أصبح المصريون على يقين بأنه كلما تهل نسائم انتخابات وتحل مواسم الترشيحات على مدار العقد الماضي، فإنهم موعودون بعجائب انتخابية وغرائب ترشيحية من شأنها أن تدرأ الملل عن حياتهم، وتلهيهم عن مشكلاتهم اليومية.
والعقد الماضي، تحديداً منذ ثورة يناير (كانون الثاني) 2011، شهد المجتمع المصري تغيرات سياسية عدة، وانتخابات نيابية ورئاسية غير مسبوقة كماً وكيفاً. ولحسن الحظ أن الوفرة العددية تأتي محملة بغرائب وفيرة كذلك.
دوائر ساخنة
هذه المرة، وبينما المصريون يستعدون للانتخابات النيابية أيام 21 و22 و23 من الشهر الحالي في الخارج، ويومي 24 و25 في الداخل في مرحلتها الأولى، تتوجه ملايين الأنظار إلى حرب مستعرة دائرة رحاها في صميم المسألة الانتخابية، لكنها في الوقت نفسه لا تمت لها بصلة. الدوائر الساخنة سواء لأسباب كلاسيكية، حيث تنافس مرشحون ينتمون لعائلات بعينها، أو لعوامل تتصل بقوة المرشحين وبأس أنصارهم فقدت حرارتها أمام حرارة محافظة المنوفية.
ونظام الانتخاب الذي ما زال يثير الحيرة ويدفع الكثيرين لضرب الأخماس في الأسداس لفك لوغاريتماته، فقدَ هو الآخر صفة الحيرة أمام اللوغاريتمات المتفجرة من مدينة شبين الكوم (شمال القاهرة). وبين مئات المرشحين الذين يتنافسون على 568 مقعداً منهم 284 بالنظام الفردي في 143 دائرة انتخابية، ومثلهم بنظام القائمة المغلقة، ناهيك عن 28 عضواً سيعينهم الرئيس، تتربع مرشحة شبين الكوم في محافظة المنوفية على عرش الاهتمام الشعبي لا السياسي.
سياسياً وفاء صلاح الدين مرشحة الشباب في مركز وبندر شبين الكوم التابع لمحافظة المنوفية. وشعبياً هي "مرشحة الموز" تارة "ومرشحة الجزمة" (الحذاء) تارة أخرى، والمرشحة المثيرة للقيل والقال والشد والجذب والهبد والرزع في كل مرة تثار فيها مسألة انتخابات البرلمان.
أصغر مرشحة
الهيئة الوطنية للانتخابات حين دعت المصريين للمشاركة بفعالية في الانتخابات البرلمانية، قبل أيام لم يدر بخلدها أن الفعالية الأكبر ستكون من نصيب السجال والجدل والشجب والتنديد والدعم والتأييد التي تدور في فلك "أصغر مرشحة" وأكثرهم إثارة للجدل وفاء صلاح الدين.
ظلت صلاح الدين محدودة الشعبية محصورة الانتشار حتى وقت إعلان ترشحها. هي تعرف نفسها لـ"الناس اللي مش تعرفني" على حد قولها بأنها "مقدمة برامج وخبيرة تسويق ومتمرسة في مجال التربية الرياضية". وتسرد صلاح الدين على كل مواقع التواصل الاجتماعي عرائض إنجازاتها وأعمالها "رغم سنها الصغير" كما تقول. "رئيس مجلس إدارة شركة خدمات إعلامية، ومقدمة برنامج تلفزيوني، ومدرسة تربية رياضية، وكادر حزبي، ومدير مكتب شبكة إخبارية، ومنسق عام في مؤسسة ريادة أعمال، ومسؤولة تسويق، ومصممة أزياء، وعارضة أزياء، ومراسلة تلفزيونية" وقائمة طويلة جداً من الأعمال والمناصب. هذا إضافة إلى عشرات جوائز التقدير وميداليات التميز وعضويات جمعيات وجماعات.
أمور طبيعية إلى حد ما
إلى هنا والأمور بدت طبيعية إلى حد ما. لكن بالنبش والتنقيب في بقية إنجازات المرشحة، تبين أنها من الداعيات والداعمات والمؤيدات لمبدأ تعدد الزوجات، مؤكدة أن فكرة الزوجة الثانية لا غبار عليها، ولا تنتقص من شأن الزوجة الأولى أو مكانتها، وأن "جزمة" (حذاء) الرجل على رأسها، وأن عمل المرأة لا قيمة له أمام قيمة الزواج والزوج.
عمليات النبش والتنقيب التي عادة يخضع لها مرشحو الانتخابات، أسفرت كذلك عن المواصفات التي تبحث عنها المرشحة البرلمانية في زوج المستقبل، واتضح أن أبرزها أن يكون رجلاً أربعينياً، ولديه "غمازات" في وجهه، ويحب اللون الأزرق، ويقبل أن ترتدي "تايجر" (ملابس بنقش جلد حيوان النمر) في ليلة الزفاف، وأخيراً وليس آخراً أن يعاملها مثل "سي السيد".
وعلى الرغم من شيوع نموذج "سي السيد" في المجتمع المصري، إن لم يكن بالفعل فبالتمني، فإن مواصفات مرشحة شبين الكوم في زوج المستقبل قوبلت بموجة عارمة من الضجيج بين جموع معارضين ومنددين (لا سيما من الإناث)، بما تروج له من أفكار باعتبارها هدامة، وجموع مؤيدين وموافقين لما تروج له باعتبارها مثالية، وآخرون يعتبرون الأمر برمته مزحة، وإن اعتبرها البعض سخيفة تدور دوائر اهتمام المصريين دوراناً مستعراً.
اشتعال منصات التواصل الاجتماعي
اشتعال منصات التواصل الاجتماعي بإعادة تحميل ما تدعو له "أصغر مرشحة"، ومن ثم إخضاعه للتعليق والتنديد والـ"لايك" والـ"شير" انتقل بالقدر نفسه إلى أثير البرامج التلفزيونية والمواقع الخبرية وما تبقى من صحف ورقية. وكانت النتيجة شهرة وانتشاراً وشعبية تقدر بملايين الجنيهات لـ"أصغر مرشحة"، لا سيما بعد أن حظيت برمز ثمرة الموز في الانتخابات.
يقول صاحب محل الفواكه والخضراوات سليمان نصر في حي شبرا الشعبي، بينما يتابع صلاح الدين في برنامج تلفزيوني "لو قدر لهذه الشابة أن تفوز في الانتخابات عليها أن تنشر شكراً لكل فكهانية مصر مع شكر خاص لـ(سباطة الموز)". وبعد التعليق "المضحك" أخذ صاحب المحل وأقرانه يتغامزون ويتلامزون.
جلسة تصوير ترويجية
أصغر مرشحة رمز الموز، خضعت لجلسة تصوير ترويجية لحملتها الانتخابية وهي تحمل "سباطة" موز بيد مرة وثمرة موز بيد مرة أخرى. وامتلأ الأثير بكم هائل من السخرية اللاذعة من المرشحة ورمزها الانتخابي، وهو كم لا ينافسه سوى كم التنديد بما تروج له من أفكار، إذ يعتبرها البعض ردة للمرأة المصرية، وتحقيراً لمكانتها.
الكاتبة الصحافية سحر الجعارة تقول إن "المرشحة التي تود دخول مجلس النواب وجزمة الرجل فوق رأسها لا تمثلني، وإن كانت تغازل أصوات الرجال في المنوفية بالمطالبة بعدم عمل المرأة فأنا أدعوها لتحمل حذاء كل امرأة عاملة فوق رأسها، وأن تعود لمنزلها"، متهمة إياها بالجهل والرجعية.
وعن "سباطة الموز" وجهت الجعارة لوماً عنيفاً لصلاح الدين، لأنها رأت أن المرشحة تستعرض جسدها في الصور، وأن "الإسقاط الجنسي في ثمرة الموز لا يليق بامرأة محترمة، حتى لو كان رمزها الانتخابي".
الشارع وأصواته المختلفة
لكن، في الشارع أصوات مختلفة، حيث مجموعة من الشباب العامل في محل سوبرماركت شهير في حي مصر الجديدة (شرق القاهرة) تجمعوا حول شاشة هاتف محمول أحدهم، وأخذوا يتمعنون في صور المرشحة وهم يمطرونها بعبارات غزل ودعابة واستعدادهم للزواج منها دون أن تتكبد عناء الانتخابات والكلام والمجهود. لكن الشارع متعدد التوجهات والانتماءات، انتماءات يبدو من مظهر صاحبها مصطفى حسن أنها تميل إلى الالتزام الشديد دعته للقول بأن "استعراض المرشحة لأنوثتها أمر لا يصح".
ويضيف، "حين رشحت سيدات من كوادر حزب النور (السلفي الديني) أنفسهن في انتخابات عامي 2011 و2015 وتم وضع صورة وردة بدلاً من صورتها، اعترض البعض وسخروا. وحين ظهرت المرشحات في لقاءات تلفزيونية وهن يرتدين النقاب، سخروا مجدداً".
المبالغة في التزمت والانفلات
تقول المهندسة زينب صفوت (48 عاماً) إن السخرية أمر سيئ وسخيف في جميع الأحوال، لكن المبالغة سواء في التزمت أو الانفلات أمر غير مرغوب. "السيدة التي ترى أن صورتها لا ينبغي أن يراها أحد، وتلك التي تعتبر الإسقاطات الخارجة والآراء السخيفة طريقها للبرلمان لا تمثلاني. الغريب أنني لم أسمع أو أقرأ للمرشحة الصغيرة برنامجاً انتخابياً أو رؤية سياسية أو اقتصادية، فقط موز وجزم وغمازات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رأي آخر يعبر عنه الطالب الجامعي خالد فوزي (22 عاماً) أن "المرشحة لا تقصد بالضرورة ما تقوله، وهذه مصيبة في حد ذاتها، وأنها غالباً تبحث عن الشهرة وعمل الترند وصناعة شعبية لدى قطاع عريض من الشباب من أنصاف المتعلمين، أو غير المتعلمين من الأصل لعلها تكسب أصواتهم الانتخابية".
ويضيف، "في حال فازت في الانتخابات، لا قدر الله، يجب أن تخضع لدورات إعادة تأهيل لتصحيح مسارها الفكري". يصمت لحظة ثم يضيف، "في الحقيقة يجب أن تخضع للتأهيل في كل الحالات".
في كل الحالات تحظى المرشحة وفاء صلاح الدين باهتمام إعلامي وشعبي كبيرين، ناهيك عن ملايين المترددين على صفحاتها العنكبوتية من باب حب الاستطلاع، أو من "شباك" التعرف إلى المرشحة النيابية. المحامية والإعلامية ورئيس "المركز المصري لحقوق المرأة" نهاد أبو القمصان تقول، إن تصريحات المرشحة يمكن أن تعرضها للمساءلة القانونية، بل وتدعو إلى مساءلتها من قبل السلطات، لا سيما في ما يختص برفع أحذية الرجال على رأسها، معتبرة ذلك "تحريضاً على العنف ودعوة إلى إهانة المرأة".
يشار إلى أن المجتمع المصري يشهد في الأعوام القليلة الماضية شداً وجذباً شديدين بين تيارين، رجعي وآخر تقدمي، يحاول الأول الإبقاء على المرأة المصرية أسيرة تفسيرات دينية غارقة في التشدد ويجتهد الآخر لإخراجها مما هي فيه.