يمكن فصل النفط عن الماء، ولكن لا يمكن فصله عن السياسة! النفط والسياسة توأمان، مهما حاول صانعو القرار فصلهما. وناقشت هذا الموضوع مراراً وتكراراً في الماضي، وسبب العودة إليه هو أن العلاقة بينهما تتطور باستمرار، وتأخذ وجوهاً متعددة ومتغيرة.
حماية صناعة النفط المحلية حتمية سياسية في عدد من الدول الديمقراطية، الأمر الذي يُدخله في معمعة السياسة، وبشكل غير مباشر، يُدخل معه الدول النفطية الأخرى. وما فعله الرئيس الأميركي دونالد ترمب أمام العالم كله ليس علينا ببعيد.
التخلص من النفط في محاولة لوقف أو إبطاء "التغير المناخي" هدف أساسي لبعض الأحزاب في الدول الغربية، وبهذا يدخل أيضاً في معمعة السياسة من زاوية أخرى، بخاصة في فترات الانتخابات.
ولكن المشكلة أعمق، إذا أدركنا أن الإعانات الحكومية لدعم الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية خلقت صناعات ضخمة، وشركات تكبر باستمرار، وبقاء هذه الصناعات والشركات يقتضي وجود لوبيات قوية لها في مراكز صناعة القرار. وهذا يعني وجود لوبيات قوية ومنظمة ضد النفط.
المجموعة الأولى تنظر إلى صناعة النفط المحلية من منظور الأمن القومي والاقتصادي. المجموعة الثانية تنظر إليها من منظور الأمن الاجتماعي والاقتصادي؛ لأن التغير المناخي في نظرهم سيمزق المجتمعات والكيانات الاقتصادية. أما لوبي الشركات فيبحث عن مصلحة هذه الشركات فقط، وبالتالي فإن العداء للنفط عداء مصلحي يتقمص أشكال المجموعة الأولى والثانية، ويظهر بمظهر قومي وطني بيئي! ينظر إليه بعض العرب، وينخدع به، ويصفق له.
العداء للنفط
لوبي الطاقة المتجددة يحتاج إلى عدو مخيف للترويج لمصالح الشركات التي تموله. المشكلة أن الحديث عن "التغير المناخي" لا يفهمه كثير من الناس، كما أن تهديده قد يحصل بعد وفاة هؤلاء الناس بعقود، وبذلك فإن استخدام التغير المناخي قد لا يكون حجةً كافية لتبني سياسات داعمة للشركات التي تمول هذا اللوبي، لهذا يلجأ إلى الحديث عن النفط والدول النفطية، وبخاصة في الشرق الأوسط. يتكلمون عن الحروب وتكاليفها، عن الديكتاتورية وانعدام الحريات، والهجرة عبر البحر إلى أوروبا.
لنضع النقاط على الحروف، الطاقة المتجددة، متمثلة غالباً بالطاقة الشمسية والرياح، ليست بديلاً للنفط في الدول المتقدمة والصين والهند. الطاقة المتجددة هي بديل للفحم أولاً، والطاقة النووية ثانياً، وبديل في بعض الأوقات للغاز ثالثاً، وبديلة لبعضها رابعاً. لماذا؟ لأن نسبة استخدام النفط في توليد الكهرباء بسيطة جداً، تكاد لا تُذكر. وأقل من 2 في المئة في كثير من الأحيان. إذاً لماذا أُقحم النفط في المعادلة؟ إنها السياسة!
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حلَّ جزء من السيارات الكهربائية، حتى الآن، محل السيارات والحافلات التي تعمل بالغاز، ومن ثم فليس لها أي تأثير على النفط. وحلّ الجزء الآخر محل السيارات الصغيرة وعالية الكفاءة في استخدام الوقود. السيارات الكهربائية لم تحل محل السيارات الكبيرة المشهورة باستهلاكها الكبير للوقود. الأدهى من ذلك أن السيارات الكهربائية هي "السيارة الثانية" في بلد مثل النرويج، حيث بقيت الأولى التي تسير بالبنزين أو الديزل للرحلات الطويلة. ولا يوجد أي دليل حتى الآن على العلاقة بين شراء السيارات الكهربائية وأسعار البنزين أو الديزل.
يتكلمون عن الحروب من أجل النفط، ولكنهم يتناسون أنهم يتكلمون عنها وكأن ليس لهم علاقة بذلك، وكأن الحرب العالمية الثانية لم تحصل في بلادهم. ويتجاهلون تشغيل الأطفال كعبيد لاستخراج الكوبالت في بلد مثل الكونغو، أو الحروب الدائرة في تلك الدول. والكوبالت مهم لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية.
ويتغاضون عن سياسات القمع التي تقوم بها بعض الحكومات؛ لأن شركاتها تسيطر على تجارة الليثيوم والمعادن النادرة المستخدَمة في الطاقة المتجددة وبطاريات السيارات الكهربائية. إنها السياسة.
يتكلمون عن الهجرة عبر البحر وموت المهاجرين في البحر غرقاً لأنهم أبحروا من بلد نفطي، ويتناسون أن أغلبهم ليسوا من الدول النفطية، وإنما من البلاد الأفريقية التي تنتج المعادن اللازمة لبطاريات السيارات الكهربائية وعنفات الرياح.
سعر النفط اللازم لتعادل الموازنة في الدول النفطية
قد يتهمني البعض بالمبالغة إذا قلت إن جزءاً من الحرب على النفط والدول النفطية هو تركيز بعض المنظمات واللوبيات، وتوابعها في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، على سعر النفط اللازم لتوازن الموازنة.
فكرتهم هي ما يلي: السعر اللازم لتوازن الموازنة مرتفع، وهذه الدول ستقوم برفع أسعار النفط كي تحقق التوازن في موازنتها. وبما أن هذا السعر مرتفع، فإنه سيؤثر سلباً في اقتصادات الدول المستهلكة، وفي تكاليف الوقود، لذلك يجب التحول إلى مصادر الطاقة البديلة "الأرخص"، والسيارات الكهربائية "ذات التكاليف التشغيلية الأقل".
هناك مشكلات عدة في مقولتهم هذه: أولاً، سعر النفط الذي يحقق التوازن في الموازنة لا معنى له "نفطياً"، ولا يلعب أي دور في أي قرار، المهم للموازنة هو سعر النفط المفترض لتحقيق الإيرادات النفطية المتوقعة في الموازنة. وحتى هذا السعر قد لا يكون له معنى إذا كانت الحكومة مرنة في تصرفاتها عن طريق تأخير أو إلغاء بعض المشروعات الكبيرة، وتخفيض الإنفاق، والاستدانة من الأسواق المحلية والعالمية. وتفترض مقولتهم أن هذه الدول النفطية تستطيع أن تتحكم بالسعر كما تشاء، والكل يعرف أن هذا افتراء. والأغرب من ذلك كله، أن حكومات بلادهم تعاني عجزاً في الموازنة منذ عقود، لماذا العجز عندهم حلال، وعجز نظيرتها في الدول النفطية حرام؟
الفكرة هنا أن التركيز على سعر النفط اللازم لتوازن الموازنة هو جزء من التخويف من ارتفاع كبير في أسعار النفط لإقناع الناس بالتحول إلى الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية من جهة، والتصويت لسياسيين يشجعون هذه السياسات من جهة أخرى.
خلاصة الأمر أنه حتى لو أراد صنّاع القرار في الدول النفطية فصل النفط عن السياسة، فإن الدول المستهلِكة مصرّة على الربط بينهما.