"السرير" نص مسرحي نشرته المصرية صفاء البيلي منذ سبعة أعوام، وعند تحويله إلى عرض، يقدّمه حالياً "مسرح الغد" التابع لـ"البيت الفني للمسرح" (مؤسسة مصرية رسمية)، تم تغيير العنوان إلى "جنة هنا"، باعتبار أن "السرير" قد يحمل إيحاءات غير مرغوب فيها، ربما أدت إلى رفضه رقابياً.
على أن استبدال "جنة هنا" بـ"السرير" كان نوعاً من الاستسهال جانبه التوفيق، ولم يشكل إضافة إلى العرض ولم يمثّل عتبة يمكن الولوج إليه من خلالها. كل ما في الأمر أن الأم تُدعى هنا، بينما تُدعى الابنة جنة، ولا شيء أكثر من ذلك، وحتى إذا جعلنا "هنا" مضافاً إلى "جنة" باعتبار أننا بصدد جنة فيها من النعيم والهناء، فإن العرض لا جنة فيه ولا هناء، بل هو الجحيم الذي تحيا في ظله سيدتان اختفى الرجل من حياتهما وتركهما لبرودة الوحدة وقسوة العوز وجفاء المجتمع.
مفتاح رئيس
السرير في العرض هو مفتاح كل شيء، ليس بوصفه فراشاً للزوجية فقط، بل لأنه تعبير عن تقاليد بالية قيّدت المرأة وجعلتها في مكانة أدنى، ومارست قسوتها وظلمها عليها، من دون أي رفض منها أو اعتراض، أو حتى رغبة في التمرّد. وهو ما يظهر جليّاً في الصراع بين الأم (عبير الطوخي) الراضية بواقعها والصابرة على آلامها، والابنة (هالة سرور) التي تصرّ على إعلان كراهيتها للسرير ورغبتها في بيعه والتخلّص منه، بينما تصرّ الأم على الاحتفاظ به لأنها ورثته عن أمها التي ورثته بدورها عن جدتها وهكذا. وهذا ما يشير إلى أن الإرث ليس في السرير بحدّ ذاته ولكنه في تلك التقاليد والتعليمات التي تلقّنها كل أم لابنتها حتى تنعم بظلّ رجل، أيّاً كان شكل أو نوع أو طبيعة هذا الظل. فالمهم أن يكون هناك رجل في حياتها، حتى إن الأم تخفي خبر موت زوجها عن الجميع، بمن فيهم ابنتها، كي لا ينظر إليها أحد على أنها امرأة من دون رجل.
مأساة الختان
اختفى الزوج أو سافر للعمل خارج البلاد قبل أن تولد الابنة، التي يقدّمها العرض في الثلاثين من عمرها. لا شيء من رائحته في البيت سوى صورة تعلّقها الأم وتنظر إليها الابنة بنوع من الكراهية المدّعاة والمفتعلة لأن صاحبها، الذي تشير إليه دائماً بـ"هذا الرجل" ولا تقول أبي، حرمها من دفئه ولم يشكل حضناً حانياً عليها وحامياً لها. حتى إنها ارتمت في أحضان أول رجل تقابله ولم تفلح زيجتها به، وحملت لقب مطلّقة نظراً إلى برودتها الجنسية التي تسبّبت فيها مأساة ختانها الواقعة وفقاً للتقاليد. هذا ما يعمّق كراهية الابنة لتلك العادات وكل ما يتعلق بها ورغبتها الدائمة في التمرّد عليها، بينما الأم تحاول ترميم صورة الأب واختلاق مبرّرات لرحيله وذكر محاسنه ورقّته معها، وحبّه لابنته التي لم يرَها واكتفى برسالة شهرية مصحوبة بحوالة نقدية. ثم غاب تماماً، ووحدها الأم تعلم بموته، سواء كان معنوياً أو مادياً، فكلاهما سيّان.
نحن أمام عرض اجتماعي نسوي، يمرر أفكاره من خلال ذلك الديالوغ الطويل بين الأم وابنتها، صراع بين جيل قديم محافظ ومغلوب على أمره تمثله الأم التي تغذّي لدى ابنتها فكرة عودة الأب وتخفي عنها خبر موته، لتمنحها القدرة على مواصلة الحياة، وجيل جديد، تمثله الابنة، متمرّد على كل شيء ولديه مبرّرات تمرّده. جرى ذلك في مباراة تمثيلية ساخنة وأسيانة بين الطرفين: ممثلتان امتلكتا طاقة مكّنتهما من تلك القدرة على الإقناع وكأنهما تقدّمان تجربتيهما الشخصية. الأمر الذي أدى إلى احتمال طول الديالوغ بفضل التنويعات التي لعبتا عليها وكسرتا بها حدّة الملل الذي يمكن أن يتسرّب إلى الجمهور، بخاصة أن الدراما لم تكن متصاعدة بشكل رأسي يسهم في تدفّق الإيقاع وحيويته بقدر كاف. فنحن أمام حوار في الغالب، لا أحداث بالمعنى المتعارف عليه إلا قليلاً.
حلول إخراجية
وفضلاً عن الأداء المتقن والتناغم الواضح بين الممثلتين، ومنح كل منهما طاقة للأخرى تعينها على التواصل مع زميلتها، فقد لجأ المخرج محمد صابر إلى حلول متنوّعة لتجنّب ما يمكن أن تؤدي إليه طبيعة الدراما من ملل. وتمثّل ذلك في بعض مشاهد خيال الظل التي نفّذت بشكل جيد، وكذلك في بائع التحف القديمة (أحمد الشريف) الذي تميّز بحسّه الكوميدي، فكان بمثابة ابتسامة عابرة وغير مقحمة، وسط أجواء مقبضة وحزينة. فضلًا عن الأغاني (كتبها مسعود شومان ووضع ألحانها أحمد الناصر) وكانت بالفعل أبرز ما في العرض، سواء من حيث كلماتها التي اتسمت بالقوة والعمق أوملامستها برهافة شديدة لأجواء العرض وأسئلته، واستطاعت أن تكون جزءًا فاعلاً وحيويّاً فيه. وبفضلها، أصبحت لدينا وحدات عدة في العرض لا وحدة واحدة، شكلت فاصلاً ينهي وحدة أو يبدأ أخرى. ولم يأتِ ذلك كله مجانياً أو لمجرّد تأدية تلك الوظيفة فقط وإلا فقدت مبرّر وجودها. لكنها كانت أحد أبرز عناصر العرض وأكثرها دفعاً له إلى الأمام، فيما جاءت صياغة الألحان متناغمة معها وقادرة على نقل رسالتها بالقدر ذاته من العمق ومن دون أن تكون شيئاً مقحماً على طبيعة العرض وأجوائه الأكثر ميلاً إلى الحزن والشجن.
رسم على القماش
ونجحت مصممة الديكور مي زهدي في صياغة قاعة مسرح الغد بشكل جيد، فصممت منظراً مسرحياً واحداً استمر طوال العرض، وهو ديكور واقعي فيه قدر من الخيال، بحيث ضمّت الغرفة التي جرت فيها الأحداث سريراً ومقعداً هزّازاً وتسريحتين صغيرتين لزوم الزينة. واحدة تميل إلى القدم تخص الأم والأخرى أكثر حداثة للابنة، وتركت مساحة واسعة لحركة الممثلين، وكذلك الراقصين الذين قدّموا استعراضات عدة مصاحبة للأغاني (صممها حسن شحاتة). وأحاطت جانبي القاعة برسومات على القماش، بعضها طفولي بسيط، والبعض الآخر ذو دلالة تسهم في تعميق أسئلة العرض. ومنها مثلاً تلك الرسومات التي تمثل جذوع أشجار إما مقطوعة أو ذابلة، ما يعطي انطباعاً بعمق المأساة التي تحياها السيدتان. وتعمّدت في تصميمها لملابس الممثلتين أن تكون متطابقة تماماً، ما يشير إلى أن طبيعة المأساة واحدة وإن اختلفت زاوية نظر كل منهما إليها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المشهد الأخير، تموت الأم فوق سريرها، وتقدّم الابنة مونولوغاً أسياناً تفصح فيه عن حبّها للأم والأب معاً، وحاجتها إليهما حتى تزهر من جديد تلك الأشجار المتعفّنة جذورها، لكنها أبداً لا تزهر. فبينما تحتلّ صورة الأم الواجهة المقابلة لصورة الأب، تقف الابنة في بؤرة إضاءة وحيدة وسط القاعة المظلمة وكأنها الصورة الثالثة التي تعلن غياب صاحبتها. أو كأن مصيرها أن تكون مجرّد صورة معلّقة خالية من أي روح وغير قادرة على أي فعل. هكذا ينتهي العرض في مزيد من الأسى ومزيد من الأسئلة غير المُجاب عنها، حول مصير الإنسان في واقع مأزوم اجتماعياً، لم يتخلّص بعد من ميراث ثقيل، مقبض وشديد الوطء.