وسط انشغال الساحة السياسية باستحقاق تأليف حكومة جديدة لا مرشح لها حتى الآن إلا الرئيس الأسبق للحكومة وزعيم الغالبية السنية سعد الحريري، يشتد الضغط الاقتصادي والمالي في ظل أسئلة حرجة لن تجد لها أجوبة شافية قبل أن يتبلور مصير التكليف والتأليف على السواء، لا سيما أن شروط الحريري لتولي المسؤولية تقتضي حكومة مصغرة من أخصائيين لتنفيذ برنامج اقتصادي إصلاحي يلتزم المبادرة الفرنسية، ويحظى بالرعاية الدولية بما يمهد لدخول لبنان في برنامج مع صندوق النقد الدولي، من أجل الحصول على الدعم المالي الدولي.
أول الأسئلة المحرجة والمقلقة في آن يكمن في استحقاق استنفاد المصرف المركزي احتياطاته من النقد الأجنبي، ما سيسرَع المخاطر الناجمة عن توقف الدعم للسلع الأساسية أي المحروقات والأدوية والقمح.
وتتزايد المخاوف من لجوء المصرف المركزي إلى هذا الخيار، بعدما أبلغ حاكمه رياض سلامة الحكومة منذ أكثر من شهرين تقريباً بهذا الأمر، كاشفاً أن الاحتياطات لديه قد بلغت مستوى حرجاً ولا يمكنه بالتالي الاستمرار في تأمين الدعم لأكثر من نهاية السنة كحدٍ أقصى.
ثمة من وضع هذا التحذير في خانة التهويل على السلطة السياسية من أجل دفعها إلى اتخاذ إجراءات جريئة ترمي إلى وقف عمليات التهريب الجارية للسلع المدعومة إلى سوريا، بينما رأى البعض الآخر أن رفع الصوت بالنسبة إلى مسألة الدعم تغطي على السؤال الأبرز المطروح اليوم حول وجهة إنفاق هذا الاحتياط الذي كان الحاكم قدره مع بداية انتفاضة اكتوبر (تشرين الأول) الماضي بـ 30 مليار دولار (من دون خمسة مليارات دولار سندات يوروبوندز)، وهو لم يعد يتجاوز 19 ملياراً اليوم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فأين أنفق المركزي 17 ملياراً في عام؟ وهل تقديراته كانت في محلها أو أنها كانت مشوبة ببعض التضخيم بهدف طمأنة المودعين إلى أن ودائعهم في خير ولم تتبخر؟ وذلك في معرض الرد على الأجواء التي أشاعها خبراء واقتصاديون في الأسابيع الأولى للانتفاضة عن تبخر الودائع وتهريبها من قبل المصارف إلى الخارج، مطالبين باستعادتها. واللافت أن ارتفاع وتيرة الكلام عن مخاطر توقف الدعم الذي أثار هلعاً في الأسواق، لا سيما سوق الدواء الذي بدأ يشهد انقطاعاً لعدد كبير من الأدوية، ترافق مع إثارة مسألة في غاية الأهمية تقود إلى السؤال المحرج الثاني، وتتمثل في التسويق لخيار اللجوء إلى احتياطي الذهب لتغطية الدعم وإعادة إعمار بيروت والمناطق المتضررة من انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس (آب) الماضي.
اين الاحتياط؟
منذ تكشفت أزمة السيولة بالنقد الأجنبي لدى المصارف، بدا واضحاً أن السياسة التي يعتمدها المصرف المركزي لإدارة الأزمة كانت ستؤدي إلى تآكل الاحتياط، وتعذر رد الأموال إلى أصحابها. فقد أدت مشكلة الشح تلك إلى الانتقال إلى اقتصاد السوق النقدي، فخسرت المصارف دورها ومهمتها، وتحولت السوق إلى التعامل نقداً بالدولار وفق ثلاثة أسعار متفاوتة، وكان المركزي يستنزف احتياطه للدفاع عن الليرة في جانب منه، ولتأمين فتح الاعتمادات لاستيراد السلع والمواد الأولية لزوم الصناعة الوطنية، أو لمد المصارف ببعض من أموالها التي أقرضتها للمركزي، وهي في الواقع تصل إلى 80 مليار دولار، هي عملياً ودائع الناس، بينما جاء قرار الحكومة بالتخلف عن دفع سندات الـ "يوروبوندز"، ليفاقم خسائر المركزي الذي يحمل في محفظته حوالى خمسة مليارات دولار.
قانون فرض القيود على التحويلات المصرفية
في موازاة ذلك، أدى تعذر إقرار الحكومة والبرلمان قانون فرض القيود على التحويلات المصرفية (Capital Control) لغايات خاصة، إلى خروج أموال من القطاع. فأين تبخرت هذه الأموال، وعلامَ صُرفت وأين هُربت ولمن تعود؟ كلها أسئلة تتعذر الإجابة عليها بشفافية نظراً إلى كون الأجوبة مصانة بقانون السرية المصرفية. هذه السرية التي يتحصن وراءها الحاكم لعدم الاستجابة لمطالب شركة التدقيق المالي التي كلفها مجلس الوزراء التدقيق في حسابات المركزي وتبيان الأرقام الحقيقية لميزانياته وما تتضمنه من خسائر واقعية.
وفي مقارنة للأرقام الصادرة عن المصرف المركزي في بياناته نصف الشهرية، يلاحظ أن تراجع الاحتياط منذ مطلع السنة الحالية حصل بوتيرة يتراوح معدلها بين 110 ملايين دولار في حده الأدنى، مارس (آذار) 2020، و938 مليوناً، مايو (أيار) شهرياً، باستثناء شهر يوليو (تموز) الذي سجل تراجعاً لافتاً بلغ مليارين و312 مليون دولار من دون أي تفسير أو مبرر، وسجل تراجعاً مماثلاً في شهر أغسطس، حتى بلغ التراجع في شهرين حوالى خمسة مليارات دولار.
لا جواب شافياً
لا يجد الخبير الاقتصادي توفيق كاسبار جواباً شافياً على هذا التساؤل الذي يثير الريبة لديه أيضاً. ويقول إنه بالاستناد إلى الأرقام الصادرة عن المصرف المركزي، فإن الاحتياطي الصافي يسجل تراجعاً بمعدل 730 مليون دولار شهرياً منذ مطلع السنة، لكنه فجأة قفز إلى مستويات تخرج عن الوتيرة الشهرية ليسجل في شهرين تراجعاً قارب الخمسة مليارات. ويرجح كاسبار أن يكون السبب عائداً لعاملين أولهما يتصل بمسألة الدعم التي أدت إلى توفير السيولة لتأمين استيراد بضائع مدعومة وإرسالها إلى سوريا. والعامل الثاني يكمن في توفير سيولة للمصارف لتغطية حاجاتها. ولكاسبار مقاربة اقتصادية أصدرها في دراسة أخيراً يخلص فيها إلى أن الدولة هي التي أقرضت المصرف المركزي وليس العكس، كاشفاً عن الفجوة المقدرة بحوالى 40 مليار دولار من أموال المودعين. والدراسة تمتد على مدى زمني بين عامي 2009 و2019.
ويحدد كاسبار في الدراسة مصدر أموال مصرف لبنان التي تبين أن ودائع المصارف لديه تبلغ 69.3 مليار والفائدة على احتياطات المركزي بالدولار 7.2 مليار، وسندات الـ"يوروبوندز" أو الدين بالعملات الأجنبية الناتجة من عمليات تبادل مع سندات مقومة بالليرة 17.5 مليار. أما كيف استخدم المركزي هذه الأموال فتتوزع كالآتي: الفائدة على الودائع المصرفية 23.3 مليار، فوائد أخرى 1.6 مليار، تغير في إجمالي الاحتياطات 12.9 مليار، وتغير في حيازة سندات الدولار بقيمة أربعة مليارات. أما الأموال غير المحتسبة بالدولار مضافة إليها التدفقات الخارجية بالدولار من مصرف لبنان فبلغت 39.2 مليار. وهذا ما يفسر في رأيه أين أنفقت الأموال وكيف.
تحرير الذهب؟
وأمام المخاطر الناجمة عن قرب نفاد احتياطات مصرف لبنان، برز في الأيام القليلة الماضية طرح تقدم به النائب السابق لحاكم المركزي محمد بعاصيري أثار زوبعة كونه قارب ملفات مصنفة من المحرمات أو المحظورات وهو ملف احتياطي الذهب.
وسبب الزوبعة المثارة أن كلام بعاصيري جاء في وقت طُرح فيه اسمه في التداول كمرشح جدي لرئاسة الحكومة، بالتزامن مع عودته من زيارة إلى واشنطن، حيث يوصف بالرجل الأول لدى الأميركيين. فكان السؤال، هل الطرح جاء فردياً من قبل بعاصيري أو هو يحمله معه من زيارته الأميركية؟، وتالياً، هل هناك نية للمس بالذهب الذي يشكل صِمَام الأمان للبنانيين، وقد تم حفظه وتحصينه من امتداد أيدي الفساد والمفسدين والهادفين للمال العام بقانون صدر في عام 1986 يحظر بيعه أو رهنه أو استعماله لأي غاية؟
طرح بعاصيري، وبقطع النظر عن خلفياته، ليس بعيداً من طروحات سابقة نادى بها عدد من الخبراء والاقتصاديين.
فبعض هؤلاء لا يعارض مسألة اللجوء إلى الذهب ولكن ليس في شكل عشوائي وغير مدروس، خوفاً من استنفاده بسياسات لا تبتغي إلا تغطية خسائر أو زيادة أرباح منظومة النفوذ الحاكمة. وفي رأي هؤلاء أن احتياطي الذهب يمكن أن يشكل قاعدة صلبة تتيح لحكومة تتمتع بالصدقية والمسؤولية والكفاءة أن تعول عليه من أجل إطلاق الاقتصاد وتمويله وجذب الاستثمارات نحو مشاريع منتجة تعيد إطلاق العجلة الاقتصادية المتوقفة وتعيد الدور الطبيعي للقطاعات الإنتاجية في توليد فرص عمل ومؤسسات مستدامة، بعدما عانى لبنان على مدى حوالى ثلاثة عقود من اقتصاد الريع.
تأجير الذهب وليس بيعه أو رهنه
ويشرح بعاصيري طرحه بالتأكيد أنه جاء بمبادرة فردية منه تولدت لديه بعدما استطلع حجم الدمار الذي حل بمدينة بيروت غداة انفجار المرفأ والذي يقدر الحاجة إلى حوالى ملياري دولار لإعادة إعمار ما تهدم.
ويسخر بعاصيري من الانتقادات الموجهة إليه بأن طرحه ذو خلفية سياسية أو مطلوب خارجياً، مؤكداً أن الطرح لا يهدد موجودات الذهب ولا يعرض المخزون البالغ حوالى تسعة ملايين أونصة لأي مخاطر كونه يرتكز على الإيجار وليس الرهن أو التسييل أو البيع. ويرفض في هذا الإطار أن يتم استغلال الحاجة إلى تعديل القانون الذي يحظر التصرف بالذهب من أجل اللجوء إلى تغيير وجهة الاستعمال، مشيراً إلى أن الاقتراح إذا تم الأخذ به يجب أن يخضع لآلية محكمة بضوابط وقيود صارمة وواضحة لا لبس فيها تحظر أي تغيير في وجهة التوظيف المقترح للذهب. وهو مقتنع أن لبنان في حاجة ماسة إلى استغلال كل موارده المتاحة، وهي لا تتوقف على الذهب، بل هناك أيضاً الغاز والنفط الذي بدأ يسلك طريقه، ما يؤكد أن لبنان بلد غني بموارده ومخزونه وقادر بالتالي على إدارة أزمته وتجاوزها، ولكن الأهم أن يحصل ذلك على يد فريق كفوء ومستقل ومتخصص، وهو تماماً ما يحتاجه البلد اليوم على الصعيد الحكومي.
ويضيف أنه يجب ألا يكون هناك خوف أو قلق بل الذهاب إلى تعديل مدروس ومضبوط للقانون، ضمن آلية تحمي هذا الدخل، تماماً كما هي الحال مع القوانين التي تحمي الثروة النفطية.
فهل يفتح اقتراح بعاصيري النقاش الجدي حول الذهب ويكسر حلقة المحظور التي أحاطت بهذا المخزون الحيوي والهام، في ما لو أُحسن استعماله؟ أو يُجمد إلى حين ضمان وصول سلطة موثوقة لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بالإفادة من ثروة لبنان الصفراء؟ الأكيد أن النقاش فُتح وسيتطور في المرحلة المقبلة، لكن ما ليس أكيداً هو إذا كان سيصل إلى نتيجة!