فاقم وباء كورونا الأزمة الاقتصادية والمالية في لبنان خلال السنة الماضية، ما تسبب بصعوبات في مواجهة آثاره في نواحي الحياة كافة، كما في أنحاء العالم، أرخت بظلها حتى على المشهد السياسي المضطرب أصلاً متحكمة ببعض فصوله، لا سيما تحركات ثوار انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 فاشتركت مع عوامل أخرى في الحؤول دون استمرارها في الساحات بعد 15 فبراير (شباط) 2020، حين أعلنت الحكومة التعبئة العامة في مواجهة الوباء. وأبقت المواطنين في منازلهم لمواجهة الموجة الأولى من انتشار الفيروس، لمدة 15 يوماً مع الإقفال العام، ومنع التجول، وعادت لتعتمد خطة تحد من التنقل والاختلاط والإقفال العام في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي إثر ارتفاع الإصابات جراء الاختلاط إبان الصيف الماضي حين وفد إلى البلد عدد من المغتربين، مع تراخ في إجراءات الوقاية، على الرغم من إبقاء التعبئة العامة وخفض حركة بعض القطاعات بين فترتي الإقفال.
النتيجة الأساسية لتأثير الوباء، كانت إفادة الطبقة السياسية الحاكمة التي تعرضت للتهشيم وحملات التشهير باتهام رموزها بالفساد والهدر، لذا ظلت المخاوف من انتقال العدوى بين المتظاهرين تتحكم بفعالياتهم التي اقتصرت على مجموعات من الشباب المتحمس مع تدابير احتياطية مثل وضع الكمامة والتزام التباعد، مع صعوبة الحفاظ على حسن تطبيقها في تجمعات من هذا النوع. فالاحتجاجات العارمة التي عمت البلاد مطلع الخريف الماضي، ضد أركان الحكم لتسببهم بانهيار الوضع الاقتصادي المالي تواصلت مع تراجع وتيرتها بسبب القمع أيضاً.
ارتياح أهل الحكم
من المؤكد أن أركان الحكم والسلطة ارتاحوا لتناقص التحركات ضدهم، بعد توحد الطبقات الفقيرة والمتوسطة وتخطيها الحواجز والانقسامات الطائفية، وخوفهم من تنامي مد بشري استثنائي يُبعد شرائح اجتماعية واسعة عن زعاماتها وأحزابها التقليدية التي اعتادت اعتماد الولاءات الطائفية والعصبية العمياء لتضمن تأييدها، ولم يقتصر تأثير كورونا اللبناني على الصعيد السياسي لهذه الناحية، فقد ضرب لبنان في النصف الثاني من يناير (كانون الثاني) من العام الحالي، بعد أربعة أشهر على بدء الاحتجاجات العفوية التي أخذت تنظم صفوفها مع الوقت.
مثل كل شيء في البلاد، لا بدّ أن تطل الحساسيات الطائفية في موضوع كورونا على الرغم من أنه لم يرحم منطقة، فبداية انتشاره مثل سائر البلدان ظهرت عند رصد تزايد الحالات جراء عودة مسافرين من الخارج، لا سيما في الطائرات الآتية من إيران، التي كانت من أكثر البلدان التي شهدت انتشاراً للوباء بسبب تأخر السلطات هناك في التعامل معه، فالعائدون من زيارة الأماكن المقدسة الشيعية في قم وغيرها، ومن النجف في العراق، أصيبت نسبة منهم بالوباء، فجرى نقاش علني حول وجوب إقفال المطار للسيطرة عليه في لبنان، بينما رفضت قيادات شيعية لا سيما "حزب الله" ذلك في انتظار تمكين اللبنانيين الموجودين في الخارج من العودة، ما أخّر إقفاله أسبوعين أو ثلاثة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأحزاب سعت إلى تبييض صفحتها
اتسمت خطة الإقفال العام الأولى بقدر من الجدية، حتى في التعاطي مع العائدين من الخارج سواء بالتدابير على أرض المطار ثم في ملاحقة من ثبتت إصابتهم بعد انتقالهم إلى أماكن إقامتهم، وشملت الإجراءات تخصيص أماكن للحجر في مناطق لبنانية عدة، حيث تنافست القوى السياسية على استنفار أجهزتها من أجل تأمين وسائل نقل ومتطوعين بالتعاون مع وزارة الصحة، حتى للعائدين من بلدان أوروبية أو من أميركا الشمالية، وسعت الأحزاب إلى تبييض صفحتها مع الجمهور الذي كان ثار ضدها، بتأمين مستلزمات الوقاية للمواطنين في البداية، وساهم ذلك من جهة ثانية في نشر الوعي في القرى والأرياف.
إلا أن إجراءات الإقفال العام تركت آثاراً اقتصادية ومعيشية تكشفت بعد انتهاء المرحلة الأولى، وانعكست على مدى التزام الطبقات الفقيرة خصوصاً بالإقفال الثاني قبل أسابيع قليلة، فالفقراء عارضوه وكذلك التجار وأصحاب المؤسسات الصغيرة المتضررة أصلاً من التدهور الاقتصادي.
الإقفال زاد البطالة والفقر بعد الأزمة المالية
في بلد انهارت عملته بفعل أزمته المالية الحادة، وصار سعر صرف الدولار معرضاً للتلاعب وصولاً إلى 8500 ليرة في الأيام الماضية بعد أن كان 1500، ما أثّر على أسعار السلع الأساسية، كان أول المتأثرين المياومين الذين يعتاشون من مدخول غير ثابت، قضى الإقفال العام على قوتهم اليومي، وزاد من عجزهم عن تأمين حاجياتهم اليومية، وهؤلاء ازداد عددهم بعدما ارتفعت أعداد العاطلين من العمل جراء الأزمة الاقتصادية التي أجبرت مؤسسات كثيرة في لبنان على التوقف عن العمل إما الدائم أو المؤقت، وقدرت إحصاءات بعض مؤسسات الدراسات ارتفاع البطالة من 25 في المئة أول السنة إلى 32 أول الصيف الماضي، مع توقعات بأن تصل إلى أكثر من نسبة 60 إذا بقيت الأزمة الاقتصادية بلا معالجة نتيجة الخلافات السياسية.
فعدد المؤسسات السياحية والمطاعم والملاهي الليلية توقف عن العمل على فترات متفاوتة نتيجة انخفاض القوة الشرائية للمواطنين وانقطاع السياحة لأسباب متعددة سياسية وأخرى تتعلق بالوباء وانخفاض السفر وتدابير التباعد الاجتماعي سواء المفروضة من الدولة، أو تلك التي يلتزمها مواطنون من تلقاء أنفسهم ما زال يرتفع كل يوم.
مساعدات لمرة واحدة للأكثر فقراً
تقول مديرة "معهد باسل فليحان المالي الاقتصادي" لميا المبيض بساط في دراسة عن انعكاس كورونا على الأزمة الاقتصادية اللبنانية والتعطيل الذي نجم عنها، "تفيد التجربة العالمية مع أوبئة سابقة، مثل إيبولا، بأن السرعة في تأمين التمويل الميسّر ضرورية لاحتواء انتشار المرض. في لبنان، تم تخصيص 686 مليار ليرة لبنانية (نحو 85 مليون دولار وفق السعر الحالي للدولار) لموازنة وزارة الصحّة العامة العام 2020"، لكن دراسة المعهد قدّرت الكلفة الإضافية لعلاج المصابين بفيروس كورونا حتى آخر السنة بحسب معدل الانتشار الحالي، بنحو 43 مليون دولار، "وفي حال تفشي الفيروس بشكل كبير، (وهو ما حصل مطلع الخريف) يمكن أن تصل الكلفة الإضافية إلى 65 مليون دولار أميركي. من شأن هذا الأمر أن يفاقم حدّة الأزمة المالية لأن الحيّز المالي ضيّق أصلاً بسبب العجز المالي المتراكم".
وفي وقت خصصت الحكومة مساعدات اجتماعية فرضها تزامن التدهور المالي الاقتصادي مع كورونا، تشير المعلومات إلى أنها أمنت تمويلاً لمساعدة زهاء 350 ألف عائلة بمبلغ 400 ألف ليرة لبنانية قام الجيش بتوزيعها مرة واحدة، منتصف العام على العائلات الأكثر فقراً (أقل من 50 دولاراً وفق السعر الحالي للدولار). هذا في وقت قدرت دراسة للبنك الدولي أُعلنت ديسمبر (كانون الأول) الحالي أن نسبة الفقر قد تصل إلى 50 في المئة من الشعب اللبناني.
وبينما ينتقد الناشطون في المجتمع المدني ضعف استجابة الحكومة لمعالجة الآثار الاجتماعية للوباء، تلفت بساط إلى أن الدولة استجابت بسرعة للأزمة عبر إجراءات قضت بتمديد جميع المهل المتعلقة بدفع الضرائب والرسوم، وإنشاء صندوق وطني للتضامن يقبل التبرعات العينية والنقدية، وتعليق المهل القانونية والقضائية والعقدية، وغيرها.
صمود النظام الصحي والنزف المالي
من زاوية علاقة الأزمة الاقتصادية بوباء كورونا، عانى لبنان من مشكلة توافر العملات الصعبة لاستيراد المعدات واللوازم الطبية إذ يستورد 100 في المئة معداته الطبية، وفي ظل نقص السيولة بالدولار الأميركي، لا تستطيع الحكومة شراء ما يكفي من المعدات واللوازم لمعالجة حالات المرض في حال توسع تفشيه، ما قد يتسبب بعبء على المستشفيات التي تعثر تسديد الخزينة اللبنانية ما تدين به لها من مبالغ طائلة، وعلى المواطنين (بحسب منظمة رصد حقوق الإنسان 2020).
يشير أحد مسؤولي الأمم المتحدة إلى أنه لولا القدرات السابقة، المعقولة للنظام الصحي اللبناني وخبراته، لكانت مواجهة الوباء كارثية، إلا أن الأزمة المالية تسببت بنزف في القطاعين الطبي والتمريضي بحكم الشح المالي فهاجر كثيرون إلى الدول الغربية والخليجية. والمفارقة أن بعض القطاع الخاص شهد مبادرات سريعة لمحاولة تأمين بعض المستلزمات الطبية مثل الكمامات ووسائل التعقيم، وأجهزة التنفس لغرف العناية الفائقة، إضافة إلى مساعدات تلقاها من دول صديقة وعربية ومنظمة الصحة العالمية من أجل سد النقص الناجم عن الشح المالي، تسارعت وتيرتها بعدما حرّك انفجار الرابع من أغسطس (آب) في مرفأ بيروت الكارثي المجتمع الدولي نتيجة المأساة الإنسانية التي سببها. وصاحب تقاطر الموفدين الدوليين، بعد مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة بيروت والمرفأ في اليوم الثالث للانفجار كمية من المساعدات الطبية للتعويض عن إصابة أربعة مستشفيات أساسية لكل منها حصته في معالجة مرضى كورونا.
لكن الأهم على الصعيد السياسي، أن خريطة الطريق التي اقترحها ماكرون على القيادات اللبنانية وتتضمن خطوات إصلاحية وسياسية للخروج من الأزمة نصت في البند الأول منها على "إعداد خطة لمكافحة الجائحة وأن تتضمن دعماً للأشخاص الأكثر هشاشة، وتعزيز الحماية الاجتماعية".