منذ هبوب رياح الحرية في تونس بعد ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، سعت كل القطاعات إلى ضمان أكبر ما يمكن من قوانين لتحقيق مطالبها الاجتماعية والاقتصادية.
وكان القطاع الأمني أكبر المستفيدين من ثورة قامت أصلاً ضد نظام بوليسي، يقوده الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، فظفر رجال الأمن بقوانين تمنحهم الحق في ممارسة العمل النقابي، ما يراه البعض انحرافاً عن الأهداف وجعل من نقابات الأمن بحسب مراقبين، "وجهاً من الوجوه المشينة للتجربة الديمقراطية في تونس".
وفي وقت يتواصل فيه الجدل حول مشروع قانون حماية القوات الحاملة للسلاح، أثار حادث اقتحام عناصر أمن مقر إحدى المحاكم في العاصمة للضغط على القاضي للإفراج عن زميلهم الموقوف، استنكاراً شديداً من أطراف عدة، حيث طالب سياسيون بحل النقابات الأمنية.
استضعاف الدولة
وتعود القضية إلى شهر أغسطس (آب) الماضي، حين تقدمت محامية بشكوى قضائية ضد مدير مركز أمني، بعد احتجازها وتعنيفها وانتزاع بطاقتها المهنية، خلال وجودها في المركز لإبلاغ رئيسه بإذن نيابة يتعلق بشكوى قضائية ضده من قبل موكلها، ليقرر قاضي التحقيق إطلاق مدير مركز الأمن، على أن تتم محاكمته وهو حر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، أتى قرار الإفراج عنه بعد اقتحام عدد كبير من عناصر الأمن المسلحين مقر المحكمة الابتدائية في بن عروس المتاخمة للعاصمة تونس، في محاولة للضغط على قاضي التحقيق ودفعه إلى الإفراج عن زميلهم.
وأثار هذا الحادث استنكاراً واسعاً في تونس، فأصدر حزب التيار الديمقراطي بياناً اتهم فيه قوات الأمن بتحدي مؤسسات الدولة وسلطتها القضائية، بعد محاصرة المحكمة ممن سماهم "مجموعة من الأمنيين المدججين بالسلاح المنتمين لبعض النقابات الأمنية".
ودان التيار الديمقراطي في البيان ذاته، ما وصفه بالتصرف "الأرعن والممارسات اللاقانونية واللامسؤولة، التي تنتهجها النقابات الأمنية وعناصرها المتمردة استضعافاً منها للدولة ولمؤسساتها"، محملاً الحكومة ووزير الداخلية مسؤولية هذا التسيب والانفلات والعربدة.
وأكد ضرورة فتح تحقيق جدي ضد هذه النقابات ومحاسبة منتسبيها، كما دعا النقابات الأمنية إلى التقيد بأحكام الدستور والقانون الذي يضمن الحق النقابي للأمنيين، من دون التعدي على مؤسسات الدولة أو سلطتها القضائية، أو محاولة الضغط عليها وابتزازها وتهديدها بالسلاح.
أمن جمهوري
من جهته، نفى كاتب عام مساعد نقابة موظفي الإدارة العامة لوحدات التدخل، نسيم الرويسي، وجود "أي ضغط على حاكم التحقيق المتعهد بقضية المحامية التي اعتدى عليها رئيس مركز الأمن"، موضحاً أن "حوالى عشرة أمنيين كانوا خارج أسوار المحكمة لمساندة زميلهم، والصور التي نشرت وتظهر وجوداً أمنياً كثيفاً في محيط المحكمة، سُربت عنوة لتوريط رجال الأمن".
وحول الاتهامات التي تطال النقابات الأمنية، أضاف الرويسي "أن الانفلات طال كل القطاعات بعد الثورة، وقطاع الأمن ليس بمعزل عن ذلك"، داعياً إلى "التوجه للقضاء في أي تجاوز يقوم به الأمنيون".
وقال الرويسي إن ما يحدث "حملة ممنهجة ضد الأمنيين، تسيّرها أطراف معلومة من خلال بيانات ضد كل تحركات الأمنيين".
ويرى أن الحل لتجاوز الأزمة "يكمن في سعي كل قطاع إلى الإصلاح من داخله، من دون التدخل في أي قطاع آخر"، موضحاً أنه "بالنسبة لنا كنقابة أمنية لا نتدخل في عمل القضاة ولا أي قطاع آخر، فقط نسعى إلى إرساء أمن جمهوري مستقل، وليس العمل تحت ضغط جهات معينة"، مواصلاً "ولهذا تتم محاسبتنا".
من جهته، اعتبر عميد المحامين إبراهيم بودربالة أن "ما حصل حادث منعزل"، لكنه يعتقد أنه "من الضروري أن يأخذ المسار القانوني مجراه في محاسبة كل مذنب".
وأضاف، "المطلوب التفكير جيداً في دور النقابات الأمنية، فهي صورة الدولة، وبالتالي فسلوكها يجب أن يكون مدروساً بحسب الصلاحيات التي منحها القانون لها، وعلى النقابات ألا تعتبر نفسها سلطة تفعل ما تشاء".
ويعتبر المرسوم (42) المؤرخ في 25 مايو (أيار) 2011، إبان حكومة الراحل الباجي قايد السبسي، أول مرسوم حكومي يسمح بإنشاء نقابات أمنية، وينص في الفصل الـ 11 منه على "حق قوات الأمن الداخلي في ممارسة العمل النقابي، ويمكن لهم تكوين نقابات مهنية مستقلة عن سائر النقابات المهنية واتحاداتها".
سطوة الأمن
من جهته، يعتبر الصحافي والباحث السياسي محمد اليوسفي أن "من المكاسب التي تحققت بعد الثورة في تونس وانهيار المنظومة الاستبدادية القائمة على سطوة الأمن، أنه أصبح بإمكان الأمنيين الانتظام ضمن نقابات تدافع عن حقوقهم، لاسيما الاقتصادية والاجتماعية والمهنية".
ويوضح اليوسفي أنه من المؤسف في السنوات التي تلت الثورة حدوث "تعديات كثيرة، حين تجاوزت بعض النقابات الأمنية دورها الطبيعي، وباتت جزءاً من الصراعات السياسية في صلب وزارة الداخلية أو حتى خارجها".
وأضاف، "أصبحت هذه النقابات تريد التغول والتأثير في الشأن العام، من خلال الضغط لتمرير قوانين للعودة بنا إلى مربع الدولة الأمنية، فضلاً عن التشجيع على الإفلات من العقاب بالنسبة للأعوان الذين يقومون بتجاوزات تمس القانون والدستور، بدلاً من الحرص على تعزيز مفهوم الأمن الجمهوري عبر ممارسات تلتزم بضمان الحقوق والحريات".
وتساءل القيادي في الحزب الجمهوري عصام الشابي، في تدوينة عبر "فيسبوك" قائلاً، "إلى متى تبقى الغالبية العظمى من أبناء مؤسستنا الأمنية رهينة تصرفات بعض القيادات النقابية التي ستعيد العلاقة بين الأمني والمواطن إلى أسوأ مما كانت عليه"، موضحاً أن "العلاقة الجديدة بين الأمن والمواطن التي بدأت ملامحها ترتسم منذ قيام الثورة، باتت اليوم مهددة بالانتكاسة إذا لم يبادر الأمنيون قبل غيرهم إلى إنقاذها، وإعطائها نفساً جديداً".