دفعت وزارة الخارجية الجزائرية بسفراء البلد وقناصلته في الخارج، للمشاركة في عملية "إقناع الشركاء" بما تسميه الحكومة "حجم التحولات السياسية والاقتصادية" في البلاد، حيث يبدو أن ملف السلك الدبلوماسي سيكون الأخير في عمليات التحويل وإنهاء المهام التي درج الرئيس الجزائري على إجرائها منذ مطلع العام الجاري، بعدما اكتفى بحركة جزئية مسَّت خمسة سفراء فقط.
ولا تتوقف قائمة المعضلات التي ورثتها الجزائر عن سنوات حكم فريق النظام السابق عند حدود الملفات الداخلية، ففي غياب سياسة خارجية واضحة المعالم واستفراد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بملف الخارجية بمنطق العلاقات الشخصية وكثير من المزاجية، تحولت سفارات الجزائر وقنصلياتها إلى مجرد عبء على خزينة الدولة و"فرص توظيف" للأقرباء والأصدقاء والمُوالين.
في الفترة الأخيرة، قررت رئاسة الجمهورية بعد استشارة وزير الخارجية صبري بوقادوم، التريث في إعداد قائمة جديدة للسلك الدبلوماسي، مع أولوية بعض الملفات المستعجلة لدى عواصم على قدر من الحساسية.
ففي منتصف سبتمبر (أيلول) الماضي، أجرى الرئيس عبد المجيد تبون، حركة دبلوماسية جزئية عين بموجبها، لزهر سوالم المدير العام للعلاقات متعددة الأطراف بوزارة الشؤون الخارجية، سفيراً دائماً لبلاده لدى مكتب الأمم المتحدة بجنيف، وحمد حناش، وهو مدير عام لأوروبا بوزارة الشؤون الخارجية، سفيراً للجزائر في بروكسل وممثلاً دائماً لدى الاتحاد الأوروبي.
في الحركة الجزئية ذاتها، قرر تبون تحويل السفير صالح لبديوي، من سفير للجزائر في باريس، إلى سفير في برن بسويسرا، في حين عين عنتر داود، سفير الجزائر في ليبرفيل، سفيراً في باريس، وعبد الحق عيساوي، المكلف الدراسات والتلخيص لدى الأمين العام لوزارة الشؤون الخارجية، سفيراً في ليبرفيل بالغابون.
تحرير السلك الدبلوماسي
تُبدي هذه الحركة الجزئية أن السلطات أعطت أولوية لملف علاقتها بباريس ضمن تغيير متبادل للسفراء في فترة "أزمة"، وأيضاً لمكتب الأمم المتحدة بجنيف وممثلية الاتحاد الأوروبي، في سياق "معركة" سياسية يقودها نشطاء في الحراك لتسجيل قضايا ضد الدولة الجزائرية.
وحتى تتضح الصورة بشكل أكبر حول التحالفات الاستراتيجية المحتملة ما بين الجزائر وشركاء مرشحين للتحول إلى حلفاء، تستهوي "الدبلوماسية الاقتصادية" حكومة عبد العزيز جراد الباحثة عن أرقام تدعم بها تعهداتها برفع قيمة الصادرات خارج قطاع المحروقات.
يُلاحظ في هذا الشأن "تحرير" سفراء من قيود مركزية المشاركة في مؤتمرات دولية ومحلية بالبلدان، حيث إقاماتهم، فقد كلفت وزارة الخارجية في وقت سابق سفير الجزائر بألمانيا، عقد شراكات مع أهم المعارض التجارية في البلاد، لا سيما في قطاع الزراعة والمنتجات الزراعية، كما رخصت السلطات لسفيرها في تركيا مراد عجابي، لتمثيلها في الدورة 112 للمجلس التنفيذي لمنظمة السياحة العالمية، والتي جرت قبل أيام في العاصمة الجورجية تبليسي، ومن ثم في قمة اقتصادية أفرو آسيوية.
تحرير السفراء للتدخل في تسوية ملفات ضمن مخطط الحكومة أمر مستجد يُنهي سطوة رئاسة الجمهورية على تفاصيل السياسة الخارجية، بحسب سفير سابق لدى واشنطن لـ"اندبندنت عربية" رفض الكشف عن هويته.
ويوضح أن "بوتفليقة كان يمنع السفراء من الحديث باسم الجزائر خارج الأطر الدبلوماسية المعروفة، بمعنى الاكتفاء بالبروتوكولات الرسمية جداً، والمرتبطة بالبلد المضيف، وأعتقد أن سفيراً سابقاً أنهيت مهامه لمجرد إدلائه بحديث إعلامي من دون استشارة رئاسة الجمهورية".
الهيئات الدولية
في المقابل، يقول الباحث في التاريخ السياسي عمراوي زين زين الدين في حديث لـ"اندبندنت عربية" أن "رئاسة الجمهورية تظهر ما يفيد بأنها تتعامل اليوم مع ملف السفراء والقناصلة كأحد الأجهزة الحكومية المدعوة للبحث عن تحقيق نتائج سريعة، سياسية ودبلوماسية وخلق لوبيات والتجاوب مع أي معطيات تتصل بالوضع الداخلي في الجزائر".
ويضيف عمراوي "حتى اللحظة يتحرك وزير الخارجية صبري بوقادوم بأريحية كبيرة، وواضح أن رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون فوضه صلاحيات واسعة، والأمر ذاته في مستوى آخر يخص السفراء، يوم أمس فقط كان لسفير الجزائر بليبيا محادثات مع رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق، قبل أن يجتمع برئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، وهذا العمل يستبق مفاوضات الأطراف الليبية في تونس، وفي النهاية يشكل تحولاً في إشراك السفراء في صناعة السياسة الخارجية".
أما على الصعيد الاقتصادي فيذكر أن "السلك الدبلوماسي مطالب بإيجاد أسواق للسلع الجزائرية خارج قطاع المحروقات، واتخاذ إجراءات قانونية حمائية، حيث يتم تسويق منتجات جزائرية بهويات بلدان أخرى، وأيضاً الترويج للسياسة الاستثمارية".
لكن عمراوي لا يتوقع نتائج وشيكة بحكم الغياب الطويل للجزائر عن عمق الملفات الدولية "لا تشتغل المنظومة العالمية بمنطق التصريحات، وإنما بالحضور المستمر والعمل وفق استراتيجية وأهداف واضحة، وليس الاكتفاء بتجميل صورة النظام".
ويوضح أن "الطاقم القنصلي ما زال تحت قيود النظرة الإدارية، والتحول إلى البراغماتية يحتاج إلى عمل دبلوماسي غير منقطع. فكيف يمكن لسفير أن ينفذ تعليمات تبون مثلاً، والتي تطلب الاستفادة من المؤسسات المالية الدولية على قدر مساهمة الجزائر فيها مالياً، وهي تعليمات جميلة على الورق، لكن ولوج هياكل مؤسسات نقدية كصندوق النقد الدولي مثلاً ليس أمراً اقتصادياً محضاً".
تتبع الأموال المنهوبة
من ضمن أولويات الجزائريين في فترة ما بعد محاكمة رموز النظام السابق، تتبع مصير "الأموال المنهوبة" في عواصم غربية وعربية شتى، وحتى الساعة يقتصر مسار استرجاع الأموال على المسلك القانوني الداخلي في انتظار استصدار إنابات قضائية بموجب ملفات قانونية محكمة، بيد أن الجزائر الرسمية، لا تتحرج من بحث "مقايضات" مع دول "صديقة" بصيغة "مسار الأموال مقابل استثمارات".
وفي هذا السياق، يقول المحامي وعضو نقابة القضاة سابقاً تهامي بن علي لـ"اندبندنت عربية" إن "المسار القانوني كما هو معروف معقد ويحتاج إلى فترات زمنية طويلة قد تصل إلى عشر سنوات على الأقل، في حين يمكن لمسارات أخرى غير قانونية تعبيد الطريق، وهي عملية مكفولة لممثلي البلد في الخارج".
ويتابع "يمكن للسفارات الجزائرية أن تتحول إلى طرف مدني غير قانوني مهمته البحث عن لوبيات ومركز القرار".