أثناء إدلاء روبرت مولر بشهادته أمام الكونغرس بعد انتهاء التحقيق الذي قام به، طرح عليه النائب الجمهوري كين باك السؤال التالي "هل يمكنك توجيه اتهام للرئيس بارتكاب جريمة بعد مغادرته منصبه"؟. أجاب مولر "نعم". فتابع باك "أنت تعتقد أنه ارتكب (جرائم)، هل يمكنك توجيه اتهام لرئيس الولايات المتحدة بعرقلة مسار العدالة بعد مغادرته منصبه"؟، وجاء الجواب هذه المرة أيضاً "نعم".
استنتج تقرير المحقق الخاص الذي نظر في احتمال كون دونالد ترمب مرشح موسكو للبيت الأبيض من عدمه، أن الرئيس الحالي ربما عرقل سير العدالة 10 مرات على الأقل. لكن مولر توصل كذلك إلى أن قرار وزارة العدل الذي صدر في العام 1973، ومنع توجيه اتهام لرئيس أثناء ولايته، يعني أن اتهام ترمب بارتكاب جريمة فدرالية أمر "يخالف الدستور".
وقد شكل القرار الصادر منذ 47 عاماً بشأن امتيازات الرئيس حماية لترمب بدرجات متفاوتة من عدد من التحقيقات والدعاوى القضائية، بما فيها معركة استمرت عاماً كاملاً بسبب إقراراته الضريبية.
لكن مع اقتراب موعد مغادرته البيت الأبيض، أصبح موقفه ضعيفاً بشكل خاص. وقريباً، سيفقد الأمان الذي يوفره له منصبه وخدمة نائبه العام الوفي ويليام بار. كان بعض المدعين العامين يشعرون بالقلق بشكل خاص، ليس بشأن مواجهة الرئيس وحده، بل أصدقائه أيضاً. وبعد تقليص بار محكومية صديق ترمب، روجر ستون، أعربوا عن قلقهم للصحافة على انفراد، من ألا يدعمهم النائب العام. لكن هذه القيود اختفت الآن.
يخضع ترمب لـ15 تحقيقاً، منها الجنائي و المدني، من جانب تسعة أجهزة فدرالية وعلى مستوى الولايات والمقاطعات، تنظر في مؤسساته وأوضاعه المالية الشخصية بما في ذلك وضعه الضريبي وحملته، واللجنة المسؤولة عن حفل تنصيبه والجمعيات الخيرية المرتبطة به.
وعديد من هذه التحقيقات تسير قدماً بشكل منفصل. إنما بسبب فظاعة وحجم المخالفات المزعومة التي ارتكبها ترمب، تعالت الدعوات لتشكيل لجنة خاصة تحقق في الدلائل. وقال إريك سول ويل، عضو الكونغرس الديمقراطي عن كاليفورنيا "عندما ننجو من جحيم ترمب هذا، ستحتاج أميركا إلى لجنة تحقيق معنية بالجرائم الرئاسية. ويجب أن تتألف من مدعين عامين مستقلين يحققون في الجهات التي كانت وراء وصول رئيس فاسد إلى الرئاسة، وأول مثال على ذلك هو تخريب البريد من أجل الفوز بالانتخابات".
أما كين ستار، المدعي العام المستقل الذي حقق في تورط بيل كلينتون في فضيحة مونيكا لوينسكي، فقد علق خلال تحقيق مولر، أن المحقق الخاص إما سيقدم توصية بالعزل أو أن ترمب سيواجه إدانة بعد خروجه من منصبه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثم انضم ستار إلى فريق الدفاع عن الرئيس خلال جلسات المساءلة في الكونغرس، بشأن محاولات ترمب المزعومة الضغط على الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، كي يفتح تحقيقاً بشأن نشاطات أعمال ابن جو بايدن، هنتر. وقد أدان مجلس النواب ترمب بهذه التهمة، فيما ربح الرئيس القضية في مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون.
سوف تبين الأيام إن كانت الإدارة الديمقراطية سوف تسعى لمحاكمة ترمب على خلفية تقرير مولر أم لا. ظل بايدن نفسه حذراً في هذا الموضوع. لكن كامالا هاريس واصلت القول، إنه لن يكون أمام وزارة العدل "أي خيار" سوى التصرف.
قد صرحت بذلك نائبة الرئيس المنتخبة، بينما كانت تسعى للحصول على ترشيح الحزب الديمقراطي. "أعتقد أنه علينا تصديق بوب مولر عندما يخبرنا بأن السبب الوحيد إجمالاً لعدم توجيه أي اتهام في المحكمة هو مذكرة أصدرتها وزارة العدل تقول بأنه لا يمكن اتهام رئيس أثناء ولايته. لكنني رأيت النيابة العامة ترافع في قضايا استناداً إلى إثباتات أقل بكثير".
أثناء حملة 2016، قام فريق ترمب الذي قاده مستشاره للأمن القومي مايكل فلين (المُدان في تحقيق مولر في ما بعد) بالتحريض على إطلاق هتافات معادية لهيلاري كلنتون على شكل، "احبسوها" ، "هيلاري الفاسدة".
لم تُوجه أي تهم للسيدة كلينتون لكن الإدارة فتحت تحقيقاً بحق مدير مكتب التحقيقات الفدرالية السابق جيمس كومي ونائبه آندرو ماكايب. كما هدد ترمب بطرد بار إن لم يدن باراك أوباما، وجو بايدن وآخرين على خلفية الفضيحة المزعومة التي أُطلق عليها اسم "أوباماغايت" (وهي تتعلق بنظرية مبهمة تقول إن مسؤولين في إدارة أوباما ورطوا ترمب زوراً في تحقيق التواطؤ مع روسيا) وأعلن أن المحاكمة هي الخطوة التالية فور إعادة انتخابه.
في نفس السياق، أفادت تقارير أن ترمب قد يصدر عفواً لصالحه قبل مغادرته منصبه. لكن ليس واضحاً إن كان قادراً على فعل ذلك بشكل دستوري. وقد أثيرت هذه القضية خلال جلسة التصديق على تعيين القاضية آيمي كوني باريت في المحكمة العليا.
لكن حتى لو نجح في القيام بهذه الخطوة غير المسبوقة لرئيس يمنح نفسه عفواً، سوف يظل عرضة للمساءلة بشأن التهم التي يواجهها محلياً وعلى مستوى الولايات. وإحداها، من جانب مكتب النائب العام الأميركي للمقاطعة الجنوبية في نيويورك، التي وصفت ترمب بــ ("الشخص رقم 1") في التهم الموجهة ضد محاميه الخاص السابق مايكل كوهين بشأن الجرائم المالية، وذلك ضمن حملته التي تتعلق بدفع مبالغ لنساء لقاء التزامهن الصمت، حيث زعمن أنهن أقمن علاقات غرامية مع ترمب، من بينهن ستورمي دانيالز.
وادعى كوهين، الذي أقر تحت القسم بذنبه في التهم الموجهة إليه، أن ترمب أعطاه تعليمات من أجل القيام بهذه الدفعات غير القانونية وأنه استرد المبالغ التي دفعها لاحقاً من منظمة ترمب. وقد توقع المحامي السابق الذي بات بينه وترمب جفاء ومرارة، أن مديره السابق "قد يصبح قريباً أول رئيس يخرج من البيت الأبيض ليدخل السجن مباشرة".
وفي قضية أخرى، يحقق المدعي العام لمقاطعة مانهاتن، سايروس فانس الابن، في ما وصفه مكتبه "باحتمال وجود سلوك جنائي واسع النطاق وطويل الأمد في منظمة ترمب". وبالإضافة إلى إقرارات ترمب الضريبية، سوف يدقق المكتب في مزاعم تورط ترمب وشركته باحتيال مصرفي، واحتيال يتعلق بالتأمين، وتزوير ضريبي جنائي وتزوير سجلات الأعمال السابقة.
وكان ترمب وفريق محاميه قد طعنوا في مذكرة استدعاء تطالب شركة المحاسبة التي تتولى شؤونه بتقديم إقرارات ضريبية وسجلات مالية تعود إلى ثمانية أعوام مضت. وردت خمس محاكم هذا الطعن. كما خسر ترمب التماساً قدمه للمحكمة العليا طلباً للحصانة ضد مذكرات الاستدعاء الصادرة عن هيئة المحلفين الكبرى على مستوى الولاية.
ويجري المدعي العام في نيويورك كذلك تحقيقاً في احتمال قيام منظمة ترمب بالتلاعب بقيمة أصولها من أجل الحصول على قروض مالية وتسهيلات ضريبية. ومن الأمور الخاضعة للتحقيق الإعفاءات الضريبية التي استفاد منها مجمع ترمب سيفن سبرينغز Trump Seven Springs في نيويورك ونادي الغولف الوطني التابع لترمب في لوس أنجلوس. كما يُحقق في تقييم برج ترمب للمكاتب وشطب دين قيمته 100 مليون دولار أميركي (أي حوالي 76 مليون جنيه إسترليني) لصالح فندق وبرج ترمب الدولي في شيكاغو.
يقول المدعون العامون إنه تحقيق مدني ولا يُجرى بالتنسيق مع أي جهاز أمني في الوقت الحالي. لكنهم يضيفون أنه قد يتحول إلى قضية جنائية في حال ظهرت إثباتات تدعم هذا المسار. وزعم محامو منظمة ترمب من جهتهم أن المدعية العامة في نيويورك ليتيسيا جيمس تحركها دوافع سياسية، وحاولوا تأجيل إدلاء أحد أبناء الرئيس بشهادته حتى ما بعد الانتخابات. لكن المحكمة رفضت هذا الطلب وأدلى إريك ترمب أخيراً بشهادته عن بُعد.
كما يواجه ترمب دعوى قضائية من قبل ضحايا مزعومين لاعتداءاته الجنسية، مثل الصحافية إي جين كارول، التي ادعت أن ترمب اغتصبها داخل متجر في مانهاتن خلال تسعينيات القرن الماضي. وهن يقاضينه بسبب تشويه سمعتهن بعد أن اتهمهن باختلاق أحداث الاعتداء. وقد حاول ترمب الاستفادة من منصبه في هذه القضايا كذلك. فخلال الشهر الماضي، وفي خطوة خارجة عن المألوف، وضع المدعي العام ، بار، وزارة العدل في موقع الجهة البديلة عن ترمب، باعتبارها المُدعى عليه في قضية كارول.
وزعم محامو الوزارة أنه لا يجب مقاضاة ترمب، لأنه أدلى بتعليقاته بشأن كارول في "سياق رد رسمي من البيت الأبيض على أسئلة الصحافة"، مع أن ما قاله يتعلق بمسألة حدثت قبل عقود من انتخابه.
واتهم محامو كارول قرار بار بتحريف مسار البحث عن العدالة. وقالوا في بيان "لا يوجد أي شخص في الولايات المتحدة (لا الرئيس ولا غيره) تتضمن مهامه الوظيفية تشويه سمعة النساء اللواتي اعتدى عليهن جنسياً".
يبدو من غير المرجح أن تستمر وزارة العدل على منهاج ترمب، في ظل رئاسة بايدن، وقد تكون هناك رغبة بوضع حد لتلك السلوكيات، بعد البلبلة الهائلة والانقسامات التي حصلت خلال سنوات ترمب. وفي خطابه كرئيس منتخب، تكلم بايدن عن "وقت للتعافي" متعهداً بـ"عدم تقسيم البلاد بل توحيدها".
وتساءل جاك غولدسميث، الأستاذ في كلية هارفارد للحقوق، خلال مقابلة مع إذاعة إن بي آر (NPR) "هل سيعود ذلك بالنفع على الولايات المتحدة (أي محاكمة رئيس سابق)؟ سؤال صعب جداً، لكن سوف يؤدي الأمر إلى فوضى عارمة... سواء كان الأمر جيداً لإدارة بايدن (...) في أن تصبح أول إدارة على الإطلاق تحاكم رئيساً سابقاً، فهذه أسئلة من الصعب الإجابة عليها". لكن غولدسميث أقر كذلك بأنه "من غير الواضح بتاتاً أن التطلع قدماً وعدم الالتفات إلى الماضي هو خيار متاح".
وهكذا بسبب الطبيعة السامة للسياسة التي نهجها دونالد ترمب، من حيث العدوانية التي أظهرها تجاه منافسيه، أو ضخامة حجم الإدعاءات الموجهة ضده، فإنه من الصعوبة بمكان إيقاف دعوات المحاسبة القضائية ضده.
© The Independent