تعرض السودان خلال العقدين الماضيين لفجوة تكنولوجية بالغة الأثر أضرت باقتصاده لأبعد الحدود، بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الإدارة الأميركية على حكومة الرئيس السابق عمر البشير، لاتهامها بممارسة أعمال إرهابية، وهو ما أقعد قطاعاته الاقتصادية المنتجة كافة وحرمانها من الاستفادة من التطورات التقنية الحديثة.
لكن اقتصاديين سودانيين، يعتقدون أنه مع رفع هذه العقوبات، فإنه بالإمكان اللحاق بركب الدول المتقدمة في حال وضعت الحكومة السودانية خطة إستراتيجية للنهوض، خصوصاً في قطاع التعليم التقني، فضلاً عن إيجاد شراكات ذكية مع المجتمع الدولي في المجالات الاستثمارية كافة، والانفتاح على القارة الأفريقية ليكون السودان مركزاً وقاعدة تصديرية.
وفي هذا السياق، أشار أستاذ الاقتصاد في الجامعات السودانية عبد العظيم المنهل، إلى أن "تأثير التكنولوجيا على الاقتصاد السوداني مهم جداً، وأعتقد أن بلوغ هذه الغاية يحتاج لزمن، لكن لا بد من تغيير الهرم التعليمي في السودان، لأن 95 في المئة منه تعليم أكاديمي، بينما يمثل التعليم التقني 5 في المئة، في وقت نجد التعليم التقني في ألمانيا وكوريا الجنوبية يصل إلى 75 و93 في المئة على التوالي، لذلك إذا لم يحصل هذا التغيير فلن تستطيع البلاد أن تلحق بركب الدول المتقدمة اقتصادياً، لأن التقنية أصبحت الأساس للنهوض عالمياً، ومن دونها لن تخطو أي دولة خطوات متقدمة في شتى المجالات"، وأضاف المنهل، أن من ظواهر التخلف التكنولوجي والتقني في البلاد ملاحظة أن معظم البحوث الأكاديمية في الجامعات السودانية ومراكز البحوث نظرية وليست تطبيقية، فضلاً عن أن صادراتنا من المعرفة قليلة جداً تقدر بنحو 1 في المئة، بل إن معظمها خام، وليست ذات قيمة مضافة، وتغطى حاجة السوق من هذه السلعة من الخارج بأسعار عالية جداً.
هجرة الكوادر
وتابع المنهل ان "السودان فيه 130 جامعة وكلية خاصة، و35 جامعة حكومية، وعلى الرغم من ذلك، نجد أن عدد الاختراعات قليل جداً، علماً أن جيل الشباب الحالي مهيأ لأن يكون له شأن في هذا المجال، وهناك من حقق نجاحات كبيرة، لكن كانت باجتهادات فردية، وليست بطريقة مؤسسة ومنظمة، لذلك لا بد من إحداث تحول في هذا النشاط الحيوي، من خلال دعم أعمال البحث العلمي التي تصل نسبتها 0.4 في المئة، في حين تصل نسبتها في بعض الدول 13 في المئة".
وأشار المنهل إلى أهمية إنشاء بنية تحتية لمواكبة التطور السريع في مجالات المعرفة والبحوث والتكنولوجيا بشكل عام، لأنه للأسف الشديد، فإن معظم كوادرنا البشرية المتفوقة في هذا المجال هاجرت إلى الخارج، واستقطبتها شركات عالمية في أميركا وأوروبا ودول الخليج، وهذا بلا شك سيخلق فجوة كبيرة ويفرغ المجتمع من القادة والمبتكرين في المجال التقني والتكنولوجي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وزاد أستاذ الاقتصاد السوداني، "أصبحت هناك ضرورة لإحداث ثورة تكنولوجية شاملة، لأنه إذا لم تواكب جامعاتنا ومعاهد البحوث والمؤسسات المختلفة ذات العلاقة هذا التطور، فستكون خارج منظومة المعرفة وعديمة الفائدة والتعامل، خصوصاً وأنه في عام 2030 ستقلص الوظائف بنسبة تزيد على 65 في المئة، وتصل في عام 2050 إلى 80 في المئة، فالبلاد فيها طاقات بشرية منتجة في هذا المجال، لكن لم تستغل في تصنيع وتجميع السلع الإلكترونية ذات الطلب العالي لتقليل الحاجة للاستيراد وتحقيق فائدة ومكاسب للاقتصاد السوداني، كذلك هناك حاجة لتغيير النمط التقليدي المتبع في الزراعة وأساليب الري، فمن الأهمية بمكان العمل على توطين التكنولوجيا"، مشيراً في الوقت عينه إلى أن الأولوية المطلوبة حالياً إيجاد شراكات ذكية مع المجتمع الدولي في مجال تصنيع وتوطين الماركات العالمية، وأن تكون هناك صناعات من مختلف المجالات لتغطية حاجة المجتمع، كما أنه من الأفضل الانفتاح نحو أفريقيا، لا سيما وأن السودان تحده سبع دول أفريقية، وبإمكانه أن يكون بمثابة مركز لإعادة التصدير لدول هذه القارة.
شيطنة النظام
في سياق متصل، قال وزير الدولة السابق في وزارة المالية السودانية عز الدين إبراهيم، "كان حجم الاقتصاد السوداني عام 2000 نحو 10 مليارات دولار، وقفز عام 2015 إلى 110 مليارات دولار بعد أن حقق نمواً كبيراً، لكن نظراً لضرورات سياسية وشيطنة النظام السابق، لم تحظ البلاد بأي تقدم في المجالات الإنتاجية المختلفة، على الرغم من قيام عديد من المشاريع الحيوية مثل إنشاء سد مروي، وتعلية سد الروصيرص، وكهرباء جبل أولياء، ومد الكهرباء من بورتسودان شرقاً حتى دارفور غرباً، ومن أقصى الشمال حتى جنوب كوستي، كذلك حصل تطور في التعليم العالي، فزاد عدد الجامعات من أربع إلى 130 جامعة خلال فترة الـ 30 عاماً الماضية، كما تعطلت مصانع في مجالات مختلفة خصوصاً النسيج، وتوسع العمل في مجالات تصنيع أخرى كالحديد والإسمنت والسيراميك، وأضرت العقوبات الأميركية بسبب رعاية السودان للإرهاب بقطاع سكك الحديد والطيران والمصارف"، ولفت إلى أن التكنولوجيا ازدهرت في قطاع الاتصالات الذي شهد ثورة كبيرة، انعكس على النمو الاقتصادي في البلاد بشكل كبير ببلوغه 7 في المئة، وكانت نسبة قطاع الاتصالات 2 في المئة، والاقتصاد العادي 5 في المئة.
أضاف إبراهيم، "لم تكن الفجوة التكنولوجية ظاهرة على صعيد القطاع الصناعي وتوليد الكهرباء، لكن كان الأثر كبيراً على العنصر البشري، إذ توقفت البعثات إلى أميركا وأوروبا، ما انعكس سلباً على الجهاز الإداري في مؤسسات الدولة بشكل عام، وعلى الجهاز المصرفي الذي تضرر من ناحية توقف معاملاته الخارجية المباشرة مع المؤسسات والبنوك المختلفة في العالم، ما أدى إلى زيادة تكلفة الاستيراد بسبب زيادة رسوم التحويلات النقدية التي تتم بطرق غير مباشرة، ومع ذلك، حصل تقدم وتطور في هذا القطاع من ناحية نقاط البيع والصراف الآلي وغيره".
وبين وزير الدولة السابق في المالية السودانية أن "مشكلة التخلف التقني الواضحة في السودان توجد في قطاع الزراعة، الذي يعد من الأعمدة الرئيسة للاقتصاد، فالتقنية لا تأتي بمعزل عن رأس المال، لكن أتصور حدوث قفزة تكنولوجية سريعة في الفترة المقبلة بمجرد دخول الشركات العالمية، خصوصاً الأميركية البلاد بعد إكمال إجراءات رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، صحيح أن التخلف التقني سبب عدم توازن في الاقتصاد الكلي، لكن الأمر الإيجابي أن الأساسيات موجودة من طرق وكهرباء، وأعتقد أنه إذا حصل استقرار في سعر الصرف للجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية، يمكن أن تحدث انطلاقة للاقتصاد، لكن هناك صعوبة في كيفية حصول هذا التوازن، في ظل العجز المتوقع للموازنة العامة للدولة، المقدر بنحو 200 مليار جنيه سوداني، ما يعادل أكثر من مليار دولار، وهو ما سيتم تمويله من البنك المركزي السوداني، ما سيؤدي إلى انخفاض قيمة الجنيه السوداني مقابل الدولار، بالتالي ارتفاع السلع الاستهلاكية".
وأكد إبراهيم على ضرورة إيجاد رؤية سليمة للإصلاح الاقتصادي من خلال اتباع سياسات محكمة، تلعب دوراً كبيراً في حل المشكلة الاقتصادية التي تواجه البلاد، فضلاً عن أهمية تبعية الشركات العسكرية والأمنية لوزارة المالية لتصب إيراداتها في خزينة الدولة.
عقوبات اقتصادية
كانت واشنطن أدرجت السودان عام 1993 على قائمة الدول الراعية للإرهاب، لاستضافته آنذاك زعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن، وأدت العقوبات الأميركية إلى تدهور الاقتصاد السوداني بشكل مريع، وتسببت في تخلفه من ناحية التكنولوجيا، ووجود أزمات معيشية بالغة بسبب عدم امتلاكه احتياطيات من النقد الأجنبي تمكنه من استيراد السلع الرئيسة (القمح، والمحروقات، والأدوية)، وارتفاع مديونيته الخارجية، وانهيار سعر صرف عملته المحلية.
لكن قرار رفع اسم البلاد من قائمة رعاة الإرهاب، الذي وقع عليه الرئيس دونالد ترمب في 19 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، قد يمثل ضوءاً في آخر النفق للاستفادة من التقنيات الحديثة، فضلاً عن تحسين الأوضاع الاقتصادية بشكل عام.