تردد في الآونة الأخيرة في وسائل الإعلام الغربية وبين المحللين وتجار النفط إشاعتين، الأولى، مفادها أن الإمارات تريد الانسحاب من "أوبك" لتستطيع "أدنوك" التوسع في إنتاج النفط والغاز بحرّية، والثانية، أن السعودية ترغب في التخلي عن "أوبك" وزيادة الإنتاج إلى أقصاه، بخاصة إذا بِيع جزء أكبر من أسهم "أرامكو" للمستثمرين.
بغض النظر عن صحة هاتين الإشاعتين، من المنطقي أن تذكر تقارير اللجان المتخصصة والخبراء المكلفين برسم الرؤى المستقبلية إحدى هذه السيناريوهات، وقد يكون هذا هو سبب الإشاعات، التي قضّت مضجع عدد من المستثمرين وتجار النفط والمحللين.
أسباب استراتيجية عدة تجعل بعض الخبراء "الماليين" يقترحون خروج السعودية والإمارات من "أوبك"، أهمها أن القيام بتخفيض الإنتاج يرفع أسعار النفط أو يمنعها من الانخفاض، لكن عدم التزام الدول الأخرى بالتخفيض يعني تحقيق مكاسب على حساب الآخرين، وهذا غير مقبول.
تاريخ "أوبك"
أثبت تاريخ "أوبك" خلال 38 سنة الماضية، عمر الحصص الإنتاجية، أن الالتزام الكامل من كل الأعضاء، بشكل اختياري، نادر جداً. والواقع أن تحقيق "أوبك" أو "أوبك+" التزاماً أكبر من 100 في المئة سببه المشاكل السياسية والفنية التي أدت إلى انخفاض إنتاج بعض الدول، وإذا كانت أخرى ستستمر بزيادة الإنتاج وعدم الالتزام، لماذا تتحمل السعودية وغيرها عبء التخفيض؟
من الأسباب أيضاً أن شركتي النفط الوطنيتين في السعودية والإمارات، بخاصة "أرامكو"، لديهما طاقة إنتاجية فائضة كبيرة في الإنتاج والنقل والمعالجة والتخزين، وهي مكلفة ولا تحقق عوائد مالية إلا عند استخدامها وقت الطوارئ. فإذا تم الخروج من "أوبك" وزاد الإنتاج إلى أقصاه، يمكن إحياء "رأس المال الميت" من جهة، وتحقيق عوائد مالية من جهة أخرى.
أيضاً، إن تكلفة إنتاج النفط في دول الخليج منخفضة جداً مقارنة بغيرها، بخاصة في السعودية، والتخلي عن "أوبك" وزيادة الإنتاج يعنيان خروج المنتجين المرتفعي التكلفة من السوق، وعليه فإن الحصة السوقية للسعودية والإمارات سترتفع، وقد ترتفع معها الأسعار أيضاً، والإيرادات على المديين المتوسط والطويل.
تغيير الإنتاج
زيادة الإنتاج إلى أقصاه تعني، في كل الحالات، تعزيز قدرة شركتي "أرامكو" و"أدنوك" على التخطيط الأفضل وتحقيق كفاءة أكبر في العمليات، مقارنة بتغييره جراء اتفاقات "أوبك"، التي لا يستطاع التنبؤ بها لأن العوامل المسببة لها لا يمكن توقعها، مثل تلك السياسية والاقتصادية والطبيعية. وتنتج عن تحسن الكفاءة فورات مالية إضافية، لا تتحقق إذا استمرت السعودية والإمارات في "أوبك".
كما أن تخصيص شركات النفط الوطنية وتحولها إلى عامة، وبيع أجزاء من أصولها إلى القطاع الخاص، يتطلب التخلي عن عضوية "أوبك" وإدارة السوق وتحولها إلى شركة مثل تلك العالمية، مهمتها مصلحة المستثمرين.
البقاء في "أوبك"
يلاحظ من الأسباب المذكورة سابقاً أنها كلها أسباب مالية، مقترحة من خبراء ماليين، معرفتهم بأسواق النفط وتاريخ صناعتها ضعيفة. لهذا يمكن نقضها بسهولة، وإثبات أن البقاء في "أوبك" وإدارة السوق النفطية بهدف تخفيض الذبذبات الكبيرة هو الخيار الأفضل.
يعلّمنا تاريخ صناعة النفط العالمية على مدى 160 سنة الماضية أن عدم وجود مدير للسوق يؤدي إلى ذبذبات ضخمة تنتج منها خسائر كبيرة في اقتصادات الدول المنتجة والمستهلكة معاً. كما يفيدنا بأن أسواق النفط كانت مستقرة نسبياً عندما أُديرت من جون روكفلر، والأخوات السبع، وسكة حديد تكساس، ثم التسعير الحكومي الأميركي والأوروبي، والضرائب الحكومية على استهلاك المنتجات النفطية، و"أوبك". وعلى الرغم من أن "أوبك" أثبتت أنها أضعف مدير للسوق مقارنة بكل من سبقها بسبب تركيزها على النفط الخام فقط وعدم وجود كيان قانوني يلزم الدول الأعضاء الالتزام بالحصص الإنتاجية، إلا أن قيام السعودية وحلفائها بتخفيض أو زيادة الإنتاج بشكل منظم منع التذبذبات الكبيرة في أسواق النفط، وجنّب العالم، والاقتصادات الخليجية، كوارث كبيرة. وهدف الرياض وحلفائها الحالي تحقيق الاستقرار النسبي في الأسواق، ومن ثم، فإن الانسحاب من "أوبك" والتوقف عن إدارة السوق يعارضان هذا الهدف.
ويعلمنا تاريخ صناعة النفط أنه عندما توقفت شركات النفط العالمية عن إدارة السوق إجبارياً أو اختيارياً، أُجبرت الحكومات على التدخل وإدارة أسواقها للتخفيف من حدة التذبذب ووقف الهدر وتحسين كفاءة الإنتاج.
إدارة سوق النفط
هذا يعني أن انسحاب السعودية والإمارات من "أوبك"، لن يُنهي المنظمة فقط، لكن سيفسح المجال للصين والولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية لإدارة أسواق النفط، إما بتدخل مباشر فيها أو عبر بناء كيانات قانونية جديدة تحكمها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلينا أن نذكر أمرين. الأول، أنه فُرضت الضرائب العالية على البنزين والديزل في أوروبا، والتي تبلغ حوالى ثلثي السعر في بعضها، عندما انهارت أسعار النفط في منتصف الثمانينيات، وكلّفت دول "أوبك" خسائر كبيرة بسببها، لأن انخفاض الأسعار لم يحفّز الطلب على مشتقاتها. ما يعني أن الضرائب هي نوع من أنواع إدارة السوق ويمكن أن يتكرر إذا انسحبت السعودية والإمارات وانهارت الأسعار، و"أرامكو" و"أدنوك" لن تستفيدا من زيادة الإنتاج، بسبب تحجيم الضرائب لنمو الطلب عليه.
الثاني، أن الصين ستسيطر على أسواق النفط بما يضرّ بـ "أرامكو" و"أدنوك". فبكين تحاول بناء احتياط نفطي استراتيجي ضخم، لقناعتها أنه في يوم ما خلال الـ 100 سنة المقبلة ستقوم الولايات المتحدة أو غيرها بإغلاق مضيق ملقا، الذي تمر عبره أغلب ناقلات النفط المتجهة إلى الصين التي ستقوم بشراء مزيد من النفط لتخزينه استراتيجياً، مع زيادة الإنتاج وانهيار الأسعار.
قوانين السحب في أميركا
هناك قوانين واضحة في الولايات المتحدة تمنع الرئيس الأميركي من السحب من الاحتياط الاستراتيجي للتأثير في أسعار النفط، إلا في حال نقص الإمدادات والطوارئ. هذه القوانين غير موجودة في الصين، ومن ثم فإن حكومة بكين ستقوم بسحب كميات كبيرة من النفط من الاحتياطي الاستراتيجي مع ارتفاع أسعار النفط، تماماً كما فعلت في الربع الأخير من 2018، ينتج عنه انخفاض وارداتها منه والأسعار. وما يساعد الصين هو التغيرات الفصلية في الطلب على النفط. فإذا قامت بالسحب من الاحتياطي الاستراتيجي في الصيف والخريف، فإنها تضمن أسعاراً منخفضة في الربع الأول من العام بسبب انخفاض الطلب على النفط حينها، ما يمكنها من شرئه بسعر أقل وتخزينه مرة أخرى، وهكذا دواليك. وإذا بقيت السعودية والإمارات في "أوبك" واستمرتا في إدارة السوق، يمكنهما تحجيم ما يمكن تصديره إلى بكين، ومنعها من اللعبة المذكورة.
منافع "أرامكو" و"أدنوك"
المنافع التي تجنيها "أرامكو" و"أدنوك" من الانسحاب من "أوبك" كما سبق ذكره، فإنه يمكن الحصول عليها كلها أو أغلبها وهي داخل المنظمة، من طريق إبقاء أسعار النفط منخفضة نسبياً. وفي موضوع الكفاءة وما يخفف من الخسائر المتعلقة به، يمكنهما التركيز على حقل أو حقلين فقط في عمليتي تخفيض الإنتاج ورفعها.
دبلوماسية المنتج
الأهم من كل ما سبق هو، أن انسحاب السعودية من "أوبك" وزيادة الإنتاج إلى أقصاه، يفقدها رأس مال سياسي ضخماً، وهو المرونة في الإنتاج والطاقة الإنتاجية الفائضة، وهما سلاح دبلوماسي سياسي استراتيجي. وليست مبالغة إذا قلنا إنهما القنبلة النووية السعودية. فلماذا تريد فقدان هذا السلاح؟ طلب الرئيس الأميركي دونالد ترمب منها تخفيض الإنتاج، وشكرها على ذلك. ما يوضح المقصود من أهمية المرونة في الإنتاج. ومع إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما ووفقه زادت السعودية الإنتاج أثناء الربيع العربي، وأيضاً في عهد الرئيس جورج دبليو بوش ووالده من قبله. إذاً، هناك قيمة سياسة دبلوماسية استراتيجية لوجود مرونة في الإنتاج في الرياض والدول الحليفة لها.
الانسحاب والإنتاج
انسحاب دولة ما من "أوبك" غير السعودية ظناً منها أنها ستكون حرة في إنتاج ما تشاء، تعارضه الفكرة التالية: إذا قامت الرياض بإغراق الأسواق وتخفيض الأسعار إلى مستويات متدنية، فستنطبق على الجميع سواء كانت الدولة عضوة في "أوبك" أما لا، لذا إن كان هدفها إجبار الدول الأخرى على تخفيض الإنتاج، فهي تستطيع ذلك ولو لم يكونوا أعضاء في المنظمة، كما رأينا في الأشهر الماضية. لهذا، فإن فكرة الانسحاب من "أوبك" لأي دولة غير السعودية بحجة أنها ستكون حرة في رفع إنتاجها كما تشاء باطلة.