لا يختلف اثنان على أن رئيس حزب الأمة السوداني الصادق المهدي الذي توفّي فجر يوم الخميس في العاصمة الإماراتية أبو ظبي عن 84 عاما،، من أبرز السياسيين والمفكرين العرب والأفارقة، إذ قدّم منذ بروزه في مطلع ستينيات القرن العشرين عطاء في مجالي السياسة والفكر، ووجد قدراً كبيراً من القبول، ولكنه لم يخلُ من نقد آخرين.
وعلى الرغم من حالة الجدل التي واجهت مسيرته الفكرية والسياسية، لكن يحسب له بأنه كان ملتزماً بنهج التصالح على المستوى القومي، مما أكسبه احترام المتشددين في انتقاده، بالتالي أوجد لنفسه كاريزما سياسية فريدة من نوعها. كما عرف بأنه من أكثر الشخصيات السياسية التزاماً بالنهج الديمقراطي، فضلاً عن بعده عن أي ممارسات فساد أو شبهات تمكين، مما زاد من رصيده وشعبيته خارج نطاق قاعدته وجماهيره.
وما أن نقل المهدي إلى الإمارات بطائرة خاصة لتلقّي العلاج بعد إصابته بوباء كورونا، بدأ القلق يسيطر على أنصاره ومحبيه، بخاصة إثر تدهور حالته خلال الـ 48 ساعة الماضية إثر اصابته بالتهاب رئوي حاد. وبإعلان وفاته، عمّ الحزن فئة كبيرة من الشعب السوداني، ونعاه مقربون من أسرته وسياسيون ومحبون وسط مشاعر أسى عميق، كما نعته الأمانة العامة لحزبه في بيان جاء فيه "إننا إذ ننعي رئيس حزب الأمة وإمام الانصار، فإننا ننعي رجلاً من أهل السودان الأوفياء الذين قدّموا وما استبقوا شيئاً من أجل خدمة الإنسانية جمعاء، نعزي أنفسنا والشعب السوداني في وفاته، ونسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته فيما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كما نعاه رئيس مجلس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك بقوله، "كان أحد رجالات الفكر والسياسة والأدب والحكمة في بلادنا، وكان دالة للديمقراطية، ونموذجاً للقيادة الرشيدة، وصفحة من الحلم والاطمئنان في زمان نحت فيه السخط وتوالت الخيبات على صدر كتاب التاريخ، وبرحيله انطفأ قنديل من الوعي يستغرق إشعاله آلاف السنين من عمر الشعوب".
كذلك نعاه رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح برهان وأعضاء المجلس، بقولهم "نحتسب اليوم رجلاً من أهل السودان الأوفياء، بذل نفسه خدمة للقضايا الوطنية والسياسية والإنسانية وظل عطاؤه متصلاً طيلة عمره المديد".
مبادئ وقيم
في المقابل، قال نائب رئيس حزب الأمة فضل الله ناصر برمة عن وفاته، "إن الأمة السودانية فقدت نجماً ساطعاً، وقمراً لامعاً، فرحيل الإمام الصادق المهدي جاء في وقت كان السودان في أمس الحاجة لحكمته، لكنه ترك خلفه الكثير من المبادئ والقيم والأخلاق التي تجعل أبناء الوطن يتماسكون من أجل الحرية التي جاهد طول حياته لإرساء دعائمها، ودفع ثمنها السجن سنوات ومرات عدة".
خبرة وحنكة
من جهة ثانية، أوضح القيادي الإسلامي أبو بكر عبد الرازق أن "الصادق المهدي، فقد كبير للبلاد في هذا الظرف الدقيق، لأنه يعدّ من كبار السياسيين الذين يحتاج الوطن إلى خبرتهم وحنكتهم، لا سيما أن السودان يمر بمرحلة انتقال تتطلب أمثال المهدي للمساهمة في تحديد ملامح الوضع الجديد، بخاصة أنه سياسي خبر معترك السياسة منذ عام 1965، وهو العام ذاته الذي بدأت فيه تحالفات وتشكيل القوى الجديدة، ممثلة بحزب الأمة والحركة الإسلامية، التي شهدت في منتصف الطريق تأرجحاً في العلاقة، لكن في السنوات الأخيرة كان الأمر على سلام ووفاق إلى حدّ كبير".
آخر ما كتبه
وكان آخر ما كتبه الصادق المهدي عن مرضه في 5 نوفمبر (تشرين الثاني)، "أصبت بداء كورونا منذ 27 أكتوبر (تشرين الأول)، فاجعة مؤلمة وضعتني في ثياب أيوب (إذ نادى ربه أني مسّني الضر وأنت أرحم الراحمين)، من ظن أنه لا يخطئ فقد أمن مكر الله. وأنا منذ دهر أردد في صلاتي اللهم إنك تتودد إليّ بنعمك وأتبغض إليك بالمعاصي، ولكن الثقة بك حملتني على الجراءة عليك، فعد بفضلك وإحسانك عليّ إنك أنت التواب الرحيم، إن ألم المرض خير فترة لمراجعة الحسابات الفردية والأخلاقية والاجتماعية، ومن تمر به الآلام من دون مراجعات تفوته ثمرات العظات".
مسيرته السياسية والفكرية
ولد الصادق المهدي في 25 ديسمبر (كانون الأول) 1935 في منطقة العباسية في أم درمان، وترقّى في سلم التعليم إلى أن وصل لجامعة الخرطوم، درس في جامعة أكسفورد ببريطانيا ونال منها شهادة بدرجة الشرف في الاقتصاد والسياسة والفلسفة.
ظهر المهدي في ساحات العمل السياسي السوداني للمرة الأولى في معارضة نظام الفريق إبراهيم عبود (1958-1964)، وفي أكتوبر 1961 توفي والده الإمام الصديق الذي كان رئيساً للجبهة القومية المتحدة لمعارضة نظام عبود.
شارك الصادق بفعالية في معارضة نظام عبود واتصل بنشاط الطلبة المعارض، كما كان من أوائل المنادين بضرورة الحل السياسي لمسألة الجنوب، حيث أصدر كتابه "مسألة جنوب السودان" في أبريل (نيسان) 1964.
وحين اندلعت أحداث 21 أكتوبر 1964، اتجه المهدي إلى اعتبارها نقطة انطلاق لتغيير الأوضاع ونجحت مساعيه في توحيد جميع الاتجاهات السياسية في السودان، وفي جمعها خلف قيادة الأنصار في بيت المهدي، وجعل هذا البيت مركز قيادة التحول الجديد.
بيد أنه قاد هذا العمل على الرغم من وجود اتجاهات وسط شخصيات ضمن كبار بيت المهدي وكيان الأنصار، كانت ترى التريث والابتعاد عن الثورة، ولكن مسار المشاركة كان غالباً، فَجَرّ الجميع إليه حتى إسقاط نظام عبود وتشكيل الحكومة الانتقالية.
وفي نوفمبر 1964، انتخب الصادق المهدي رئيساً لحزب الأمة، وقاد حملة لتطوير العمل السياسي والشعار الإسلامي وإصلاح الحزب في اتجاه الشورى والديمقراطية وتوسيع القاعدة، وواصل بعدها نشاطه ضد الحكومات المتعاقبة وجرى اعتقاله والتنكيل بالأنصار في ما يعرف بـ"مجزرة ود نوباوي والجزيرة أبا" على يد الحزب الشيوعي وقتها. واعتقل أكثر من مرة لفترات طويلة.
عقب الإطاحة بحكم الرئيس الراحل جعفر نميري في أبريل 1985، جرت انتخابات عامة في 1986، حصل حزب الأمة فيها على الغالبية، وانتخب الصادق رئيساً للوزراء، لكن قبل انتهاء فترة حكمه، نفّذ الإسلاميون في 30 يونيو (حزيران) 1989 انقلاباً ضد حكومته بقيادة عمر البشير، واعتقل مع كل القادة السياسيين في بدايات يوليو (تموز) 1989 وسجن حتى ديسمبر 1990، وحوّل إلى اعتقال تحفّظي في منزل وسمح لأسرته بمرافقته ومن ثم أطلق سراحه في 1992 لكنه منع من مغادرة الخرطوم.
وفي ديسمبر عام 1996، تمكّن من السفر سرّاً الى إريتريا والتحق بالمعارضة السودانية في الخارج، وبدأ أكبر حملة دبلوماسية وسياسية شهدتها تلك المعارضة منذ تكوينها.
وعاد المهدي إلى الخرطوم عام 2000 وأعيد انتخابه رئيساً للحزب في 2003. وانخرط بعدها في مفاوضات مع الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني) إلى أن تُوّجت بتوقيع اتفاق التراضي الوطني عام 2008.
وفي 2014، اعتقلت السلطات الأمنية الصادق المهدي بعد انتقاده قوات الدعم السريع واتهامه لها بارتكاب فظائع في دارفور، وتعالت أصوات بتوجيه اتهامات إليه تصل عقوبتها حدّ الإعدام لكن أفرج عنه بعد شهر واحد.
وفي أغسطس (آب) من العام ذاته، وقّع زعيم حزب الأمة اتفاقاً مع تنظيمات الجبهة الثورية – قوى مسلحة – للعمل على تغيير النظام باستبعاد خيار العمل العسكري وواصل نشاطه الخارجي طوال ثلاث سنوات، قبل أن تقرر أجهزة الحزب أن مهماته الخارجية انتهت، فعاد إلى البلاد في 26 يناير (كانون الثاني) 2017.
وللمهدي مؤلفات فكرية عدة، أبرزها "مستقبل الإسلام في السودان" و"الإسلام والنظام العالمي الجديد" و"السودان إلى أين؟".