تعرف المؤسسات العمومية في تونس، صعوبات متراكمة، تعود إلى ما قبل عام 2011، وتفاقم العجز في معظمها، في ظل تضخم عدد موظفيها، الذي يقابله تراجع لافت في الإنتاج والإنتاجية.
1،6 مليار دولار للإنقاذ
في محاولة لإنقاذ هذه المؤسسات العاملة في القطاع العام، أعلن رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي، في آخر حوار تلفزيوني له، أن الدولة ستضخ خمسة مليارات دينار (1،6 مليار دولار) من ميزانية السنة المقبلة لفائدة هذه المؤسسات.
وأكد رئيس الحكومة أن القطاع العمومي يستوجب إعادة هيكلة، معتبراً أن "عملية الإصلاح لا تتم إلا بخلاص الدولة من الديون التي في ذمتها تجاه هذه المؤسسات العمومية".
فهل ضخ الأموال لفائدة هذه المؤسسات، في ظل وضع اقتصادي ومالي حرج تمر به تونس، هو الحل؟ وكيف يمكن لهذه المؤسسات أن تخرج من وضع "الإفلاس" غير المعلن، الذي تمر به؟
14 في المئة عجز الميزانية العامة
ويُتوقع أن يصل عجز الميزانية في تونس إلى 14 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2020، وهو ما لم يحدث في البلاد منذ الثمانينيات، إضافة إلى مؤشرات سلبية أخرى، على غرار العجز التجاري 11 في المئة، والتضخم 8 في المئة، والبطالة التي تصل إلى حدود 20 في المئة.
وأكد الباحث الاقتصادي التونسي سامي العرفاوي، أن "وضع هذه المؤسسات، مثل مؤسسة تكرير النفط والشركة التونسية للكهرباء والغاز، غير سليم"، مشيراً إلى أنها "تحتاج إلى إعادة هيكلة، والعمل على تغيير صبغتها لتكون مؤسسات ربحية"، داعياً إلى تحديد هامش الربح الذي تعمل وفقه المؤسسة على أساس مخطط إنتاج واضح المعالم.
إعادة الهيكلة وتأهيل مؤسسات القطاع العام
كما اقترح العرفاوي تحرير رأسمال هذه المؤسسات، وإشراك القطاع الخاص في رأسمالها وإعادة هيكلتها وتأهيل مواردها البشرية، وتكوينها من أجل مردودية أعلى. واستغرب استماتة النقابات في التمسك بمؤسسات شبه مفلسة، تثقل كاهل ميزانية الدولة، معتبراً إياها بمثابة "ملاذ لتلبية المطالب الاجتماعية في التوظيف، حتى أن أغلب المؤسسات العمومية تعاني من فائض كبير في عدد موظفيها، مقابل غياب شبه كلي للإنتاج، وهذه مفارقة صعبة". وأضاف العرفاوي أن "الاستجابة العشوائية للمطالب الاجتماعية، ليست في صالح المؤسسة ولا تخلق الثروة، بل تصبح عبئاً ثقيلاً على الدولة".
تغوّل النقابات وعجز الحكومات المتتالية
كذلك، اعتبر أن "صوت النقابات في تونس اليوم أعلى من صوت الدولة، في ظل حركة اقتصادية بطيئة"، مشيراً إلى عزوف المستثمرين التونسيين والأجانب عن المرفق العام.
وعاب العرفاوي على الحكومات المتعاقبة "عدم اتخاذ القرارات المناسبة لوقف نزيف هذه المؤسسات، لأنها كانت تخشى النقابات، وهو ما دفع هذه الحكومات إلى اللجوء إلى الدين الخارجي من دون البحث عن حل جذري لهذا التسونامي الاجتماعي".
قرارات مؤلمة ضرورية
ودعا العرفاوي إلى اتخاذ قرارت قوية وحتى "مؤلمة"، ووضع "برامج إنقاذ حقيقية تستند إلى إستراتيجيات فعالة، من خلال تشخيص واقع هذه المؤسسات وإيجاد حلول علمية لإدخالها مجدداً في الدورة الاقتصادية".
كما أكد على "ضرورة أن ترفع الدولة يدها عن عدد من المؤسسات، وتحافظ على بعضها الآخر، نظراً لطابعها الاجتماعي، مع ضرورة إعادة هيكلتها وتأهيلها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كتلة الأجور تفوق 7 مليارات دولار
وتطرق العرفاوي إلى مسألة عدد العاملين في القطاع العمومي، البالغ عددهم نحو 700 ألف، فاعتبر أن "كلفة هذا الرقم ثقيلة على الميزانية، حيث تستحوذ كتلة الأجور على أكثر من 20 مليار دينار (7 مليارات دولار) ما يمثل تقريباً نصف الميزانية، وخُمس الدخل القومي الخام، بينما كان هذا الرقم في عام 2010 نحو 8 مليارات دينار (2،6 مليار دولار)".
وتواجه تونس انتقادات حادة من قبل صندوق النقد الدولي، الذي يطالب بتجميد الأجور في القطاع العام، بينما تعجز الحكومات عن لجم المطالب النقابية. وحذر رئيس الحكومة هشام المشيشي من جهته، من أن "الوضعية المالية للبلاد حرجة، وأن تونس تمر بأزمة خانقة"، إلا أنه أعلن عن الالتزام بتقديم الدفعة الثالثة من الزيادة في أجور الموظفين.
مؤسسات شبه مفلسة تحظى بدعم النقابات
من جهة أخرى، شدد الخبير المحاسب وليد بن صالح، على أن الأسباب الرئيسة لحالة "الإفلاس" التي تمر بها تلك المؤسسات هي "غياب الحوكمة والتصرف، وتراجع الاستثمارات، إضافة إلى انتشار الفساد، وتفشي الرشوة والمحسوبية والإفلات من المحاسبة، وهو ما جعل هذه المؤسسات تعيش اختلالاً على مستوى التصرف والإنتاج والميزانية".
واقترح التعاطي مع هذه المؤسسات "حالة بحالة، وحسب القطاعات"، مشيراً إلى "إمكانية التخلص من عدد كبير منها عبر طرحها أمام استثمار القطاع الخاص".
ويعارضه الاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر منظمة نقابية في تونس) بشدة في هذا الاقتراح، معتبراً أن "التفويت في المؤسسات العمومية خطاً أحمر"، لأنها في تقديره تقدم خدمات اجتماعية لا تُقاس بالربح المادي.
ولطالما عجزت الحكومات المتعاقبة في تونس، عن التعاطي مع هذا الملف بشكل جذري، واكتفت بحلول ترقيعية فرضتها حالة عدم الاستقرار السياسي في البلاد.