هل استجابت قيادة الجيش السوداني للحراك الشعبي الذي بدأ في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018، احتجاجاً على رفع الحكومة أسعار الوقود والخبز ثم تحوّل إلى مطالب بتنحي الرئيس عمر حسن البشير الذي حكم البلاد منذ ثلاثين عاماً؟
هذا ما ينتظر الجميع وضوحه، خصوصاً منذ أعلن التلفزيون والإذاعة السودانيان الرسميان، في الخامسة من صباح الخميس 11 أبريل (نيسان)، أن الجيش سيعلن بياناً مهماً.
على الرغم من ذلك لم ينتظر المواطنون السودانيّون البيان الذي وعدت به القوات المسلّحة، ونزلوا بالآلاف إلى الشوارع، وتوافدوا إلى الساحات ولاسيما إلى محيط وزارة الدفاع، حيث يستمر الاعتصام منذ الجمعة 5 أبريل.
وفي الأثناء، ناشد تجمع المهنيين السودانيين، المنظم الرئيس للاحتجاجات، "المواطنين في العاصمة والأقاليم إلى التوجه إلى أماكن الاعتصامات أمام القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة والحاميات". ودعا "الثوار في الميدان إلى عدم التحرك من مكان الاعتصام حتى بياننا التالي خلال اليوم". وذلك لحماية الحراك وفي انتظار جلاء موقف الجيش وإذا ما كان ما جرى انقلاباً عسكرياً أو فعلاً يفتح الباب لتغيير سلمي بإدارة حكومة مدنية.
في الأثناء، أكدت مصادر حكومية سودانية، لوكالة رويترز، تنحي البشير وإجراء مشاورات لتشكيل مجلس انتقالي.
في ضوء ذلك، وبعد استقالة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة تحت ضغط الحراك الشعبي الشبابي، يبدو أبريل 2019 ربيعياً، فكيف سينتهي هذا الفصل المتجدد أو ما الذي سيليه؟
عزل البشير
وإذ تأخرت القوات المسلحة في إعلان "الانقلاب"، أُعلن إغلاق مطار الخرطوم ومنع الطائرات من المغادرة والاكتفاء باستقبال الطائرات الوافدة، وترددت معلومات عن وضع الرئيس عمر حسن البشير قيد الإقامة الجبرية، وتوقيف عدد من مسؤولي الصف الأول.
وأفادت معلومات بأن القيادة العسكرية أبلغت البشير الأربعاء ليلاً 10 أبريل بقرار عزله، فيما لم تُعرف بعد أسماء "الجنرالات" المنفذين.
وكان عدد من الضباط دخلوا صباح الخميس مقر الإذاعة السودانية الرسمية وطلبوا وقف برامجها وبث الأناشيد الوطنية وإعلان أن القوات المسلحة ستعلن بياناً مهمّاً. وكذلك فعل التلفزيون الرسمي.
وقال شاهد من وكالة رويترز إن الجيش السوداني نشر قوات في محيط وزارة الدفاع بينما انتشر جنود وأفراد أمن على طرق وجسور رئيسية في العاصمة الخرطوم في وقت مبكر الخميس.
خروقات وعقوبات
ويأتي هذا التطور بعد نحو خمسة شهور من أضخم احتجاج شعبي على حكم البشير، وبعد نحو أسبوع من اعتصام حاشد في محيط مقر وزارة الدفاع ومقر البشير في الخرطوم، وقد شهد تبايناً بين الجيش والقوات الأمنية، إذ رفض الجيش قمع الأمن المعتصمين وإبعادهم وتدخّل لمنع استخدام قوى الأمن العنف. وعلى الرغم من ذلك أُطلق الرصاص والغاز المسيّل للدموع على المتظاهرين. وأعلنت المعارضة مقتل نحو 20 شخصاً وجرح نحو 50.
وشهد حكم البشير اتهامات بخروقات لحقوق الإنسان. وفي عامي 2009 و2010 وجهت المحكمة الجنائية الدولية إتهامات له بالإبادة الجماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وصدرت مذكرة اعتقال في حقه.
واتهمت السلطات السودانية باعتقال النشطاء البارزين واستهداف الأطباء، وهو ما تنفيه قوات الأمن السودانية.
وكان العام 2018 شهد معدلات تضخم مرتفعة، وتدهورت قيمة الجنيه السوداني بصورة كبيرة.
ويعاني اقتصاد السودان (نحو 40 مليون نسمة) منذ فرضت الولايات المتحدة عقوبات على البلاد منذ 20 عاماً، متهمة الخرطوم بدعم جماعات إرهابية.
مفاجأت البشير
وفي 22 فبراير (شباط) 2019 بدا كما لو أن البشير سيستجيب للمتظاهرين ويتنحى، ولكنه أعلن حالة الطوارئ في البلاد والانسحاب من قيادة حزب المؤتمر الوطني الذي آلت قيادته إلى أحمد هارون المقرّب من البشير ومساعده ووزير دفاعه.
وقبل أيام فاجأ البشير المحتجيّن والمعارضة، إذ عاد إلى ترؤس اجتماعات المكتب القيادي للمؤتمر الوطني.
وعزا مراقبون ذلك إلى تصاعد مخاوف البشير من المؤسسة العسكرية بعد انحيازها للمتظاهرين ومنع فض اعتصامهم من أمام مبنى القيادة العامة للجيش في الخرطوم بالقوة.
المعارضة تدعو العسكر
وتوالت منذ أيام، في أوساط المعارضة والمحتجّين، أصوات تدعو الجيش إلى التدخل على مستويين هما حماية الاحتجاجات والمتظاهرين، وإدارة مرحلة انتقالية تقوم على تنحية البشير وتنظيم حوار سياسي.
ودعا الصادق المهدي رئيس حزب الأمة المعارض، الثلثاء 9 أبريل، إلى "تسليم السلطة إلى قيادة عسكرية مختارة مؤهلة للتفاوض مع ممثلي الشعب لبناء النظام الجديد المؤهل لتحقيق السلام والديمقراطية". وأكد المهدي خلال مؤتمر صحافي أن الحل الأمثل يكمن بالاستجابة لمطالب الشعب بتنحي النظام ورئيسه، مشيراً إلى أن الأسرة الدولية تتطلع إلى الاستقرار والسلام في البلاد، وأكد المهدي أن قوى المعارضة السودانية موحدة وفي أفضل حالاتها. وقال "لم تقدّم أية جهة أجنبية مساعدة للمحتجين".
في الأثناء، أكدت قوى "إعلان الحرية والتغيير" المساندة للاحتجاجات استعدادها للتواصل المباشر مع القوات المسلحة السودانية لتيسير عملية الانتقال السلمي للسلطة.
وأعلن رئيس حزب المؤتمر السوداني عمر الدقير عن التمسك بمطلب الشعب الداعي إلى تنحي الرئيس البشير وحكومته فوراً من دون قيد أو شرط، وأعلن تكوين مجلس من قوى "إعلان الحرية والتغيير" وقوى الثورة التي تدعم الإعلان، يتولى مهمات الاتصال السياسي مع القوات النظامية والقوى الفاعلة محلياً ودولياً من أجل إكمال عملية الانتقال السياسي وتسليم السلطة لحكومة مدنية انتقالية متوافق عليها.
تاريخ الانقلابات
استقل السودان من الاستعمار البريطاني في عام 1956، وتخلل تاريخه مذاك العديد من الانقلابات.
بدأ مسلسل الانقلابات مع أول حكومة ديمقراطية منتخبة في عام 1956، ووقعت أول محاولة انقلابية في تاريخ البلاد في عام 1957، قادتها مجموعة من ضباط الجيش والطلاب الحربيين بقيادة إسماعيل كبيدة، ضد الحكومة الوطنية الأولى بعد الاستقلال برئاسة الزعيم السوداني إسماعيل الازهري، ولكن المحاولة احبطت في مراحلها الاخيرة.
وفي 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 1958 نجح الانقلاب العسكري الأول بقيادة الفريق إبراهيم عبود ضد حكومة ائتلاف ديمقراطية بين حزب الامة والاتحادي الديمقراطي يرأسها مجلس السيادة المكون من الزعيم الازهري ورئاسة الوزارة الاميرلاي عبد الله خليل.
وشكل الانقلابيون حكومة عسكرية برئاسة عبود، حكمت البلاد بأسلوب شمولي دكتاتوري استمر لمدة 7 سنوات تخللته محاولة انقلاب قادتها مجموعة ضباط اشهرهم أحمد عبد الوهاب وعبد الرحيم شنان ومحيي الدين أحمد عبد الله، وهي المحاولة الفريدة والوحيدة التي يتم فيها استيعاب الانقلابيين في نظام الحكم بدلاً عن اقتيادهم إلى المشانق أو الزج بهم في السجون في افضل الأحوال.
وقد شجع هذا التعامل المرن مع الانقلابيين على تدبير انقلاب آخر ضد عبود قاده الرشيد الطاهر بكر المحسوب على التيار الإسلامي في البلاد، ولكن هذه المرة تعامل نظام عبود معه بالحديد والنار، إذ أعدم 5 من قادته شنقاً حتى الموت، وزج بالآخرين في غياهب اعتى سجن في الخرطوم وهو سجن كوبر الواقع في الخرطوم بحري. وظل عبود من بعد يحكم في هدوء إلى أن اطاحت به في 21 اكتوبر (تشرين الاول) 1964 أكبر ثورة شعبية في تاريخ البلاد لتأتي حكومة ديمقراطية جديدة.
وشهد السودان أشهر انقلاب عسكري في 25 مايو (آيار) 1969 قاده العميد آنذاك جعفر محمد النميري ومجموعة من الضباط المحسوبين على الحزب الشيوعي والقومية العربية، ومن أبرز قادة الانقلاب اللواء خالد حسن عباس، وزين العابدين محمد عبد القادر، وأبوالقاسم محمد إبراهيم، وأبو القاسم هاشم، وهاشم العطا، وبابكر النور، وفاروق حمدنا الله. واسس النميري على الأثر نظامه القابض الذى امتد لـ16 عاماً ليعرف هذا الانقلاب بأنه أكثر الانقلابات تأثيراً في البلاد.
لكن حكم النميري على الرغم من تحسباته للانقلابات مستفيداً من التجارب السابقة على ما يبدو شهد محاولات كثيرة فشلت جميعها، ولكنها حولت العاصمة السودانية إلى برك دم، وأشهر الانقلابات على النميرى ما نفذه رفقاء دربه في انقلاب مايو من المنتمين مباشرة إلى الحزب الشيوعي في 19 يوليو (تموز) 1971، عرف بانقلاب هاشم العطا، الذي استولى جزئياً على العاصمة الخرطوم لمدة يومين، لكن النميري استطاع أن يعيد سلطته وينصب مشانق للانقلابيين من المدنيين والعسكريين وطاولت كلا من زعيم الحزب الشيوعي السوداني آنذاك عبد الخالق محجوب، ومساعده الشفيع أحمد الشيخ، وبابكر النور وآخرين من المدنيين ومن الضباط قائد الانقلاب هاشم العطا وعشرات من الضباط والجنود.
وفي عام 1975 وقعت محاولة انقلابية أخرى فاشلة بقيادة الضابط حسن حسين ولقي الانقلابيون على رأسهم المدبر حسين حتفهم رميا بالرصاص أو شنقاً حتى الموت.
وفي 2 يوليو 1976 حاولت القوى السياسية المعارضة لنظام النميري التي كانت تنطلق من ليبيا قلب نظام الحكم، وأوكلت المهمة للعميد في الجيش محمد نور سعد بمشاركة واسعة من عناصر المعارضة تسللت إلى الخرطوم عبر الحدود مع ليبيا، وقد تعامل نظام النميري مع المحاولة بعنف غير مسبوق، حيث أعدم قائده محمد نور رميا بالرصاص وحول شوارع الخرطوم لمدة يومين إلى ساحة معارك مع الانقلابيين اسفرت عن مقتل المئات.
ولم يتعرض نظام النميري بعد ذلك لأية محاولة انقلابية الى ان عصفت به ثورة شعبية في 6 أبريل 1985 عرفت بـ"انتفاضة أبريل".
وتناحرت الاحزاب من جديد ونشطت خصوبة الارض لنشوء الانقلابات العسكرية في البلاد فجاء انقلاب الرئيس عمر البشير في 30 يونيو (حزيران) العام 1989 بمساعدة الاسلاميين في السودان بزعامة الدكتور حسن عبد الله الترابي وحزبه المعروف انذاك بالجبهة الاسلامية القومية. وقد تعرض نظام البشير لمحاولات انقلابية عدة خصوصاً في بداية عهده، أشهرها المحاولة التي عرفت بـ"انقلاب رمضان" في 1990 بقيادة اللواء عبد القادر الكدرو، واللواء الطيار محمد عثمان حامد، وهي المحاولة التي انتهت باعدام 28 ضابطاً في الجيش المشاركين فيها بمن فيهم قائدا الانقلاب، الكدرو وحامد.
ووقعت في عام 1992 محاولة انقلاب بقيادة العقيد أحمد خالد نسبت إلى حزب البعث السوداني وقد حسمها الرئيس البشير عاجلاً وتعرض قادتها إلى السجون.