تواصل "التسوية"، أو "اتفاقات المصالحة"، التي جرت بين المعارضة في الجنوب السوري وقوات النظام برعاية روسية، منذ بدء تنفيذها في 6 يوليو (تموز) من عام 2018، إثبات فشلها في تحقيق تجربة التعايش بين الفريقين. وبقيت محافظة درعا الغارقة في دوامة من التفجيرات والاغتيالات والاعتقالات، محافظةً على مشاعر مُعادية لبشار الأسد، وفوضى الأسلحة المتوفرة بين أيدي سكانها، بحيث يستطيع أي أحد قتل الآخر لأي سبب. وتراجع الأسد عن وعوده بإعطاء المعارضة حكماً ذاتياً لإدارة مناطقهم، وعودته إلى الأعمال القمعية، مطالباً بطاعة شكلت أرضية خصبة للعنف وعدم الاستقرار. وإيران و"حزب الله" يعدان المنطقة الجنوبية ذات أهمية استراتيجية، وخط جبهة لأي مواجهة عسكرية محتملة مع إسرائيل.
خصوصية محافظة درعا
انطلقت من درعا شرارة الاحتجاجات ضد النظام، وهي التظاهرات التي طالبت بإسقاط النظام في 2011، وتمت مواجهتها بالقمع، قبل اندلاع النزاع الذي ما زال مستمراً حتى اليوم. وتعد درعا المنطقة الوحيدة التي لم يخرج منها كل مقاتلي المعارضة بعد استعادة النظام السيطرة عليها في يوليو 2018. وما زالت تشهد موجة اعتقالات تطول ناشطين مدنيين أو معارضين، وفق منظمة "هيومان رايتس ووتش". وتشير المعلومات أن الموقفين هم أيضاً ممن وقعوا على اتفاقات التسوية. وينقل عن السكان قولهم إن الوعود المتعلقة بالمصالحة ليست سوى كلام فارغ، حيث يواجهون الاعتقالات، والمضايقات، وسوء المعاملة، وعدم الاستقرار.
لموقع درعا الجغرافي أهمية وتأثير كبيران، في الجنوب الغربي من البلاد، حيث يحدها الأردن من الجنوب، ومحافظة القنيطرة إلى الغرب، ومحافظة ريف دمشق من الشمال ومحافظة السويداء من الشرق. وأثر هذا الموقع قرب الحدود مع الأردن ومرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل، بقوة، على الطريقة التي عادت بموجبها قوات نظام الأسد إلى هناك عام 2018، حيث تتخوف كل من الأردن وإسرائيل أن تسهل عودة النظام إلى الجنوب تموضع القوات الإيرانية والقوات الحليفة لها قرب الأراضي التي تسيطران عليها، من هذا الباب دخلت روسيا كي تشرف على اتفاق التسوية.
تسوية 2018
وضعت روسيا استراتيجيتها التي استبعدت فيها مشاركة إيران وأشرفت على مسارات الحوار النسبي، والقوة الناعمة، والتسويات. وأدت طبيعة العملية التي قادتها روسيا إلى منع استعادة سيطرة النظام الكاملة على الجنوب السوري، وأحلت مكان التمرد المفتوح نزاعات متقطعة تخرج إلى العلن أحياناً، على شكل صراعات بين الفصائل الموجودة هناك دون ترجيح كفة الغلبة لطرف ضد آخر، ما يعطيها (أي روسيا)، القدرة على التدخل كطرف راعٍ يسيطر على الأحداث في تلك المنطقة.
وكانت التسوية تقضي على تسليم المعارضة السلاح الثقيل والمتوسط على مراحل، مقابل انسحاب قوات النظام والميليشيات المساندة من بلدات الجيزة والمسيفرة والسهوة وكحيل، على أن تنسحب من بقية القرى والبلدات التي دخلتها خلال الحملة العسكرية، بالتزامن مع تسليم المعارضة للسلاح الثقيل، كان ذلك نهار الجمعة 6 يوليو (تموز) من عام 2018.
ونصت خريطة الطريق حينها على "وقف الأعمال القتالية في الجنوب بصورة فورية من الطرفين، والتعهد بضمان عدم دخول قوات النظام والأمن إلى المناطق، وعلى عودة مؤسسات الدولة المدنية إلى العمل في الجنوب، ضمن إدارة أبناء المنطقة وعودة جميع الموظفين إلى وظائفهم مع رفع العلم السوري". كما تضمن الاتفاق "تشكيل قوة مركزية مدعومة بالسلاح المتوسط لمساندة القوة المحلية في الجنوب، بالإضافة لتشكيل قوة محلية في كل منطقة لضبط الأمن". وتتكفل القوة المركزية بحماية معبر نصيب مع إمكانية تقديم ما يلزم من قبل الفصائل لتأمين الطريق من معبر نصيب، حتى خربة غزالة، وتتم إدارة المعبر الحدودي من قبل موظفين مدنيين بتأمين وحماية من قبل الشرطة الروسية، وتسليم الطريق الحربي الممتد من معبر نصيب إلى السويداء إلى قوات الأسد، لكن هذه التسوية لم تسيطر على الفوضى الأمنية، التي ترجمت باغتيالات وتفجيرات وعمليات خطف واعتقال. وعلى الرغم من أن سيطرة النظام على المحافظة تمت بمعظمها عبر "الضامن" الروسي، فإن هذا الضامن كثيراً ما يتوارى عن المشهد في المحافظة، في حين يبرز دور الميليشيات التابعة لإيران أو المدعومة منها، وسط تنافس لم يعد خافياً بينها وتلك التي تدعمها روسيا.
الوجود الروسي في الجنوب يزعج الجانب الإيراني
لطالما أشارت مصادر محلية إلى أن الوجود الروسي في الجنوب يزعج الجانب الإيراني، لأنه يحد من تمدد الميليشيات المدعومة من قبلها، في ريف درعا الشرقي، بما فيها "حزب الله؛ لذلك تريد روسيا إبقاء سيطرتها على منطقة نفوذها الأساسية شرق محافظة درعا، ومنع تغلغل إيران و"حزب الله" بشكل كامل، هادفةً من وراء ذلك إلى إيقاف عمليات التجنيد، التي تقوم بها إيران، وتقليص نفوذها في الجنوب السوري. ويرى البعض أن إيران لم تخرج أصلاً من تلك المناطق، بل أقدمت على عمليات شراء واسعة للأراضي والممتلكات، وشاركت في الإشراف على معبر نصيب الحدودي مع الأردن، فضلاً عن إطلاقها حركة تشيع نشطة في مناطق عدة من الجنوب السوري.
أعمال عنف متجددة في الجنوب السوري
كان مجهولون قد أقدموا في 14 من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي على اغتيال القياديين السابقين في "الجيش السوري الحر"، أدهم الكراد الملقب بـ"أبي قصي"، وأحمد فيصل المحاميد، وثلاثة آخرين كانوا برفقتهما، وجرت العملية بإطلاق نار مباشر، ثم ألقيت قنابل داخل السيارة بعد توقفها في أثناء عودتهم من دمشق إلى محافظة درعا. وأشارت معلومات صحافية إلى أن القيادي أدهم الكراد كان على قائمة فرع الأمن العسكري لاغتيال شخصيات قيادية في الجنوب السوري؛ ما أسهم في اندلاع أعمال عنف بين قوات النظام ومقاتلين سابقين وسط موجة من الاغتيالات، ما يكشف عن الصعوبة التي يواجهها بشار الأسد في الحفاظ على سيطرته على المناطق التي يقول إنه عمل على تهدئتها.
تصاعد العنف يكذب ادعاء الأسد "بالسيطرة"
أشارت صحيفة "الواشنطن بوست" الأميركية في تقرير لها نشر بتاريخ 24 نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي بعنوان "تصاعد العنف في مدينة سورية استراتيجية، يكذب ادعاء الأسد أنه في موقع المسيطر"، ويقول التقرير إن المعارضة استمرت في الاشتعال في درعا، حتى عندما نقلت القوات الحكومية معركتها إلى جبهات أخرى. وأصبحت الاضطرابات في الأسابيع الأخيرة أحدث تحدٍ لسلطة الأسد، في وقت يواجه فيه أكبر التحديات لسلطته منذ أن ثار السوريون ضده لأول مرة في عام 2011، بما في ذلك التوترات على مدار العام الماضي داخل أسرته ومع حلفائه الروس المهمين. هذه السلطة التي كانت تتعرض بالفعل لضغوط من أزمة اقتصادية خانقة وتزايد الخلافات داخل صفوف حلفائه التقليديين. كما أدى العنف في درعا إلى تآكل الصورة التي حاول الأسد تصويرها وهو يحث السوريين الذين فروا من البلاد على العودة إلى ديارهم في الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة، بعد وعوده بعدم إلحاق الأذى بالعائدين، لكن العديد من اللاجئين السوريين ما زالوا متشككين، لأنهم على دراية بالتقارير التي تفيد بأن بعض الذين عادوا قد اختفوا أو ماتوا في الحجز. وقتل هذا الشهر تسعة من الثوار السابقين على الأقل كانوا قد وافقوا على الالتحاق بالجيش السوري، وعاد سبعة آخرون للحياة المدنية، بحسب محمد الشرع، عضو مكتب توثيق شهداء درعا. ويعد التقرير أنه غالباً ما تكون المعلومات الموثوقة حول التطورات في سوريا نادرة بسبب الضوابط الحكومية الصارمة على وسائل الإعلام والخوف المنتشر من الدولة البوليسية، لكن مكتب التوثيق، وهو مجموعة مراقبة مقرها بلجيكا، سعى إلى تأريخ الحصيلة المتزايدة، حيث أفاد بأن 193 من مقاتلي المعارضة السابقين الذين ألقوا أسلحتهم قتلوا في درعا منذ أن استعادت القوات الحكومية المدينة في يوليو 2018. وتذكر المنظمة أن أكثر من 200 مدني آخرين قُتل بعضهم تحت التعذيب.
روسيا تغير قيادتها في الجنوب السوري
كانت قيادة القوات الروسية بسوريا قد قامت بتغيير جميع القادة العسكريين المسؤولين عن الجنوب السوري، بعدما اتهم معارضون قوات النظام بـ"تصفية قادة التسوية الروسية" جنوب سوريا، وكان أدهم كراد، أحد هؤلاء القادة. وأكدت وزارة الدفاع الروسية في وقت سابق من نوفمبر الحالي، وقوع انفجار لعبوة ناسفة يدوية الصنع في مسار تحركات وحدة تابعة لشرطتها العسكرية في محافظة درعا جنوب سوريا. وقال نائب مدير مركز حميميم لمصالحة الأطراف المتناحرة في سوريا والتابع لوزارة الدفاع الروسية، اللواء البحري ألكسندر غرينكيفيتش، في بيان صحافي "وقع انفجار لعبوة ناسفة مجهولة يدوية الصنع يوم 12 نوفمبر، خلال دورية للشرطة العسكرية الروسية رفقة وحدات من أجهزة الأمن السورية من بلدة إزرع إلى بلدة سهوة القمح في محافظة درعا، في مسار القافلة بمنطقة بلدة المسيفرة". وتقول معلومات صحافية إن المسؤول عن تنفيذ الاغتيالات، ميليشيات أبرمت عقود ارتزاق مع فرع الأمن العسكري، وإن الفرع أنشأ لواء "القدس"، وهذا الفصيل ينفذ الأعمال "القذرة" التي يخطط لها فرع الأمن التابع للنظام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الوضع في درعا يتعارض مع رواية عودة الدولة المثالي
وإذا كانت دمشق قد نجحت منذ 2015 باستعادة أكثر من 60 في المئة من مساحة البلاد، فإن الخسائر التي تكبدتها وتردي الوضع الاقتصادي يضع عوائق كبيرة أمام ضبط الوضع الأمني بسهولة في هذه المناطق، وهذا أحد الأسباب التي تجعلها تعول على فصائل المعارضة السابقة لحفظ الأمن في درعا. ويقول أليكس سايمن، مدير برنامج سوريا في شبكة "سينابس" للدراسات في بيروت "في ظل غياب إمكانيات إعادة الإعمار وإحلال الهدوء، تسعى دمشق لاستيعاب الجنوب من خلال (فسيفساء) من المجموعات المسلحة"، معتبراً أن مقاتلي المعارضة السابقين "يشكلون وكلاء مناسبين للروس والنظام". ويرى عبد الله الجباسيني، الباحث غير المقيم في معهد الشرق الأوسط، أن "النصر العسكري المعلن للحكومة السورية والعودة المادية لمؤسساتها لا يعني استعادة الأمن والاستقرار. الوضع في درعا يتعارض مع رواية عودة الدولة المثالي".
تسوية معدلة
كانت تسوية جديدة قد وضعت بعد محاولة النظام السوري تمييز "الفيلق الخامس" عن الفصائل الأخرى، في محاولة لنزع غطاء الحماية الروسية عنها، وذلك تمهيداً للاستفراد بعناصره. ويقول مصدر محلي إن الاعتقالات السابقة التي طالت عدداً من المقاتلين المنضوين في "الفيلق الخامس" من قبل النظام السوري، أفقدت الشباب الثقة بالحماية الروسية، ما جعلهم يتوجهون إلى "الفرقة الرابعة" التابعة لماهر الأسد، وغيرها من التشكيلات المدعومة من إيران، لعلها توفر لهم الحماية من المضايقات الأمنية، ما دفع بروسيا استدراك خطورة ذلك على حضورها العسكري في المحافظة، وعملت على تجديد التسوية.
والهدف من التسوية الجديدة هو ضمان عدم اعتقال عناصر الفيلق الخامس، ونصت الخطة على احتواء الشباب في درعا، لصالح النظام مقابل رواتب قليلة 45 ألف ليرة سورية (25 دولاراً أميركياً). وتنص على خدمة المقاتلين في درعا، غير أنه في حال اقتضت الضرورة، فإنهم سيجبرون على مساندة قوات النظام خارج المحافظة. أما المقاتلون الذين لم يجروا التسوية، فسيتم التعامل معهم كمطلوبين لأجهزة النظام السوري. وتؤكد المعلومات الصحافية أن عمليات النهب والخطف والإتاوات المفروضة على الناس ازدادت، وأن الوضع الأمني تراجع عما كان عليه سابقاً عندما كانت المنطقة خاضعة لسيطرة المعارضة.