسف عند دفن موتى كورونا"، وبعد أن أكد أن هناك مبالغة في تطبيق الإجراءات الخاصة بدفن الضحايا، معتبراً ذلك غير لائق بموتى المسلمين، دعا إلى مراجعة عدد من النقاط كالصلاة على الميت باحترام التباعد وغسله.
وكان مفتي الديار التونسية، عثمان بطيخ، أكد لوسائل إعلام محلية، أن غسل الميت يعد من السنن، وأنه يجوز أداء شخص واحد صلاة الجنازة على المتوفى بفيروس كورونا تجنباً للعدوى.
حرمة الموت
وعن تداعيات هذه الإجراءات الخاصة بدفن ميت كورونا وما تخلفه من آثار على الأسر التونسية، أكد الدكتور المختص في علم الاجتماع بالعيد أولاد عبد الله لـ "اندبندنت عربية" أن الوباء أحدث شرخاً في طقوس الانتقال (الحياة والموت) التي عرفتها مختلف المجتمعات، وتختلف هذه الطقوس من مجتمع إلى آخر، ومن منطقة إلى أخرى، داخل المجتمع نفسه.
واعتبر أن من شأن هذه الطقوس الجنائزية، من تقبل العزاء، والمواساة، أن تخفف من وطأة الموت لكن كورونا فرض شروطاً جديدة اعتبرها قاسية، على العائلة التونسية، كعدم حضور الموكب الجنائزي، وعدم تقبل العزاء من الأهل والأصدقاء، وهو ما يضاعف حجم الألم والحزن لديهم.
ودعا بالعيد أولاد عبد الله إلى مرافقة العائلات، ولا سيما الأطفال الصغار، لشدة تعلقهم أحياناً بمن توفي ضحية كورونا، ولعدم قدرتهم على استيعاب الموت كظاهرة طبيعية، فما بالك بالموت في ظرف غير طبيعي.
ميت كورونا في مجتمعاتنا يموت مرتين، الأولى، عندما يصاب، يخشى أن ينقل العدوى إلى عائلته، فيعزل نفسه في ما يشبه الحبس الإرادي، والثانية، عند الموت تحرم عائلته من إلقاء نظرة أخيرة عليه، أو أن تتقبل فيه العزاء، في المحصلة، لقد غير كورونا نظرتنا إلى العالم وإلى من حولنا، من خلال فرضه تدابير جديدة، للتعايش الاجتماعي، قد تغير حتماً وجه العالم.