إليكم بعض الأنباء الحسنة الناجمة عن الجائحة؛ حتى هذه الحكومة لن تجازف بمواجهة التداعيات المحتملة التي ستتمخض عن خروج البلاد من الاتحاد الأوروبي من دون صفقة، وسط إغلاق يكاد يكون تاماً وأزمة اقتصادية وطنية، لاسيما أن الأمر يتعلق بتداعيات من شأنها أن تقضي قضاءً مبرماً على المستقبل السياسي للمسؤولين عنها. يود أعضاء الحكومة الاعتقاد أنه بوسعهم فعل ذلك؛ بيد أن التجارب الماضية من جهة، والضغوطات الشديدة التي يجدون أنفسهم تحت وطأتها من جهة ثانية، توحي أنهم سيذعنون، ربما في غضون أسبوعين.
بحلول ذلك الوقت، سيكون دونالد ترمب، وهو المعجب الوحيد في واشنطن ببريكست، خارجاً من البيت الأبيض في طريق عودته إلى "برج ترمب". وستنتقل الولايات المتحدة إلى صف الراغبين في التوصل إلى صفقة. وسيشعر جونسون فجأة أنه معزول للغاية في العالم.
وطبقاً لمجلة "سبيكتيتور" The Spectator، التي تُعتبر دائماً مصدراً لا يمكن الشك في صدقية ما ينقله عن النشاطات القابلة للشك لرئاسة الحكومة، فهذه الاستعراضات المسرحية حول بريكست لا تعدو كونها كذلك. ويقال لنا إن "هناك مبرراً يفسر سبب ميل رئاسة الحكومة في 10 داونينغ ستريت إلى تصعيد التوتر. فالعاملون هناك، خصوصاً أنصار حملة "صوتوا للخروج" يعتقدون أن إحدى إستراتيجياتهم تتمثل في التزام الهدوء عندما تشهد الأوضاع ضغوطاً عالية، ويشعر الآخرون بالهلع".
قد يكونون واهمين على نحو كوميدي كما يوحي ذلك، لكن لا شك في أنهم متغطرسون بما فيه الكفاية كي يعتقدوا أن تلك هي حقيقتهم، مثل فرقة من المقامرين العنيدين والجريئين في فيلم "يد لوقا الهادئة" cool hand Lukes، يلعبون البوكر مع أوروبيين من أصحاب المزاج الهستيري.
غير أن الحقيقة بالطبع خلاف ذلك. فقد قال بوريس جونسون ومايكل غوف أنهما سيوقفان المباحثات التجارية في 15 أكتوبر (تشرين الأول)، أياً كانت النتيجة. ثم كانا يضعان حداً للمفاوضات مع تركهما الباب "مفتوحاً" لإجراء المزيد منها فقط في حال كان هناك تحول "جوهري" في موقف الاتحاد الأوروبي.
ثم قال الاتحاد الأوروبي إنه يود أن يفاوض، من دون أن يتعهد بأي تحول "جوهري"، أياً كان معنى ذلك. إذن، فقد شعرت المملكة المتحدة بالهلع مرة أخرى، فأذعنت لكنها جعلت إذعانها يبدو كما لو كان انتصاراً لفن الحكم. وقد تكرر السيناريو ذاته مع اتفاقية الانسحاب الجاهزة oven-ready للتطبيق، فجرت الموافقة على خط حدود في البحر الإيرلندي تماماً كما اقترح ميشال بارنييه (على الرغم من محاولة التملص لاحقاً من اشتراطاتها القانونية والمنطقية). وحتى أن أسلوب جونسون في إدارة البلاد يشتمل على قائمة أطول من الانعطافات في الاتجاه المعاكس والأمثلة التي تصلح للدراسة بهدف توضيح بعض تصرفاته المماثلة.
ولن تكون الاتفاقية العظيمة للتجارة الحرة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي مختلفة عن تلك الأمثلة الموجودة في سجله. وعندما يحين الوقت المناسب، سيلقي جونسون بصيادي الأسماك في البحر، وينحني أمام تشدد الاتحاد الأوروبي بخصوص مساعدات الدولة، ويساوم على السيادة المطلقة باسم التعاون، ويعلن عن النصر ثم يمضي قدماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وسينجو بجلده في النهاية لأن عدداً من أقوى أعضاء مجلس الوزراء، مثل ريشي سوناك وحتى مايكل غوف، يرغبون بشدة بالغة في التوصل إلى اتفاقية. سيكون هناك في البرلمان نساء ورجال متصلبون من أعضاء "مجموعة البحوث الأوروبية" ERG مستعدين للتصويت ضد الاتفاقية. بيد أن هؤلاء المتشددين لابد أن يشعروا حالياً بالسخافة إلى درجة ما، شأن الجنود اليابانيين الذين كانوا يخرجون في سبعينيات القرن الماضي من غابات جزر بعيدة غير مقتنعين بأن الحرب العالمية الثانية قد وضعت أوزارها بعد.
ولن تُرضي الاتفاقية نايجل فاراج، فما جرى لم يتم وفق طريقته، ولن يكون عليه أن يفعل شيئاً سوى مراقبة زوارق اللاجئين المطاطية وهي تحاول الوصول إلى شواطئ البلاد هذا إذا قبل بالواقع على الإطلاق. والأهم من ذلك هو أن لدى الجمهور حالياً ما يقلقه من الأشياء الأخرى غير آلية تسوية المنازعات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي بطريقة متكافئة، وما إذا كانت المحكمة الأوروبية ستلعب دوراً في هذه الآلية. فمما يثير قلق الناس الآن مثلاً هو ما إذا كانت شحنات الأدوية التي يحتاجون إليها والتي ينتجها مصنع في مدينة ساربروكن الألمانية ستتمكن من اجتياز القنال الإنجليزية كي تكون بمتناولهم.
فهذه ستكون "الصفقة الجاهزة للتطبيق رقم 2" oven-ready deal 2، التي يدعمها الرأي العام ولو بدافع الإرهاق المحض. لايزال أنصار الخروج القاسي من الاتحاد الأوروبي عبارة عن أقلية، ولابد من الاعتراف بأنهم يتمتعون بتمثيل جيد في قواعد حزب المحافظين. لكن ماذا يستطيع هؤلاء أن يفعلوا بعد توقيع الاتفاقية؟ وما هو البديل الذي يطرحونه؟
لحسن حظ جونسون وحزب المحافظين، هناك فوائد سياسية متعددة حتى لاتفاقية "استسلاميه". أولاً، الأكثر أهمية وأنانية: ستطوي إلى الأبد صفحة الانقسام الأوروبي الذي كان أشبه بهاجس انقسم من حوله حزب المحافظين واضطرب بسببه، بين الحين والآخر، على امتداد ستة عقود. ولن يبقى هناك "معجبون بأوروبا" و"مشككون في أوروبا"، ولن تكون هناك فصائل متضادة، أو حرب أهلية وشقاق وفوضى. وسيكون حزب العمال و"الحزب القومي الأسكتلندي" من سيجدان أوروبا مسألة معقدة للتعاطي معها، لا سيما أن العديد من أعضائهما سيرغب في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي من جديد في أول فرصة سانحة.
فأي خاتمة سعيدة بالنسبة لحزب المحافظين ستكون هذه!
ثانياً، ستجعل الاتفاقية إدارة جونسون تبدو كفؤة في منتصف ولايتها، وهو أمر تحتاج إليه فعلاً.
ثالثاً، إن الصفقة، بصرف النظر عن شروطها، ستساعد المملكة المتحدة على البقاء كدولة واحدة، على الأقل بالمقارنة بالخروج من الاتحاد الأوروبي من دون صفقة. سيتحتم على "الحزب القومي الأسكتلندي" أن يبين ما هي شروطه للانتساب من جديد إلى الاتحاد الأوروبي، المتعلقة مثلاً بالانضمام إلى عملة اليورو وحقوق الصيد، وإثبات أن ذلك سيجعل أسكتلندا في وضع أفضل بكثير من البقاء في المملكة المتحدة التي تتعامل مع أوروبا على أساس اتفاقية التجارة الحرة. ولن تكون هناك حاجة لمواجهة أي متاعب بشأن إيرلندا، شريطة التخلي عن "الوحدويين الديمقراطيين" لبعض الوقت، وإضعاف البنود العدوانية في مشروع قانون السوق الداخلية أكثر من ذي قبل أو تجاهلها بهدوء.
الوقت قصير للغاية، بالطبع، لن يكون هناك متسع من الزمن لحوالى 30 برلماناً ومجلساً أوروبياً مختلفاً للمصادقة على الصفقة. تخيل أن يكون الـ "والون" (البلجيكون الناطقون بالفرنسية) مشاكسين حول الصفقة كما كانوا حيال الصفقة مع كندا! لكن هناك طريقة للالتفاف على ذلك. فلا يزال من الممكن للفترة الانتقالية أن تنتهي في 31 ديسمبر (كانون الأول)، فيما يستمر الوصول إلى أوروبا والعودة منها (وليس لبقية أنحاء العالم) من دون دفع رسوم جمركية، بموجب شروط "منظمة التجارة العالمية، لاسيما بحكم المادة 24 الشهيرة التي تسمح بذلك إذا كان الطرفان المعنيين يتفاوضان على اتفاقية تجارة حرة وكلاهما يوافق على هذا الوصول المجاني. لذلك من الممكن استغلال الوقت لضبط الوثيقة بدقة وإنهاء العمليات البرلمانية، وأيضاً تهيئة الفرصة بالنسبة لجونسون كي يحاول التراجع قليلاً، تماماً كما يحاول دائماً.
أخشى أنني أستطيع رؤية جونسون ينطلق بحماسة إلى المنبر في مقر رئاسة الحكومة بدوانينغ ستريت ليقول "هذه اتفاقية رائعة للتجارة الحرة ستكون ذات فائدة هائلة لكل جزء في المملكة المتحدة وأيضاً بالطبع لأصدقائنا وحلفائنا الأوروبيين. إنها تحفظ لنا الوصول السلس إلى السوق الأوروبية الواسعة كما تحمي اتفاقية الجمعة العظيمة (للسلام في إيرلندا الشمالية). ينبغي للجميع الآن أن يتركوا المناقشات المريرة والجدال الذي يسبب الفُرقة، التي تخللت السنوات الخمس الماضية، خلف بريطانيا العالمية. علاقتنا بأوروبا قد حُسمت بعد طول انتظار. وسيكون بوسع جيراننا الأوروبيين أن يواصلوا الاستمتاع بلحم الضأن الويلزي اللذيذ، وبآلياتنا الكهربائية المدهشة، وسنواصل نحن التمتع بنبيذهم الفاخر وبمأكولاتهم الشهية... وأيضاً، نتطلع بالطبع إلى إبرام صفقات اقتصادية تكميلية جديدة مع دول العالم، كما فعلنا مع اليابان، وسأبحث هذه القضية بالذات مع الرئيس بايدن قريباً جداً...".
ستبقى الصفقة واهية، أملتها بروكسل على بريطانيا التي قبلت بها من موقع ضعيف بشكل استثنائي، وهي أدنى بكثير من شروط العضوية القديمة الخاصة بالمملكة المتحدة، ولن تنقذ الوظائف و(امكانية تدني) مستويات المعيشة التي سيلحق بها الضرر جراء الخروج من الاتحاد الأوروبي. غير أنها ستكون "صفقة"، سيكون الشعب البريطاني القلق، المشتّت الذهن، الخائف، ممتناً لإبرامها.
© The Independent