منذ الصفحات الأولى يبدو كتاب إيمان مرسال "في أثر عنايات الزيات" (دار الكتب خان، القاهرة) متجرداً من التصنيف، ففيه تمتزج فنون أدبية عدة: الرواية، السيرة، الجغرافيا، التاريخ، البحث الاستقصائي، بالمخيلة المتوثبة. إنه كتاب اختار أن يُصنف "بلا ضفاف" كي يحمل هويته الخاصة، وربما يُصبح في وقت ما بوصلة مرشدة لكثير من الكتابات التي تتناول حيوات من رحلوا تاركين خلفهم وخلفهنّ جمرات غافية.
كاتبة تتعقب كاتبة أخرى مضى على رحيلها ستة وخمسون عاماً، تعقباً واعياً يحدث في وضح النهار، تمشي في الشوارع التي مشت فيها، تلتقي مع من تبقى من أفراد أسرتها، مع أصدقائها، تفتح أوراقها، وتطرح رؤى كثيرة عن الأسباب التي أدت بها إلى اختيار موتها بيدها.
يُسبب هذا الكتاب اضطراباً لا يمكن الفكاك منه بسهولة، ليس فقط بسبب القصة المأساوية التي نسجت حياة ـ وممات ـ الكاتبة عنايات الزيات وأدت بها إلى الانتحار، بل لأنه يتنبه وينبه إلى زوال عالم كامل مع موت شخص، مع رحيله، مع اختياره أن يضع حداً لحياته. ويتصادف أن يكون هذا الشخص امرأة كاتبة، شابة انقصف عمرها بسبب الهشاشة الشديدة المحكومة بقسوة غائرة. إذ وسط سطح الحياة العادية المتعثرة بتفاصيل مادية بائسة يُطل واقعها ككاتبة مسكونة بعتمة داخلية مؤرقة تتسائل عن: وجودها، تفردها، عالمها الداخلي، كيانها الخاص، وانحسارها في أفقٍ ضيق، وتشظيها وعجزها عن جمع أناها الداخلية.
لا يمكن الحديث عن شخصية عنايات الزيات من دون التوقف طويلاً أمام تناول مرسال فكرة الهشاشة الداخلية التي عانت منها وجعلتها تنكسر، هشاشة مغموسة بالاكتئاب، ثم الإحساس بالعجز أمام وسط ثقافي لم يُنصف روايتها الأولى "الحب والصمت". تختار مرسال هذه اللحظة الفارقة من حياة عنايات لتبدأ بها الكتاب، لحظة تقرر الرحيل، وأن الحياة لم تعد محتملة بالنسبة لها. التفكير في انتحار الزيات في عامها الخامس والعشرين، يفرض رؤية انهيار مرحلة زمنية انتمت إليها. هذا ما يتبين أن إيمان مرسال أدركته وهي تتبع أثرها.
في هذا العمل الذي يتكون من أربعة وعشرين فصلاً، تمضي الرحلة المضنية والطويلة التي قامت بها مرسال ثم تتفرع في اتجاهات شتى، كل فرع يقود إلى آخر، وكل خطوة في الطريق تكشف عن غموض الخطوة التي تليها. ليس السؤال المؤرق فقط: "لماذا انتحرت عنايات الزيات؟" بل تتزاحم إلى جانب هذا السؤال طبقات أخرى من الأحداث والمعلومات التي تُلقي بظلالها على مرحلة كاملة في الستينيات، تجاور فيها الفن مع الأدب، والمجتمع البرجوازي مع الطبقة الاقتصادية الناشئة بسرعة، "بحكم تكافؤ الفرص".
الرحلة التي قامت بها مرسال لم تكن عن عنايات الزيات فقط، بل من خلالها نرى القاهرة، وأحياءها وشوارعها ومقاهيها، وأماكنها الفخمة وتحولاتها السريعة وانهياراتها، كل هذا يمضي جنباً إلى جنب في بحث شاق مع رحلة مرسال نفسها وحياتها وبحثها ومواجهتها عالمها. لذا يمكن اعتبار أن محاولة الإضاءة على العتمة الداخلية في رواية عنايات الزيات "الحب والصمت" التي يرد الحديث عنها كثيراً في النص، تُشكل محاولة متوازية لإضاءة العتمة الداخلية في عالم مرسال نفسه، هذا يبدو حاضراً بقوة في الفصل المتخيل الرقم "22" الذي تجتمع فيه الكاتبة مع كاتبات أخريات لتحتفل بالذكرى الست والخمسين لرحيل عنايات الزيات، وتقول في بدايته "مساء الخير يا حلوات...". تدعو مرسال في هذا اللقاء كلاً من: عائشة التيمورية وملك حفني ناصف ومي زيادة وإنجي أفلاطون ودرية شفيق وغيرهنّ، لنقرأ: "لست هنا لإلقاء كلمة عن كل منكنّ على حدة، وإلا لكان ذلك محاضرة أكاديمية، وليس احتفالاً بالذكرى. أنا عندي قصة لأحكيها. هذا عدل بعد أن قرأت قصصكنّ، اليوم ثلاثة يناير 2019، الذكرى الست والخمسين لليوم الذي قررت فيه إحداكنّ أن الحياة غير محتملة، دعوني أشعل شمعة في ذكراها أولاً".
في هذا الفصل تطلق مرسال العنان لمخيلتها الافتراضية عن انتحار عنايات وليس الواقع البحثي للقائها بالأفراد الذين عرفوا الراحلة؛ وتستخدم مرسال كلمات الشك أكثر كأن تقول: "في ظني... أخمن...". وتتوقف عند لحظة "جزّ الشعر" عند هؤلاء الكاتبات، ليكون هذا السلوك الرمزي تعبيراً عن انفعالات داخلية مفجعة. كم امرأة وقفت في لحظة ما أمام المرآة وقررت التخلص من شعرها، وكأنها تتمرد على ذاتها، لنقرأ: "كل من الحلوات اللواتي لم أتخيل متى وكيف جززن شعرهنّ أمام المرآة يعرفن هذه اللحظة حتى لو لم يخبرنها بأنفسهنّ. لحظة مواجهة المرآة وتجسّد الخواء، لحظة الرغبة في تغيير الذات بعقابها وتشويهها والتخفّف من أحد ملامحها".
ظلال الشك واليقين
يسكن الإبداع منطقة الشك، ويتحرك ضمنها. المبدع يُدرك ضمناً أن الظن بالنسبة إليه أكثر حقيقية من اليقين الجامد. هذا الافتراض يُمكن تقصيه على مستويين في النص، علاقة عنايات الزيات مع كتابتها وحياتها، وعلاقة مرسال في تناولها تفاصيل حياة عنايات.
الافتراضات منذ البداية حاضرة بوضوح: اتصال عنايات بصديقتها الفنانة نادية لطفي لتخبرها عبر الهاتف بما يفيد بقراراها بالرحيل، ثم يتبين أن هذا الاتصال لم يحدث، مع نفي نادية له.
ثلاثة من نجوم الكتابة في ذاك الزمن هم: أنيس منصور، مصطفى محمود، ويوسف السباعي، ترد تفاصيل متواترة عن تواصل عنايات الزيات معهم ومواقفهم من كتابتها، لكن كل هذه المشاهد بما فيها المقالات التي كتبها أنيس منصور، والمقدمة التي وضعها مصطفى محمود لرواية "الحب والصمت"، والحادثة التي تذكرها نادية لطفي عن يوسف السباعي وعنايات، كل هذا تضعه مرسال موضع الشك بعد مراجعة كل تفصيلة ومقارنتها بالأخرى. تقول مرسال: "كهان الأدب هو التعبير الذي كنت أبحث عنه منذ قرأت مقالات منصور عن عنايات، إنهم دائماً موهوبون، يتمتعون بالسلطة، ويعتبرون أنفسهم قضاة الثقافة، يريدون تشجيع المواهب الجديدة، ولكنهم للأسف مشغولون للغاية".
في النتيجة ليس ثمة من يملك اليقين تماماً في كل ما حدث، ربما الثابت إلى حد ما أن ما عانته عنايات في صباها المبكر من اكتئاب له جذور تعمقت في ذاتها مع مشاكل الزواج وأزمات الحصول على الطلاق وحضانة طفلها، بالتوازي مع الانتكاسة الإبداعية في رفض نشر الرواية. ربما لا تبدو هذه الأسباب بالنسبة للبعض كافية للانتحار، لكنها كذلك للروح المهزومة التي لا تجد باباً مفتوحاً يمكنها النفاذ منه.
تلتقي مرسال في رحلتها مع عظيمة الزيات، شقيقة عنايات الصغرى، ومع الفنانة نادية لطفي صديقة عنايات المقربة، هذه اللقاءات لا تؤدي فقط للكشف عن جزء من ماضي عنايات بل لمواجهة مع الطبقة البرجوازية التي لا تزال تعكس ظلال حضورها الضمني حتى الآن، في مقابل مقاربة صادقة وحساسة. لنقرأ: "هناك العائلة البرجوازية المثقفة المحافظة والعائلة المؤدلجة، والعائلة المهلهلة. الأولى تحرق الأرشيف. هذا ما حدث لأوراق عنايات بما فيها مسودة روايتها الثانية، كل ما بقي من يومياتها ورسائلها تلك المقاطع المجردة الوجودية المحلقة، لأن لا خوف منها على سمعة الأسرة ذات التاريخ والتقاليد. سمح والدها بنشر بعض المقاطع في مجلة المصور في 1967، وسمحت نادية لطفي بتضمين بعضها في حوارها مع فوميل لبيب في السنة نفسها. ثم سمحت لي أختها ونادية بأخذ الأوراق نفسها كأنها أصبحت وثائق معتمدة مع الزمن... حدث طمس لغضب عنايات، ظلت فقط السيرة الطيبة التي يريدون لها أن تبقى... ما قالوه لي كان سرداً لما تم تأليفه في الذاكرة".
واجهت إيمان مرسال الكثير من المخاوف وقدراً من بشاعة هذا العالم، وهي تكشف الستار عن نوع من العدمية العبثية، التي يعيش فيها ويتسبب بها أفراد ليست لهم علاقة بالفن بالإبداع بالجمال، بل بسياق من التحولات التي جعلت اسم عنايات الزيات يغيب من الأرشيف الرسمي، كما غاب اسمها من الكتب التي تناولت إبداعات المرأة العربية. لنقرأ: "غياب رواية عنايات عن قوائم الرواية العربية، ليس إلا ملمحاً آخر من عدمية الأرشيف. تكتب بثينة شعبان كتاباً عام 1999 عنوانه "100 عام من الرواية النسائية العربية" وتشكو فيه من تهميش الكاتبة العربية ولكنها لا تذكر "الحب والصمت" ولا كاتبتها على الإطلاق".
نقلت إيمان مرسال للقارئ ما تكشف لها من حكاية عنايات الزيات، اقتفت أثرها بصدق مُلح تمظهر في حالة الشغف الذي يسكن الصفحات والأحداث، شغف ألهمها هذا البحث المحموم للتنقيب في طيات واقع امرأة رحلت عن هذا العالم وثمة ما لم تقله بعد، وكأن هذا الكتاب يأتي وفاء لها ليضمّ ما انقطع ويكشف بعضاً مما سكتت عنه عنايات الزيات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتكون الكتاب من أربعة وعشرين فصلاً، ملحق به ثلاث صفحات ضمت المصادر التي اعتمدت عليها الكاتبة في جمع معلوماتها. ربما تجدر الإشارة أيضاً إلى رواية عنايات الزيات الثانية التي لم تكتمل، كشفتها مرسال خلال رحلة تقصيها... رواية كانت ستتناول حياة العالم الألماني لودفيغ كايمر.
اختارت مرسال في كتابها هذا الذهاب في متاهة معتمة، وفي جغرافيا زائلة، وتاريخ فُقد نصفه، تشق طريقها وسط أكوام متناثرة هنا وهناك من الحكايات والذكريات، الحقيقي منها والكاذب والمتخيل، لنقرأ الفقرة الأخيرة من الكتاب: "عنايات أيضاً كاتبة فريدة، وخيالها أكبر من تتبعي لأثرها، قلت لنفسي مثلما تركت عنايات المدرسة الألمانية وبيت الزوجية وابنها وحياتها نفسها، تركت المقبرة خلفها. هي المطرودة من الأرشيف الرسمي، والمنزوية في غرفة جانبية في مقبرة العائلة. تعرف ماذا تريد. لقد أرادت أن تظل حرة وخفيفة، بلا أرشيف شخصي ولا شجرة عائلة، ولا شاهدة على قبر. أنا مشيت في اتجاهها طويلاً. هي من ستقرر من ستمشي في اتجاههم في المستقبل".