تأخذ رواية "رحّالة" للروائية البولندية أولغا توكارتشوك (دار التنوير- ترجمة إيهاب عبد الحميد) في سردها صورة المذكرات اليومية. فالساردة التي لا تعلن اسمها عبر 524 صفحة ، تتناول أحداثاً شتى تتعلق بالولع بالسفر والانتقال من قارة إلى أخرى ومن ثقافة إلى ثقافة عبر حكايات لا رابط بينها سوى الراوي الذي ينقل حيناً ما يدور في نفسه من مشاعر مختلفة، وفي حين آخر قصصاً عن حكايات لآخرين، كان شاهداً عليها عبر رحلاته المتعددة. وهذا ما يعطي العمل طابعاً مفككاً قصدته الكاتبة، في آلية سرده، بسبب كثرة التنقل بين مواضيع وشخوص شتى.
تحتفي رواية "رحّالة"، وهي الأولى للكاتبة البولندية تترجم إلى العربية، بأربعة مواضيع رئيسة تتمثل أولاً في "التصعلك" بما يحويه من تمرد على العالم والقيم المتعارف عليها، وكذلك حبّ التنقل والسفر وعدم الثبات والاستقرار في أماكن معينة لوقت طويل. والموضوع الثاني هو الهوية الإغريقية التي يعتبرها الغرب جذره الحضاري. والموضوع الثالث هو التغنّي بالجسد الإنساني، أما الرابع فيتعلق بمسألة الجندر ومحاولة استكشاف الفوارق ما بين الرجل والمرأة.
تلعب أولغا توكارتشوك، الحاصلة على جائزة نوبل في الأدب عام 2018 عن مجمل أعمالها (ثماني روايات ومجموعتان قصصيتان) في "رحّالة" على تيمة التصعلك التي ترسم الجو العام للرواية ككل. وتقدم صورة غير نمطية حول السفر، عبر ما يعرف بعلم نفس السفر الذي تعطي الكثير من المعلومات حوله، مقتنعة أن الأصل في الإنسان التنقل والترحال وليس الثبوت والجمود في أماكن بعينها. وتشير إلى أن السلطات على مر العصور تعمل على قمع تحركات الناس لأن لا سلطة لهم في حالة الترحال، تفرّق ما بين طريقة تفكير الشعوب المقيمة/ المزارعين وما بين التجار والرحالة البدو والغجر.
المزراعون يفضلون مباهج الزمن الدائري الذي فيه كل حدث يجب أن يعود إلى مبتداه، يلتف على ذاته بصورة جنينية ويكرر عملية الحياة والموت. فيما كان البدو بحاجة إلى زمن يلائمهم، زمن يستجيب إلى حد أكبر لحاجات أسفارهم، زمن خطي عملي أكثر لأنه قادر على قياس التقدّم صوب هدف لا يتكرر. هذا الثبوت ترفضه الساردة حتى في اللغة التي تخلق واقعاً ثابتاً حول المدن والمعالم السياحية، على اعتبار أن الوصف تدمير للأماكن، التي هي أكثر حركية من أن تقيّدها حدود اللغة. وتضرب مثلاً على ذلك بـ"متلازمة باريس" التي تصيب غالبية السياح اليابانيين حين يزورون عاصمة فرنسا، وسماتها الشعور بالصدمة وخفقان القلب والتعرق والتهيج والهلوسة. وتفسير تلك الظاهرة يستند إلى الاختلاف ما بين توقعات هؤلاء السياح وباريس التي يجدون أنها لا تمتّ بصلة إلى المدينة الموصوفة في الكتب الإرشادية والأفلام الدعائية.
حكاية أنوشكا
تمرّد الساردة يدفعها إلى "التصعلك" والترحال، والانتقال من عمل إلى آخر، والاحتفاء بقصص مَن اختاروا هذا الطريق. ومن بينها حكاية أنوشكا، الأم التي تعبت من رعاية ابنها المريض منذ صغره، وفجأة تخرج من بيتها لتطوف في الشوارع وتحيا حياة المشردين. كما تحكي عن أن أول رحلة قامت بها كانت عبر الحقول سيراً على الأقدام، إذ قطعت وحدها مسافة طويلة وما إن رأت القوارب في النهر، تمنّت أن تعمل على أحدها أو أن تتحوّل إلى قارب... "واقفة هناك فوق السد على الضفة أحدق في التيار، أدركتُ أن الشيء المتحرك رغم كل المخاطر، أفضل من الشيء المستكين، وأن التغيير يظل دائماً أنبل من الديمومة، وأن الساكن سيتفكك ويتحلل ويتحول إلى تراب بينما المتحرك قادر على البقاء إلى الأبد".
تلك الشخصية يعجبها من الأشياء ما يظنه الناس غير كامل ولا يهتمون به، الأشياء التي تلقى في الأقبية من دون عناية تولع بها، كل ما يظنه الناس غير طبيعي تفتن به وتسافر من أجله.
وتشكل الهوية ركناً أساسياً في "رحّالة"، إلا أنها ترى أن الغرب، على اختلاف أعراقه، هو نتاج الحضارة الإغريقية، متجاهلة ما كان من قبلها من حضارات نقل الإغريق منها فلسفاتهم، أو ما بعدها من حضارة عربية نهلوا منها. وهكذا تكثر في الرواية الإحالات إلى تلك الشخصيات الأسطورية الإغريقية القديمة، فهناك الحديث عن "كعب أخيل" وعن "بوسيدون" إله البحر والعواصف والزلازل والخيول، وهو أحد آلهة الأولمب الاثني عشر في الميثولوجيا اليونانية القديمة، ويجسّد معنى الترحال. وتختم توكارتشوك روايتها بحكاية حول "كارين" المتخصصة في الحضارة اليونانية برفقة زوجها البروفيسور في زيارتهم الأخيرة إلى اليونان.
الثقافة العربية
وتحضر في الجانب الآخر ثقافات أخرى، مثل الثقافة العربية، لا تخرج عن الصورة النمطية لها في الغرب والمتأثرة بحكايات "ألف ليلة وليلة". فبذخ القصور والصراع حول العرش والزوجات والجواري، جاعلة من إحدى المرشدات تلقي على السياح حكايات على غرارها.وفي السياق ذاته، تتحدث الساردة عن فتيات عربيات التقتهن في رحلاتها مثل "ياسمين" المهتمة بالكتابة، كما تحدثت بصورة إيجابية عن النقاب، واصفة أعين اللاتي يرتدينه كأنها "أعين كليوباترا"، قائلة: "أخذتُ حافلة مع نحو عشر نساء منتقبات لم تكن تُرى إلا عيونهن عبر فتحات في أرديتهن، وقد أذهلتني دقة وجمال مساحيق تجميلهن. كانت عيون كليوباترا. كانت النساء يشربن بلطافة مياه معبّأة في زجاجات بمساعدة الشفاطات...".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي الرواية، اهتمام بالغ بعبقرية صنع الجسد البشري وما يضمه من أسرار، فالساردة متيّمة بزيارة متاحف التشريح، وتضع في روايتها ترجمات عن كيفية حفظ الجسد البشري، الذي ترى أن تحنيطه يجعله أكثر خلوداً من الروح! وتتمنى أن يأتي اليوم الذي يوضع فيه جسد المتوفى في صندوق زجاجي مكتوب عليه: "في هذا الجسد كان يسكن فلان".
وتكشف لغة الرواية عن اهتمام توكارتشوك بالتفاصيل في السرد، فالوصف يحظى بمكانة كبيرة في كتابتها، وهي تعتمد لغة ذات طابع ساخر. ولا تغفل الرواية الحديث عن قضايا مثل البيئة والاحتباس الحراري والنظريات الفيزيائية الحديثة والحياة ذات الطابع الفردي في الغرب. ولا يغيب تأثرها بالفلسفات الغربية الحديثة التي تنتمي إليها الكاتبة المابعد حداثية. فبطلة الرواية من خلال تمردها تسعى إلى الخروج على معايير وقواعد ثابتة، ومن ثم جاءت رؤيتها للحياة مفككة ظاهراً. وتعدّ هذه الرواية نموذجاً في ديمقراطية الفن الروائي وعدم ثبوت شكله. ففي منحى منها تأخذ طابع المذكرات اليومية، وفي جزء آخر تأخذ شكل كتب الرحلات، وفي جانب ثالث تعطي قصصاً قصيرة ذات حبكة، وفي جانب رابع تقدّم ترجمة لشخصيات تاريخية، وفي جانب خامس تأتي ذات بعد رسائلي، وفي سادس تطرح معلومات عن علم التشريح وعلم النفس....