في ما يشبه الأفلام الهوليوودية، فرّ 69 موقوفاً من نظارة قصر عدل بعبدا التابع لمحافظة جبل لبنان. وشكّل الخبر صدمة للمواطن اللبناني، ولم يتأخر البعض في وصفه "فبركة إعلامية"، أو "إشاعة". وازداد منسوب الدراما في القصة، بعد "وفاة خمسة فارين في حادث سير"، في حين يقبع شريكهم السادس في جريمة "سلب سيارة أجرة" بهدف الهروب.
في المقابل، صدر بيان عن قوى الأمن الداخلي أكد أن عدد الفارين أصبح 35 سجيناً، بعد توقيف 29 فاراً، إضافة إلى وفاة السجناء الخمسة، مؤكداً أن القوى مستمرة بالملاحقات والاستقصاءات المكثفة لإعادة توقيف جميع الفارين.
بعيداً عن روايات الحادثة وتفاصيلها، فإنها تفتح ملف السجون في لبنان؛ فالمسألة ليست مجرد عملية هروب من نظارة قصر عدل، أو قلة عديد القوى الأمنية في المكان، حيث لم يتجاوز عدد العناصر أصابع اليد الواحدة، وكذلك لم تكن في الخروج الآمن والانتشار في المناطق المحيطة، ووصول بعض الفارين إلى مناطق بعيدة في بيروت، والبقاع، وشمال لبنان، إنما القضية الأساس هي "قضية إصلاح السجون في لبنان"، معطوفة على التسريع بالإجراءات القضائية ومحاكمة الموقوفين. يختصر أحد السجناء في رومية أوضاعهم في السجن بالقول "إنه مقبرة لعدم توافر فيه أدنى حقوق الإنسان"، و"العيشة في الداخل أسوأ من حياة الحيوانات".
موقوفون لا محكومون
لا بد من التنبيه إلى ضرورة التمييز بين موقوف ومحكوم، فالموقوف هو شخص مشتبه به، ولم يصدر بحقه أي قرار قضائي، في حين المحكوم هو شخص ينفذ العقوبة. ويشتهر لبنان بوجود عدد كبير من الموقوفين بفعل بطء عمل قضاة التحقيق، وفي كثير من الحالات، ولدى بلوغ مرحلة الحكم، يكتشف أن الموقوف قضى في مركز التوقيف فترة تتجاوز الحكم الصادر بحقه.
في هذا السياق، يكشف المتخصص في العدالة الجنائية عمر نشابة، عن أن نظارة قصر عدل بعبدا تعاني الازدحام باستمرار، وبحسب المعايير الدولية تتسع لأقل من نصف الموقوفين الاعتياديين، فهي تضم 128 موقوفاً، في حين القدرة الاستيعابية يجب ألا تتجاوز 50 موقوفاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويؤكد أنه "لا يجوز أن يكون التوقيف الاحتياطي هو القاعدة، والمحاكمة هي الاستثناء"، موضحاً أن النظارة قد تكون مزدحمة لساعات في المبدأ، وذلك أمر مقبول في الحالات الاستثنائية، وبانتظار التحقيق معهم، أما تحول ذلك إلى قاعدة فهو أمر غير مقبول، لافتاً إلى أن "هناك شخصاً موقوفاً في النظارة منذ سنة".
يستهجن نشابة الحالة في نظارات قصور العدل، فهذه الأماكن يجب أن تكون أفضل حالاً من السجون، ويجب الحفاظ على نظافة الموقوف ومراعاة حسن مظهرهم، لأنه يجب أن يواجه هيئة المحكمة بصورة لائقة وبملابس مدنية.
وفي العادة تتم الإشارة إلى موقوف بجريمة عادية، وهو الذي يمكن توقيفه لمدة قصوى 48 ساعة، ويمكن تجديدها. وبين جرائم خطرة كالإرهاب التي يمكن التوقيف فيها لفترة طويلة من دون سقف زمني (المادة (108. يشير نشابة إلى أنه حتى في جرائم الإرهاب يتوجب على السلطات وضعهم في أماكن آمنة ومهيأة، ومراعاة الخصوصية الأمنية، وليس في نظارة قصر عدل، وعدم تركهم مع بعضهم البعض لفترة طويلة لأنهم بالنتيجة سيخططون للهروب عندها.
المسؤولية على من؟
لا تدخل إدارة السجون ضمن صلاحية قوى الأمن الداخلي، وإنما مهمتها حماية المباني من الخارج. كما لا تتمتع وزارة العدل بسلطة التدخل بعمل القضاء أو إلزام قضاة التحقيق بإطلاق سراح أو محاكمة موقوف. وتطالب مراجع حقوقية قضاة التحقيق باتخاذ قرارات لإطلاق سراح مشروط للموقوفين، إذ يؤمن هذا الحل المؤقت، التخفيف من ازدحام مراكز التوقيف والحد من انتشار كورونا، ولكن تبقى المخاوف من الهروب إلى سوريا عبر المعابر غير الشرعية، أو إلى المخيمات الفلسطينية.
ويوضح نشابة أنه "لا خوف من هروب الموقوفين لأن القوى الأمنية منتشرة في جميع أصقاع الأراضي اللبنانية، وهناك سيطرة من الجيش والأمن العام، والأمن الداخلي على كل المناطق"، مقترحاً إطلاق سراحهم مقابل سند إقامة، حيث يمكن مراقبتهم ومعرفة أماكن وجودهم وإلزامهم حضور الجلسات.
الوضع الكارثي للسجون اللبنانية
يروي أحد السجناء السابقين جزءاً من يومياته، ففي غرفة السجن التي تتراوح مساحتها بين 4 أمتار طولاً، ومترين عرضاً يقيم بين 6 و8 سجناء، وتتضمن داخلها المرحاض المكشوف والمغسلة، ويحظى سجين واحد بالسرير لأنه الأقدم زمنياً في المهجع، أما سائر النزلاء فيفترشون الأرض. ويوضح أن كل جناح يتألف من 12 غرفة، فيه نحو 70 سجيناً، يشتركون في التهمة الجرمية، والمرافق العامة، ويستفيدون من 4 أدشاش للاستحمام، وماكينة "تلكارت" واحدة للاتصال بالأهل. ويشكو السجناء من فقدان الخصوصية، وعدم وجود معايير الصحة والنظافة.
ويقول أحد السجناء السابقين "لا يوجد ماء ساخن، ويزودوننا بسخان كهربائي يدوي يوضع في دلو الماء لتسخينه، وهناك خشية من لمس الماء؛ لأن ذلك سيؤدي إلى خطر الصعق والموت".
يؤكد السجين ابن 31 عاماً، والأب لطفلين، أنه قضى عامين في السجن، متنقلاً بين سجون المحكمة العسكرية، والريحانية، ورومية، فقد بقي لفترة طويلة تحت الأرض في سجن الريحانية، حيث كانت مساحة الغرفة 1.8 متر بالطول، ومتراً بالعرض، ويوجد فيها ستة أشخاص. يقول "كنا ننام على أكتافنا، ولا يمكننا التحرك داخلها، وكان مكتوباً على باب الغرفة "غرفة الأمراض النفسية". ويضيف "عندما انتقلت إلى رومية رأيت الشمس لأول مرة منذ أشهر".
يستغرب السجناء عدم وجود سياسات إصلاحية لأن "الشاب قد يخطئ قبل دخوله إلى السجن، أما في الداخل فإنه يتعلم كل شيء سيئ"، واصفاً ما يجري بأنه "يدخل مجرم صغير، فيتخرج مجرماً كبيراً، وصاحب خبرة".
يتفق هذا الأمر مع ما قاله المحامي محمد صبلوح الذي أكد أن السجون اللبنانية تفتقد أي استراتيجيات إصلاحية، وهي تفاقم من سخط ونقمة السجين لأن نسبة الازدحام فيها 182 في المئة، ولا تقدم الحد الأدنى من الحقوق، وقد تم تخفيض قيمة التقديمات المعيشية إلى النصف. كما أن هناك سجناء يبيتون على معاطفهم بسبب عدم وجود الفرش، ويبقى بعضهم لسنوات من دون صدور أحكام بحقهم بسبب تأخير صدور الأحكام القضائية.
يتعاطف السجناء مع العسكر لأنهم "سجناء مثلهم"، ويشتركون في سجن واحد. كما يتعاطفون مع السجناء المقطوعين من شجرة. ويتحدثون عن زيارة أهلهم في هذا الزمن الصعب وندرة الموارد، ويمكن وصف اللقاءات بأنها "سيئة جداً من وراء شبابيك غطاها الغبار، فلا يرون سوى خيال. كما ازدادت حالات الفقر والجوع في الداخل، لأن الأهل عاجزون عن تأمين المال للسجين للشراء من حانوت السجن الذي يفترض أن تبيع السلع المدعومة، حيث "تتم تغطية عبارة سلعة مدعومة للتحكم في سعر المبيع".
مشروع إصلاح السجون
في لبنان 24 سجناً خاضعة للأمن الداخلي، ثلاثة منها بُنيت لتكون سجوناً، وهي سجن رومية المركزي الذي أطلقت عملية بنائه عام 1963، وبدأ العمل فيه 1971، وقبل انتهاء ورشة الإعمار بصورة نهائية.
وأدى توزيع مباني السجن على بعض الألوية العسكرية إلى تضييق المساحة المخصصة للسجن، وتحديداً "قيادة المغاوير"، و"اقتفاء الأثر في الأمن الداخلي"، و"موسيقى قوى الأمن الداخلي"، و"المستشفى الاحترازي". أما السجن الآخر، فهو سجن الرجال في الفاعور، زحلة، في محافظة البقاع بجهود من جمعية فرح العطاء التي يرأسها نقيب المحامين الحالي، ملحم خلف، والسجن الثالث في بنت جبيل جنوب لبنان. أما باقي السجون فقد عدلت وجهتها الأصلية لتكون سجوناً. ففي طرابلس، تحول إسطبل الأحصنة الفرنسي الواقع في منطقة القبة إلى ثاني أكبر سجن في لبنان، وكذلك سجن صور، حيث أنشئ في مبنى تراثي واقع على شاطئ البحر، ويصلح أن يكون مرفقاً سياحياً.
ولم تعد السجون تتناسب مع مرسوم تنظيم السجون 14310، الصادر في فبراير (شباط) 1949، الذي لم يعد يتناسب مع التطورات التي طرأت بفعل الزمن.
تحدث الدكتور عمر نشابة عن وقوع عبء إدارة السجون على قوى الأمن الداخلي، ويطالب بإدارة متخصصة وقانون حديث، وكذلك قيام القضاة بواجباتهم التي يفرضها القانون من قبيل "الزيارة الشهرية والدورية للاطلاع على وضع السجون والسجناء".
في المقابل، تكشف وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال ماري كلود نجم عن أن "وزارة العدل تقوم بتحضيرات لصياغة ووضع مشروع قانون جديد للسجون، والذي ينبثق عنه المخطط التوجيهي لإصلاح هذا القطاع".
بناء سجون جديدة
شهدت السنوات الأخيرة بعض المحاولات الإصلاحية والتطويرية، من قبيل تخفيض السنة السجنية للعقوبة إلى تسعة أشهر في عهد وزير العدل السابق إبراهيم نجار، وفي عهد وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق، أطلق مشروع بناء سجن مركزي في منطقة مجدليا قضاء زغرتا.
وخلال أزمة كورونا، بدأ اعتماد التحقيق الإلكتروني عن بعد، والإسراع بمعاملات إخلاء السبيل. إلا أن ذلك لم يحل مشكلة ازدحام السجون بفعل تردد قضاة التحقيق في توسيع نطاق إخلاءات السبيل المشروط بسند إقامة.
ويعتقد نشابة أن حل المشكلة لا يكون بتراشق الاتهامات السياسية واستسهال تحميل المسؤولية لشخص واحد "مدير عام الأمن الداخلي"، كما أنها لن تكون من خلال بناء سجون جديدة؛ لأنها ستمتلئ على الفور. ويبدأ الحل في نظره من خلال تشخيص واقع السجون المتردي، ووضع "قانون تنظيم جديد للسجون"، وتضمينه عناصر تمنع من عودة السجين إلى السجن مجدداً. وبالتالي، يجب التوجه نحو السياسات الإصلاحية والتأهيلية لتصحيح السلوك الجنائي، وهذا أمر غائب عن السجون في لبنان. كما أن هناك هندسة معمارية خاصة ببناء السجون يجب أن تُراعي السرية، إضافة إلى الشروط الأمنية، والصحية، والحقوقية. وفي عام 2009، وضعت الشروط الواجب اعتمادها في بناء السجون خلال عهد الوزير السابق للداخلية زياد بارود، وقد تم تزويد مجلس الإنماء والإعمار بالشروط لبناء السجون الجديدة.