إن كان المحتفلون بـ "الهالوين" يعتقدون أن الأرواح الشريرة كانت تطرق الأبواب في 31 أكتوبر (تشرين الأول)، فإن المسلمين وفي السعودية بالتحديد، كانوا إلى عهد قريب يعتقدون أنها لا تطرق الأبواب فحسب، بل تعيش في الأجساد أيضاً من دون استئذان، وعلى نحو دائم ومؤرق.
إلا أن هذا الاعتقاد بدأ بالتلاشي من ألسنة الناس اليوم، فلم يعد له أي ذكر سوى في الحكايات القديمة للجدات وكبار السن، بعدما كان يتربص بهم في المناسبات والمضاجع والخلاء، حتى بات غيابه المفاجئ يثير أسئلة كثيرة أهمها: كيف اختفى الجن من السعودية فجأة؟
زوار القرن الماضي
لكن قبل أن نبحث عن سبب الغياب، من الضروري العودة إلى سبب الظهور، فمسألة الجن ليست طارئة على الثقافة العربية بل هي جزء أصيل منها، لكن الانشغال بها حد الهوس وليدُ عقود قليلة ماضية.
فمع مطلع الثمانينيات والتسعينيات، على وجه التحديد، مروراً بالعقد الأول من القرن الحالي، كان الجن لا يغيب عن قائمة الاتهام في الاعتلالات النفسية والجسدية ودوافع الانحرافات السلوكية لدى جيل تلك الفترة، حتى بات حلول فصل الخريف أو الاستخدام المفرط لأجهزة التكييف أسباباً غير كافية لتفسير الإصابة بالإنفلونزا، إن لم تقترن بها تفسيرات "ما ورائية".
وبدورهم، كان الرقاة يساعدون في تفسير هذه الأعراض بـ "التلبس"، فيحولون المرض العضوي إلى جني عاشق اقتحم أضلاع المرضى ليعيش في أجسادهم أمداً طويلاً، وفق ما يروي زوار مجالس الرقاة.
وحتى الذين قادهم القدر إلى عدالة القضاء وأروقة المحاكم بعد استيلائهم على أموال الدولة، اتهموا جنياً يطمح إلى الثراء بأنه قادهم إلى السرقة، وكرروا في صحائف التبرير "نحن لسنا مذنبين، الجن الذي يسكننا هو السبب"، كما حصل في ما عرف في السعودية بـ "قاضي الجن"، الذي قُبض عليه بتهمة إفراغ صكوك بمليارات الريالات بطريقة غير شرعية في مدينة جدة.
ويعزو الباحث في الحركات الإسلامية خالد العضاض، تزايد الاهتمام بالجن في تلك الفترة إلى أمرين، "كثرة الرقاة وسهولة الوصول إليهم، فصار من يقدم إجابات تنتهي بالمسّ أكثر ممن يقدم إجابات تنتهي بمرض نفسي أو عضوي".
سبب آخر يرى العضاض أنه أسهم في انتشار قصص الجن وتلبسه للبشر، وهو الطفرة الاقتصادية التي شهدتها السعودية بين عامي 1969 و1980، إذ ارتفعت المداخيل المالية التي انعكست على حياة الناس، وخلقت هذه المرحلة حالتين، وفق العضاض. الأولى، تمثلت في الانعكاسات النفسية والسلوكية الطارئة، التي لم يجد لها رجال الدين الرقاة إجابة غير "الجن"، والثانية هي "الكسل، وأحد أوجهه الكسل المعرفي، الذي جعل الناس تبحث عن الإجابات السهلة وغير المعقدة لمشكلات حياتهم"، وهي أجوبة وجدت بشكل واسع في حكايات رجال الدين الذين كانوا يعيشون فترة ذهبية، مدشنين قطاعاً تجارياً جديداً يسمى "الرقية"، يتولون فيه إخراج الجن من طريق طقوس ومنتجات شعبية يبيعونها بأسعار باهظة.
قطاع الرقية التجاري
مع تشديد الحملات الرقابية على المتاجر المرخصة التي كانت تمارس نشاط بيع "منتجات الرُقية" تحت مسمى العطارة، قلّل كثير من الرقاة نشاطهم التجاري، واقتصرت عملية البيع داخل مراكزهم المسماة بـ "دار الرقية الشرعية"، وهي دور يمارس فيها رجال الدين نشاط الرقية ويقدمون منتجاتهم الـ "مقري عليها" لمرتاديهم كنشاط إضافي.
تواصلت "اندبندنت عربية" مع عدد من هذه الدور، وطلبت قائمة بالمنتجات والأسعار، وكان أبرز ما تضمنته مجموعة أطلق عليها البائع "الحقيبة العلاجية الكاملة" وتشتمل على عبوات صغيرة (ماء المحو القرآني، زيت الزيتون، زيت الحبة السوداء، عسل السدر الصافي، مسك أبيض وآخر أسود، وتمر العجوة) تمت رقيتها وتلاوة آيات قرآنية عليها، وتبلغ قيمتها 400 ريال سعودي (107 دولارات)، في حين تباع منتجات المجموعة بشكل منفصل بأسعار تراوح بين 8 و50 دولاراً أميركياً.
ومن المنتجات الرائجة "خليط السنا مكي"، وهو منتج يتكون من عشبة السنا المخلوطة بأعشاب أخرى، ويراوح سعر العبوة بين 40 و90 ريالاً (11 و24 دولاراً). ويرجع تفاوت الأسعار، وفق إحدى دُور الرقية، إلى نوع السنا المستخدم في الخلطة، إذ يختلف السعر بين الحجازي (الأغلى) والهندي والحبشي.
ومن المنتجات "غُسل الأعشاب"، وهو خليط عشبي يتكون من الملح البحري والسدر و"الشبّة" و"الشذاب"، لكن الأغرب بين هذه المنتجات هو "ماء المحو القرآني"، المائل إلى الاصفرار.
وعن ماهيته، يقول راقٍ في جدة يدعى عيد الصبحي إنه "آيات قرآنية ونصوص نبوية تكتب على ورقة باستخدام الزعفران المذاب، ثم يمحى النص بالماء أو الزيت ليقدم للمصاب بالعين ليشربها أو يغتسل بها، ويشفى بإذن الله". وهذا المنتج يباع بحوالى 30 ريالاً (8 دولارات)، في حين أن الزعفران الذي يستخدم في صناعته، بحسب الراقي، يباع بالسعر نفسه في المتوسط، الأمر الذي يشكك في مدى التزام الرقاة فعلاً بالمكونات التي يتعهدون بها.
الإعلام ضيف ثقيل
وما إن فتح الصبحي فرصة التساؤل حتى أغلقه من جديد عندما أثارت كثرة الأسئلة شكوكه، مما دفعنا إلى الكشف عن كوننا نعمل في "اندبندنت عربية"، ليتوقف بعدها عن الإجابة.
وبعد إلحاح، أبدى عدم ارتياحه للتعامل مع الإعلام، بخاصة عندما يتعلق الأمر بجانب شرعي، لأن الإعلام بحسب وصفه "لديه مشكلة مع الرقاة بسبب أزمته مع مرجعيتهم الشرعية"، على الرغم من أن أبرز انتقاد طال الرقاة كان من مفتي عام البلاد، الذي وصفهم في إحدى إطلالته التلفزيونية بـ "التجار الذين امتهنوا الرقية وهم لا يجيدون قراءة الفاتحة".
إلا أن الحديث معه عن الغش والتلاعب اللذين يحصلان في سوق الرقية، باستعراض المنتجات واحدة تلو الأخرى، دفعه إلى الانفعال والعودة لشرح المنتجات قائلاً، "خليط السنا مكي ورد فيه نص نبوي يقول (عليكم بالسنا والسنوات فإن فيهما شفاء من كل داء إلا السام)، ووصفك التعامل به بالغش يقود إلى فكرة أزمتكم مع المرجعية الشرعية".
وأضاف حول السنا مكي، "هذا علاج متفق عليه من كل الشرعيين في آخر مراحل علاج الجن، فبعد جلسات من العلاج بالقراءة وعندما يصل الجني إلى مرحلة الضعف تستخدم هذه الخلطة لإخراجه"، وهو ما يتضح نجاحه من طريق لون البراز الذي يميل إلى اللون الأخضر كدلالة على النجاح في طرد الزائر غير المرئي، وفق الصبحي.
إلا أن هذا لا يعني نهاية العلاج، فقد يتوهم المريض نجاح العملية برؤية اللون، لكن "هذا قد يكون دلالة على ولوج خادم جديد للسحر، إذ يعمد الجديد إلى تنظيف الجسد من بقايا القديم، فيصبح لون البراز أخضر"، وهو ما يبدو تكريساً لحلقة مفرغة من العلاج الذي لا نهاية له.
وعند سؤالنا له عن قبوله نشر ما ورد في المحادثة، وافق بشرط أن يمهل إلى أن يقوم بصياغة ما ورد في حديثه في رسالة مكتوبة، وأن ينقل نصاً من دون تبديل، وهو ما تم فعلاً في الجزء المتعلق بشرح تفاصيل الخلطات.
اعتراف متردد
وقبل أن نصل إلى الإجابة عن سبب توقف مسيرة الجن في أجساد السعوديين، يجب الحديث عن علي العمري، وهو راق شرعي قضى زهاء العقدين وهو يدّعي طرد الجن من أجساد مرضاه، لكنه في لحظة صادقة مع نفسه وصادمة لرفاق دربه، اعترف في حديث مثير له لا يزال يتذكره السعوديون بأنه لم يشكُ له من تلبس الجن سوى "السذج والمغفلين"... وهو اعتراف على الرغم من تأخره إلا أنه أشعل حالاً من الغضب، بخاصة لدى من عاشوا وهم المرض والخوف.
اضطرابات عقلية
يقول المتخصص في علاجات القلق والاكتئاب الدكتور مشعل العقيل، إن كثيراً من الحالات التي كان يفسرها بعض الرقاة على أنها جن هي في الحقيقة "أعراض نفسية لاضطرابات عقلية"، كما أن ثمة أعراض تحولية مثل "النوبات التي تشبه الصرع عند سماع القرآن أو الاهتزازات التي تحدث في الجسم، والتي يعتقد المريض حينها أن ثمة شخص يتحدث على لسانه".
هذه الهلاوس وأعراض ما يطلق عليه في أوساط الأطباء النفسيين "Psychogenic Seizures" هي أحد الأمراض النفسية المسببة للصرع، الذي تكفل أعراضه نجاح "الراقي في إقناعك بأن جنياً أتى من عالم آخر ليقضي بقية حياته برفقتك".
الطبيب النفسي الذي يعد ناشطاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي في السعودية، ذكر أن سبب اختفاء ظاهرة تلبس الجن التي شغلت عقول الناس في وقت سابق، تعود إلى وعيهم، إضافة إلى "القصص التي يتداولها الناس عبر مواقع التواصل، وباتت تكشف عوالم الخرافة والدجل".
يؤمن العقيل في فوائد الرقية الشرعية، لكنه يقول إن هناك "رقاة استغلوا هذا الأمر لتحقيق الشهرة والمال، ولذلك نجدهم لا يشجعون المريض على زيارة الطبيب النفسي"، بعكس الحال اليوم، حيث باتت العيادات النفسية الخيار الأول نتيجة الوعي الذي صنعه تشارك القصص بشكل موسع حول المسارين، بحسب العقيل.
واحدة من قصص كثيرة
لا يزال أبو راشد الدلبحي يتذكر قصة أخيه الذي تعرض لوابل من الضرب والنفثات من راق قال إن جنية مسّته وباتت تعيش في جسده، وحصل ذلك بين عامي 2000 و2004، كما يقول، إذ "بدأ الراقي باستخدام عود من الخيزران لضرب أخي بحجة طرد وإخراج الشياطين"، لكنه اكتشف في وقت لاحق أن ما كان يعانيه أخوه لم يكن سوى بداية أعراض مرض "التصلب اللويحي"، حيث تصاب أطراف المريض بالتنميل فيشعر بضعف في الحركة.
لكن رجل الدين ذاك، الذي اعتاد علاج الحالات بطريقة بدائية وعنيفة، لا يعرف ما هو مرض التصلب اللويحي، ولا يعرف أن التعامل معه بهذه القوة يسبب أضراراً إضافية للأعصاب، بحسب أطباء.
وتبدو حال الدلبحي اليوم، بعد 15 عاماً من جولة الرقية العنيفة، في وضع صحي أسوأ مما كانت عليه في السابق، فالمرض الذي يعانيه لا يملك حتى الطب الحديث علاجاً ناجعاً له سوى مهدئات لم تنتشله من الكرسي المتحرك والجسد الهزيل الذي بات أكثر ضعفاً، فلا نفثات الرقاة أجدت ولا حتى زيت الزيتون وعلب المياه ذات الأوراق الصفراء التي ابتاعها من دكان في قرية غير بعيدة من العاصمة الرياض.
يقول الدلبحي حول كلفة تلك الأدوية الشعبية، "آلاف الريالات صرفت من دون جدوى"، إلا أنه لم يبد أي ندم على ذلك، موضحاً "لم أندم على صرف كل تلك المبالغ ولا على ذهابي إلى الرقاة على الرغم من إثبات التجربة فشلها، إذ كنت أبحث عن حل لأخي بأية طريقة كانت، وكانت هذه إحدى الطرق المتاحة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"من يعرف جنياً يتلبسني؟"
خلال السنوات الماضية، أثيرت سجالات في السعودية حول مبدأ التلبّس ذاته وإمكان حصوله في الأساس، متجاوزة الجدل حول التفريق بين الحالات، وحينها وقف رجال الثقافة بجانب أطباء علم النفس رافضين حقيقة هذه الفكرة العتيقة، وكان من أبرزهم أحد أشهر المؤلفين وكتاب أعمدة الرأي في السعودية وهو فهد بن عامر الأحمدي، الذي أعلن في تحد شهير عبر مقال صحافي عنونه بـ "100 ألف ريال لمن يعرف جنياً يتلبسني"، لكن لم يقبل أحد بهذا التحدي، وبقي الأحمدي سليماً من علل الشيطان حتى كتابة هذا التقرير، محتفظاً بالـ100 ألف ( 26 ألف دولار أميركي) في جيبه، وهو ما فسّره في حديثه لنا، "لم يقبل أحد بالتحدي، لأن المحتال لا يود فضح نفسه".
ويضيف الكاتب، الذي مُنع كتابه "من يعرف جنياً يتلبسني" من دخول السعودية قبل أن يسمح ببيعه أخيراً، "المنع أتى في وقت كانت حتى الجهات الحكومية كوزارة الإعلام تخشى من مواجهة فريق الصحوة، الذي رسّخ في أذهان الناس مفاهيم الجن وقصصه حتى صار الأمر وكأنه مُسلم به في شريعة المسلمين"، مفرقاً من الناحية الشرعية بين "الإيمان بوجود الجن وبين إمكان دخوله في جسم الإنسان".
لكن هناك من لا يزال يدافع عن حقيقة وجود الجن وارتباطهم بالبشر، ويتحدث نايف المرشدي، وهو أحد رجال الدين في السعودية، وكان راقياً شرعياً، عن تلاشي فكرة تلبس الجن للبشر، "عدم ذكر الناس له لا يعني عدم وجوده، لكن الإعلام صرف النظر عنه بعكس السنوات الماضية".
وعلى الرغم من تركه هذه المهمة، إلا أنه يصرّ على أن الجن قادر على تلبس البشر، ويستشهد بالآية القرآنية، "الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس". وهو ما يرد عليه الأحمدي بالقول إن "أغلب الذين أناقشهم يستشهدون بهذه الآية، غير أنها خاصة بالربا حين يأتي تشبيه آكلهُ كمن يتخبطه الشيطان على سبيل المثال لا الواقع، فالقرآن استعمل تشبيهات مجازية واستعارات بلاغية كثيرة كهذه من دون أن يعني وجودها أصلاً".
تجارة الوهم
يقول نايف مدخلي، الناشط السعودي الذي أثار هذه القضية في وسائل التواصل الاجتماعي تحت وسم (#تجارة_الوهم)، إن "الوعي قاد المجتمع إلى نبذ بعض أفكار وممارسات الرقاة، ولذلك نجد أننا نعيش في زمن اختفى فيه الخوف المفرط من فكرة تلبس الجن للبشر".
ويضيف مدخلي، "الإيمان بحدوث التلبس من عدمه مسألة جدلية قديمة، أنا أحترم من يؤمن بذلك ومن لا يعترف بحدوثه، لكن المشكلة فيمن يستغل هذا الأمر لاستنزاف أموال الناس وتزييف الحقائق، وهؤلاء يمكن اعتبارهم بمثابة كهنة يتاجرون بالدين".
وعن حملته الشهيرة قال، "أطلقتها بسبب تنامي استغلال مسألة الرقية الشرعية"، إذ كانت تهدف إلى الكشف عن الرقاة والمتاجرين بالدين عبر تأليف القصص على الناس طمعاً في كسب المال، "ولم أكن لوحدي من أسهم في نجاح هذه الحملة، فالجميع كان مشاركاً معي وهذا هو سبب نجاحها".
وعلى الرغم من أن مدخلي كان تعرض لانتقادات واسعة من بعض رجال الدين، وتلقى تهديدات أيضاً كما يقول، إلا أن حملته صارت مشاعاً يشارك الجميع عبرها قصصهم، "لقد نجحنا بعد أن صارت قضية عامة، ونستطيع قول ذلك اليوم بعد أن أصبحنا في زمن اختفى فيه الخوف من الجن، بل لم يعد له مكان في عقول كثير من الناس"، واصفاً حملته بـ "الناجحة والمؤثرة".
وفي كل الأحوال، لم تعد فكرة "تلبس الجن للبشر" مدعاة للنقاش والجدل كما كانت في السابق، بعدما بات إيمان الناس بها أقل، واكتشافهم لعيادات الصحة النفسية، ولا يكاد يذكر اسم الجن وعوالمه وقصصه إلا عبر آيات "قل أوحي إليّ" عبر مكبرات المساجد أو في أفلام "الأرواح الشريرة" في صالات السينما، أو فيما تبقى من حكايا الجدات والأجداد، لنعود ونسأل لكن بشكل مختلف، "كيف اختفى الجن من السعودية بهذه السهولة؟".