ينتظر القطاع الخاص اللبناني تأليف الحكومة الجديدة، ووعد رئيسها زعيم تيار "المستقبل" سعد الحريري بأن تكون من الاختصاصيين المستقلين غير الحزبيين أصحاب الكفاءة من أجل تنفيذ الإصلاحات المتفق عليها في خريطة الطريق التي صاغها فريق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وفي وقت راهن بعض أوساط القطاع الخاص على أن يعطي تأليف الحكومة الجديدة زخماً لتدابير إنقاذ لبنان من الانهيار المحتم، يترقب عدد آخر منهم نوعية وزرائها ومدى المحاصصة بين الفرقاء السياسيين، في ظل تساؤلات عما إذا كانت التسويات ستعيد إنتاج حكومة تكرر الأخطاء السابقة في تأخير المعالجات التي عرقلتها التجاذبات السياسية.
وإذ تركز المعالجة العاجلة المطلوبة على تدابير تعيد إدخال أموال إلى البلد، خصوصاً من صندوق النقد الدولي لتحريك الاقتصاد وإعادة الثقة، يطرح على الدوام السؤال حول كيف يمكن للمصارف اللبنانية أن تواكب تأليف الحكومة الجديدة؟ وهل أن خطتها التي كانت أعدتها للنهوض بالاقتصاد قبل أشهر حول سبل معالجة الخسائر في القطاع المصرفي ما زالت قائمة؟
"التخلف عن تسديد الدين أخرنا 50 عاماً"
يكرر رئيس جمعية المصارف في لبنان سليم صفير لـ"اندبندنت عربية" أن البحث في أي حلول يجب أن ينطلق من أن هناك أزمة ثقة ضاربة داخلياً وخارجياً، تشمل الزبون الصغير والمتوسط والكبير، إضافة إلى أزمة العلاقة مع السياسيين، والقطاع المصرفي بين ناري الدولة والشعب اللذين لهما مطالب منه سواء من له 1000 دولار أو من لديه وديعة أكبر، والجميع يلومه بأنه لم يقم بواجباته.
ويشبّه صفير الأزمة والمصارف، بباخرة في قلب العاصفة، "تضربها أمواج عالية من جهة والأمطار الشديدة من جهة ثانية، ولا بوصلة توجّهها يميناً أو يساراً. المصارف خزان الثقة الذي يربط الشعب بثروته وتعبه، والقطاع الخاص كماكينة اقتصادية تؤمّن الوظائف للناس الذين راهناً لا يرون بصيص أمل للمستقبل. الأزمة لم يعش مثلها لبنان منذ المجاعة الكبرى أوائل القرن الماضي. مسؤولية الحكومة الجديدة تهدئة العاصفة حتى من هم على علاقة بالمصارف، أو المصارف أو القطاع الخاص الذي عليه خلق فرص عمل".
ويتابع، "من دون الدخول في تفاصيل ما أوصلنا إلى هذه الحال، فإن أكبر خطأ حصل عام 2020 هو التخلّف عن دفع الدين (قررته حكومة حسان دياب المستقيلة في التاسع من مارس (آذار) الماضي، لأنه قرار أخّر لبنان 50 عاماً، في وقت كان بإمكان البلاد الاستغناء عنه ويعالج بتوازن مشكلته الاقتصادية".
وقال رئيس الحكومة اللبناني السابق حسان دياب في مارس الماضي إن احتياطي العملة الصعبة في لبنان بلغ مستوى خطيراً ما يدفع لتعليق سداد سندات الدين الدولية، في أول تخلّف للبنان عن سداد ديون في تاريخه.
وقال دياب حينها في خطاب أذاعه التلفزيون إن لبنان غير قادر على سداد الديون المستحقة في الظروف الحالية وإنه سيعمل على إعادة هيكلة ديونه من خلال التفاوض مع حاملي السندات. وأضاف "ستسعى الدولة اللبنانية إلى إعادة هيكلة ديونها بما يتناسب مع المصلحة الوطنية عبر خوض مفاوضات منصفة وحسنة النية مع الدائنين كافة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نحتاج حكومة فعالة من اليوم الأول
ويرى صفير أن مسؤولية الحكومة الجديدة "أن تكون فعالة من اليوم الأول، أشخاصها يعرفون ما ينتظرهم ولديهم الخبرة والقدرة الاحترافية لينتجوا من اليوم الأول، ولا نحتمل الدخول في عملية التجربة والخطأ لأن المسؤولية هي التي تقود لبنان إلى برّ الأمان. ولذلك نحتاج إلى فريق متجانس يعمل طوال النهار لربح الوقت في ظرف صعب، مع جائحة كورونا التي خلقت وضعاً اقتصادياً صعباً في العالم. والمطلوب من الحكومة إعادة الثقة الداخلية والخارجية. أهدافها واضحة وليست لديها فترة سماح. والمسؤولية المالية تقتضي حكماً، أن يكون وزير المال الجديد على تفاهم كلي مع مصرف لبنان ورئيس الحكومة ليستخدموا معرفتهم وما تبقّى من أدوات لوقف التدهور والنزف المالي، ويجدوا مداخيل، ويساعدوا القطاع المصرفي، ويحركوا الماكينة الاقتصادية والقطاع الخاص ليخلق فرص عمل ومداخيل للدولة. فالمشكلات الاجتماعية لا تحل إذا لم تنطلق الماكينة الاقتصادية، التي لا تتحرك إذا لم يكن هناك تفاهم بين المالية ومصرف لبنان".
ويشدد رئيس جمعية المصارف على أن القطاع المصرفي هو "المحرك الذي يغذي الدورة الاقتصادية لينطلق القطاع الخاص، وينشئ فرص عمل جديدة ومداخيل للخزينة، ويخلق أملاً للجيل الجديد كي يبقى في البلد. ينقصنا خلق الثقة والأمل بالمستقبل، اللذان يجب أن يكونا دافع الحكومة الجديدة".
لكن ما المطلوب من المصارف في المقابل؟ يقول صفير، "القطاع المصرفي يشغّل 28 ألف عائلة ولديه بين مليون ونصف مليون ومليوني مودع وزبون لبناني، وهو مفتاح القطاع الخاص، وما زال صامداً وعاملاً. ما ينقصه نفس جديد من المودع والمستهلك، والدولة التي عليها مستحقات للقطاع الخاص والمصارف ومصرف لبنان، ليس مطلوباً منها أن تدفعها في يوم واحد، لكن أن تعطي أملاً لكل هؤلاء الفرقاء الذين مدّوا يدهم لها في الماضي، كي يخلقوا مناخاً إيجابياً يعيد تحريك البلد".
خطة جديدة بدل كل الخطط السابقة
وسبق للمصارف أن وضعت خطة اقتصادية مقابلة لخطة حكومة حسان دياب وشركة "لازار" (الاستشاري الفرنسي الذي استعانت به الحكومة)، لكن صفير يعتبر أنه "يجب طرح خطة جديدة الآن مختلفة عن الخطط السابقة، خطة الدولة فشلت لأنها لم تأخذ في الاعتبار القطاع الخاص ومصرف لبنان، صحيح أن خطة المصارف واقعية أكثر لكن الأجواء لم تسمح لها أن تأخذ في الاعتبار الدولة والقطاع الخاص، الآن يفترض بالدولة والقطاع الخاص والمودع ومصرف لبنان والمصارف أن يضعوا خطة موحدة، تعيد الأمل، المرحلة الجديدة تقتضي خطة جديدة".
التعميم 154 متوقف على أولى خطوات الحكومة
وفي انتظار الخطط هذه، هناك تدابير اتخذت لإدخال العملة الصعبة إلى البلد من أجل معالجة مشكلات ملحّة ومنع الانهيار، والحريري قال إن المشكلة الأساس هي غياب الدولار والمطلوب إدخال كميات منه مجدداً. وسبق لمصرف لبنان أن أصدر التعميم 154 من أجل اجتذاب الأموال مجدداً إلى لبنان، يقوم على ثلاثة تدابير لم تنفذ، الأول، حث المصارف على إعادة نسبة 15 في المئة مما جرى تحويله إلى الخارج، ولم يعلن تنفيذه حتى الآن، والثاني، زيادة الودائع ثلاثة في المئة لدى المراسلين في الخارج لم تحصل، والثالث، مهلة زيادة رأس المال التي يمكن أن تؤدي في حال التخلّف عنها إلى إحالة المصارف إلى هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان في فبراير (شباط) 2021، تأخرت.
صفير يؤكد أن "التعميم قيد التنفيذ حالياً والمصارف تحضّر لزيادة رأس المال في 31 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، وهي تعمم على زبائنها أن يساعدوها ويعينوا البلد على استرجاع الثقة المطلوبة لخلق النهضة قريباً. وما أراه اليوم هو أن الزبائن حاضرون لذلك. ويتوقف نجاح التعميم 154 وإعادة إدخال أموال إلى البلد على نجاح أولى خطوات الحكومة من الآن حتى بداية العام الجديد".
توقع دخول ثمانية إلى تسعة مليارات دولار من تعميم مصرف لبنان؟
وعن التوقعات حول ما يمكن للتعميم 154 أن يجذبه من أموال إلى البلد، يشير صفير إلى أن "زيادة رأس المال قد تجلب حوالى أربعة مليارات دولار واستعادة 15 في المئة من الودائع (التي خرجت من البلد) تعيد حوالى أربعة إلى خمسة مليارات دولار. وهذه الخطوة إذا نجحت تسهّل مشوارنا مع صندوق النقد الدولي، الذي هو في النهاية مصرف دولي، يطرح عليه تمويل البلد، إذا لم يجد جدوى منه متعلقة طبعاً بالثقة وبمؤسساته، لا نستبشر خيراً".
ولماذا لا تبدأ المصارف بإدخال المال إلى البلد كي تسهم في استعادة الثقة وحلحلة المشكلات الاجتماعية؟ يرى رئيس جمعية المصارف أنها "ستزيد رأسمالها شئنا أم أبينا قبل آخر السنة، لكن الفريق الثاني (المودعين) لا يمكنك إرغامه، لأنه يحتاج إلى تشجيع لإعادة ولو جزء صغير من تعب حياته".
ماذا عن أصحاب المصارف الذين حوّلوا أموالاً إلى الخارج ويحتفظون بها؟ يلفت صفير إلى أن هؤلاء من المستثمرين "خسروا حتى اليوم حوالى 20 مليار دولار منذ قررت الدولة الكريمة التخلّف عن الدفع. تطلب منهم زيادة الرساميل بين أربعة وخمسة مليارات دولار، وهم مستعدون للقيام بذلك. يجب إعطاؤهم المجال كي يواصلوا دورهم".
الدولار الطالبي وأموال المستشفيات و"مقصلة الاقتصاد"
معالجة المشكلات اليومية نتيجة نقص السيولة، منها تأمين العملة الصعبة لاستيراد المستلزمات الطبية للمستشفيات التي أعلن بعضها نية التوقف عن استقبال المرضى لا يمكنها أن تنتظر بينما تضع الحكومة خطتها وتنفذ، ومنها تطبيق قانون الدولار الطالبي بالسماح بتحويل 10 آلاف دولار سنوياً للطلاب الذين يدرسون في الخارج، تطبقه مصارف وتمتنع أخرى، ويرى صفير أن "تعداد هذه المشكلات لن يتوقف لأن كل الأمور مترابطة ببعضها. وكلها يتعلق بالسيولة، وهي ذيول التخلّف عن دفع الدين الذي كان بمثابة مقصلة الاقتصاد اللبناني. قلنا لهم (الحكومة السابقة) لا يمكنكم عدم السداد لأنكم لا تستطيعون مقاومة أضراره الجانبية (collateral damage) بالورقة والقلم. بدأت الأضرار الجانبية للتخلف عن الدفع تظهر. في منزلك طالما لديك مدخول لا تشعر بمصروفه. حين يتوقف المدخول، كل قرش تدفعه موجع، ثم تلاحظ كم أن هناك أموراً صغيرة لم تكن تنتبه إليها، مثل الدواء الذي لا تجده".
ويضيف صفير، "أما الدولار الطالبي فقد مضت سنة ونحن نفتش عن وسيلة لمساعدة طلابنا في الخارج، كان يجب أن يستشيروا (مجلس النواب) قبل وضع القانون لمعرفة كيف يطبق، ككل شيء يقومون به وغير متأكدين من نجاحه، سمّوه دولاراً طالبياً، لكن أين هو موجود حتى تستعمله؟ يجب أن يكون معك حتى يتم تحويله، أتمنى لو أن الدولار الطلابي أقرّ مع الحكومة الجديدة وليس قبلها، وكان ممكناً الانتظار أسبوعين أو شهراً حتى يتم تأمين هذا الدولار، والدواء أهم والبطالة مهمة وكل الأمور مترابطة. المسؤولون في الدولة لا يأخذون في الاعتبار أن حبات المسبحة متعلقة ببعضها".
خريطة الطريق الفرنسية التي اتفق عليها الفرقاء السياسيون اللبنانيون على أن تكون في صلب البيان الوزاري للحكومة تشمل إعادة هيكلة المصارف، وزار وفد من جمعية المصارف فرنسا قبل شهر لأن لدى باريس خططاً تتعلق بالقطاع المصرفي والإنقاذ المالي، يقول صفير إن الزيارة كانت "لعرض دراسة جمعية المصارف لأن خطة لازار التي هدفها إفلاس البلد كان فريق من الفرنسيين مقتنعاً بها، ودراستنا أعدّيناها مع استشاري فرنسي وطلبنا منهم الاطّلاع عليها. شرحنا لهم أن خطة لازار هي إفلاس اقتصادي بينما دراستنا هي للإنقاذ الاقتصادي. لم نبحث في الخطة الفرنسية لإنقاذ لبنان".
صندوق إدارة أملاك الدولة
ومن ضمن المعالجات المطروحة بغية سدّ الفجوة المالية الكبرى استثمار أملاك الدولة، التي شملتها خطة المصارف، بينما هناك مخاوف كبرى من بيع هذه الأملاك، وترصد أطراف عدة توجّهاً كهذا وتعارضه بشدة، ومنها "حزب لله" الذي برّر إصراره على المشاركة في الحكومة بحجج عدة، منها أنه ينوي رفض التصرف بهذه الأملاك.
وتحمل مجموعات في المجتمع المدني والانتفاضة الشعبية وكذلك وسائل إعلام عدة على جمعية المصارف بأنها تريد الاستيلاء على عقارات الواجهة البحرية في بيروت، لكن صفير يدافع قائلاً، "هذا ليس دقيقاً. لم نطلب الحصول على أراضي الدولة لا في الواجهة البحرية ولا غيرها. هذه الفكرة ليست اختراعاً لبنانياً. تطرح في كل دول العالم التي مرت بأوضاع صعبة ولقيت نجاحاً، بهدف إعادة الثقة بالعملة الوطنية. ما قلناه هو إنشاء صندوق تملكه الدولة من دون أن تديره، بل خبراء مستقلون لا يكونون من موظفيها، تختارهم هي، من رجال الأعمال لديهم تاريخ من الخبرة والنجاح لإدارة الأملاك، حتى تعطي الدولة ضمانة بأنها مع الوقت ستردّ أموال المودعين التي تبخرت، نحن تحدثنا عن مردود وأرباح هذه الأملاك لا عن بيعها وهدرها. ولا أحد يتصرف بهذه الأملاك".