في مثل هذا اليوم، 17 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، اصطدمت البشرية بواحد من أكبر تهديدات الألفية الثالثة وأكثرها شمولاً وخطورة بفعل تأثيراته المباشرة وغير المباشرة على مناحي الحياة في كوكبنا: فيروس "كورونا". في غضون أسابيع قليلة، اضطرت هذه الجائحة حكومات العالم إلى إعادة هيكلة أولوياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وانهارت أنظمة رعايتها الصحية بفعل الهجمة غير المسبوقة لها، ما جعلها تتخذ قرارات سريعة متخبطة ومرتجلة في محاولة لإنقاذ ما يمكن من أرواح مواطنيها الذين وجدوا أنفسهم فجأة، في مواجهة عدو شرس قاتل وغير مرئي.
بعد عام أليم محفوف بالخسائر على الصعد كافة، باتت البشرية اليوم قاب قوسين أو أدنى من احتواء الهجمة الفيروسية إثر تمكن علماء الأحياء، المدعومين بجيش من الباحثين، من اكتشاف لقاحات فعالة مضادة. ومع اقتراب النهاية شبه السعيدة، يتساءل الكثيرون منا عن الدروس والعبر والعواقب الطويلة المدى لما جرى من أحداث خلال هذا العام، وعن نوع العالم الذي سنعيش فيه بمجرد مرور العاصفة. ففي خضم الأزمة، واجهنا كمواطنين عالميين خيارين أساسيين بشكل خاص. الأول، قبولنا المراقبة الشمولية وتمكيننا كمواطنين؛ والثاني عزلتنا القومية وتضامننا العالمي.
إشكالية المراقبة
في خضم المعركة ضد الجائحة، توجب على ساكني الكوكب الامتثال لبعض الإرشادات الحكومية الوقائية. وكان ثمة طريقان رئيسان لتحقيق ذلك: أولهما، مراقبة أجهزة الحكومة مواطنيها ومعاقبة من يخالف القواعد. وضمن هذا الإطار، نشر العديد من الحكومات أدوات مراقبة حديثة لضمان تنفيذ قرارات الحظر، ولعل أبرز هذه الحالات هي الصين.
فمن خلال مراقبة هواتف مواطنيها الذكية، واستغلال عشرات ملايين كاميرات المراقبة القادرة على التعرف إلى بصمة وجه أي شخص، ومسح حرارة أجسام الأفراد عن بعد بواسطة أجهزة استشعار مدعومة بخوارزميات متقدمة، لم يُمكن لبكين تحديد حاملي فيروس كورونا المشتبه فيهم بسرعة فحسب، بل تتبع مسار تحركاتهم وتحديد الأشخاص الذين تواصلوا معهم. ولم يقتصر هذا النوع من أساليب المراقبة على دول شرق آسيا المتقدمة تكنولوجياً، إذ امتد إلى الشرق الأوسط. فقد أذِن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في عزّ تفشي الجائحة، لـ"وكالة الأمن الإسرائيلية" (المعروفة باسم "شاباك") باستخدام تكنولوجيا المراقبة المخصصة عادة لمواجهة العمليات الإرهابية لتتبع المصابين بكورونا. وعندما رفضت اللجنة البرلمانية الفرعية المعنية بهذا الأمر منح التفويض بذلك، واجهها نتنياهو بـ"مرسوم طوارئ".
لا يخفى على أحد أن استخدام هذه التكنولوجيات ليست بالأمر الجديد، إذ درجت بعض الحكومات وشركات المعلوماتية العملاقة، خلال السنوات القليلة الماضية على استخدام خوارزميات شديدة التعقيد لتتبع المرء ومراقبته وتحليل سلوكياته الاستهلاكية. لكن كورونا قد يشكل نقطة تحول مهمة في هذا الإطار، ليس فقط لأنه قد يؤدي إلى تقبل شعبي لنشر أدوات المراقبة الجماعية في البلدان التي رفضت ذلك حتى الآن، بل لأنه يشير إلى تغير نوعي وجذري في أسلوب المراقبة من "أمام البصمة" إلى "خلف البصمة". فحتى الآن، عندما يلمس إصبع المرء شاشة هاتفه الذكي وينقر على رابط ما، فإن الحكومة تعلم بالضبط الرابط الذي نقره. لكن مع تفشي فيروس كورونا تغير الاهتمام؛ فالحكومة تريد الآن معرفة درجة حرارة إصبعه ومقدار ضغط دمه المار عبر شرايينه الدقيقة.
سوار أم قيد؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يطرح هذا التوجه الجديد إشكالية معقدة. ذلك أن لا أحد منا يعرف بالضبط كيف تتم مراقبتنا، أو ما قد تستحدثه الخوارزميات الجديدة من أساليب خلال السنوات المقبلة. إذ تتطور تقنيات المراقبة بسرعة فائقة، وما بدا خيالاً علمياً قبل عقد من الزمن بات اليوم واقعاً ملموساً. فعلى سبيل المثال تخطط شركات التقنية الحيوية لإنتاج "سوار بيولوجي" يطوّق معصم المرء، مهمته مراقبة درجة حرارة جسمه ومعدل ضربات قلبه على مدار 24 ساعة، كإجراء وقائي صحي يهدف إلى التنبؤ المبكر بأي إصابة فيروسية أو جرثومية. في المقابل ستُخزّن بيانات السوار وتحليلها بواسطة خوارزميات تتحكم بها جهات حكومية، ليمكنها معرفة ما إذا كان صاحب السوار سيصاب بالمرض حتى قبل أن يعرف هو بذلك، كما سيكشف الذكاء الصناعي أيضاً خريطة تنقله بما في ذلك الأفراد الذين التقاهم. وتحاجج شركات التقنية بأنه يمكن لهذا السوار تقصير سلاسل العدوى بشكل كبير، وحتى قطعها تماماً، فيصبح بالإمكان وقف مسار أي وباء أو جائحة في غضون أيام.
لكن لهذه التقنية جانبها السلبي والخطير. ذلك أن نظام مراقبة جديداً ومرعباً سينشأ من رحم تطبيقها. يكفينا أن نتخيل نظاماً سياسياً مثل كوريا الشمالية بعد عقد من اليوم، عندما يتعين على كل من يعيش على أرضها ارتداء سوار كهذا. إذا استمع المرء إلى خطاب للقائد الملهم، والتقط السوار علامات غضب فقد ينتهي أمره قبل انتهاء الخطبة. ذلك أن الغضب والسعادة والحزن والحب ظواهر بيولوجية مثل الحمى، ويمكن للتكنولوجيا نفسها التي تحدد الحمى أن ترصد السعادة أيضاً. وإذا بدأت الشركات والحكومات في جمع بياناتنا الحيوية جماعياً، يمكنها عندئذ التعرف إلينا بشكل أفضل بكثير مما نعرف أنفسنا. ويمكنها بعد ذلك ليس فقط التنبؤ بمشاعرنا، وإنما التلاعب بها وترويج أي شيء تريده؛ سواء كان ذلك منتجاً استهلاكياً أم موقفاً سياسياً.
بين الخصوصية والصحة
تروج بعض الحكومات لمسألة "المراقبة الحيوية" كإجراء مؤقت يتم اللجوء إليه فقط خلال حالات الطوارئ، ويختفي بمجرد انتهاء الغرض منه. لكن التدابير المؤقتة غالباً ما تدوم في بعض الأحيان، خصوصاً أن ثمة دائماً حالة طوارئ جديدة تلوح في الأفق. وحتى عندما تنخفض إصابات كورونا إلى الصفر، يمكن لبعض الحكومات المتعطشة للبيانات أن تجادل في حاجتها إلى إبقاء هذه النظم في مكانها استعداداً لموجة ثانية أو ثالثة محوَّرة، أو خشية ظهور سلالة جديدة من "إيبولا" وسط أفريقيا، أو لأي سبب آخر. لقد بدأت للتو المعركة حول خصوصية المواطن العالمي، وقد تكون أزمة كورونا نقطة تحول في هذه المعركة، فعندما يُحشر المرء في الزاوية ليختار بين الخصوصية والصحة، فإنه عادة ما يختار الصحة.
لكن إجبار المرء على الاختيار بين الخصوصية والصحة هو في واقع الأمر أصل المشكلة. إذ يمكن التمتع بالخصوصية والصحة في آن، من خلال تمكين عامة المواطنين. فعندما يتم إخبار الناس بالحقائق العلمية، وعندما يثقون في السلطات العامة، يمكن للمرء فعل الشيء الصحيح من دون مراقبة "الأخ الأكبر". وقد أثبتت التجربة العالمية الأخيرة أن المواطن المستنير صاحب الدوافع الشخصية، يكون أكثر فعالية في مثل هذه المواقف من نظيره الجاهل المُراقَب. ولتحقيق هذا المستوى من الامتثال والتعاون نحتاج إلى الثقة؛ ثقة الناس بالعلم وأهله، وبالسلطة العامة، ووسائل الإعلام. صحيح أنه على مدى السنوات القليلة الماضية، قوّض عدد من السياسيين ثقة مواطنيهم في العلم والسلطة ووسائل الإعلام، وصحيح أنه لا يمكن إعادة بناء الثقة التي تآكلت على مر عقود بين عشية وضحاها، لكن الصحيح أيضاً أنه في ساعة الأزمة، يمكن للعقول أن تتغير بسرعة.
إما العزلة وإما التضامن
الخيار الثاني المهم الذي نواجهه كمواطنين عالميين هو بين العزلة القومية والتضامن العالمي. ستكون أوبئة المستقبل والأزمات الاقتصادية الناتجة عنها مشكلتين عالميتين لا يمكن حلهما بشكل فعال إلا من خلال التعاون الدولي. ففي سبيل هزيمة أي فيروس نحتاج في الأساس إلى مشاركة المعلومات على مستوى دولي. والتي تعد الميزة الكبرى التي سيتمتع بها البشر في مواجهتهم الفيروسات. إذ لا يمكن لفيروس مستقبلي يجتاح الصين والولايات المتحدة، في آن واحد، أن يتبادل النصائح حول كيفية إصابة البشر والتغلب على إجراءاتهم. لكن يمكن لبكين أن تعطي واشنطن دروساً قيمة حول طرق انتقال الفيروس وكيفية التعامل معه. ويمكن لما يكتشفه طبيب سعودي في الرياض في الصباح الباكر أن ينقذ عشرات الأرواح في نيويورك بحلول المساء. وعندما تتردد حكومة فرنسا بين سياسات احتوائية عدة داخل مدنها، يمكنها الحصول على المشورة من حكومة اليابان التي واجهت معضلة مماثلة قبل أسبوع.
لكي يحدث هذا، نحتاج إلى روح من التعاون والثقة، وأن تكون عواصم العالم على استعداد لمشاركة معلوماتها بشكل مفتوح وأن يكون الجميع على ثقة بالبيانات التي يتم تداولها. نحتاج أيضاً إلى جهد دولي لإنتاج الأجهزة الطبية وتوزيعها، بدلاً من محاولة كل دولة القيام بذلك محلياً وتخزينها. نحتاج إلى جهد منسق يسرّع إنتاج الأجهزة الطبية ويضمن توزيعها لإنقاذ الحياة بشكل أكثر عدلاً. نحتاج إلى أن تكون الدول الغنية صاحبة الأعداد القليلة من الإصابات على استعداد لإرسال معداتها الثمينة إلى دولة فقيرة تعاني العديد من الحالات، وأن تثق في أنه إذا احتاجت إلى المساعدة لاحقاً، فسوف تتدفق هذه المعدات في الاتجاه المعاكس.
في الأزمات العالمية السابقة، مثل وباء "إيبولا" عام 2014، لعبت الولايات المتحدة دور القائد العالمي. لكن الإدارة الأميركية الحالية تخلت عن منصب القيادة، وركزت جلّ اهتمامها على شعار "عظمة أميركا" متجاهلة أي لفتة تتعلق بمستقبل البشرية. وإن لم تملأ دول أخرى الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة اليوم، فسيكون من الصعب علينا إيقاف أي جائحة مستقبلية. تقف الإنسانية اليوم على مفترق طريقين: فإما انقسام وإما تضامن عالمي. إذا اخترنا الطريق الأول، سيؤدي ذلك بنا على الأرجح إلى كوارث أسوأ وقعاً وأعمق أثراً. أما التضامن العالمي، فسيقودنا، منذ الآن، إلى الانتصار على جميع الأوبئة والأزمات المستقبلية التي تتربص بنا في القرن الحادي والعشرين.